وأخيرا، عرف مشروع القانون المتعلق بالتوطين رقم 13.68، الذي أعدته وزارة الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي في غضون سنة 2011، تقدما كبيرا بوصوله إلى مرحلة التصويت عليه من لدن البرلمان. وكانطباع عام، فإن هذا المشروع، الذي جاء لسد الفراغ القانوني في مجال التوطين، قد أحاط بمعظم الأوضاع القانونية التي تنشأ بين الموطن والموطن لديه ومالك المحل ومختلف الإدارات، ورتب هذه الأوضاع على شكل التزامات وحقوق؛ لكن بقيت جوانب عديدة لم يتطرق إليها مشروع القانون، وهي التي سنحاول التعرض لها وبيانها. نشير، بدءا، إلى أن مشروع القانون قد تحدث عن الاشتراك في المقر الاجتماعي كجوهر للارتباط بين الموطن والموطن لديه؛ لكنه لم يعرف عقد التوطين كرابطة قانونية، ولم يعرف التوطين كنشاط تجاري واكتفى بذكر أن الموطن يختار الموطن لديه وبأن إجراء التوطين لا يتم إلا بموافقة الموطن لديه.. وكان هذا التقديم بهذه الصيغة قاصر جدا، ولا يقدم أية إحاطة بالمفهوم؛ فالتوطين كمفهوم هو عبارة عن علاقة قانونية وتجارية تنشأ بموجب عقد كتابي رضائي محدد التاريخ بين الموطن والموطن لديه عن طريقه يمكن للموطن الاستفادة من العنوان القانوني للموطن لديه ومن بعض الخدمات التي يوفرها مقابل أدائه لفائدته مبالغ بصفة دورية أو بدون مقابل حسب الاتفاق، وقد يبرم لمدة محددة غير قابلة للتجديد أو لمدة محددة قابلة للتجديد أو لمدة غير محددة، وينتهي التوطين عمليا بفسخ العقد وقانونيا بالتشطيب على رسم الضريبة المهنية والسجل التجاري للموطن المؤسسين على المحل المشترك؛ وذلك إما إثر حل الشخص الاعتباري أو نقله، وإما بالتشطيب على الشخص الذاتي من جدول الضريبة المهنية ومن السجل التجاري أو انتقاله. لذلك، وكما قلنا، فإن التقديم الذي أتى به مشروع القانون، الذي يتحدث عن الاختيار والتوافق، هو بعيد جدا عن أن يعرف أو يحيط بالمفهوم. هذا من حيث التعريف، أما بخصوص أشكال التوطين؛ فمشروع القانون لم يفرق بينها، بالرغم من أهمية ذلك. وهنا نفرق بين حالتين، فهو إما توطين قانوني محض بحيث لا يستفيد الموطن في هذه الحالة سوى من عنوان المقر الاجتماعي للموطن لديه إضافة إلى الخدمات التبعية كاستلام الرسائل والتبليغات والطرود والرد على الهاتف واستلام الفاكس واستعمال قاعة الاجتماعات بينما يزاول نشاطه المهني خارج المقر الاجتماعي للموطن ويمسك وثائقه الإدارية والمحاسبية خارجه أيضا. وإما توطين قانوني مع الاستعمال المادي للمحل المشترك بالوجود فيه ماديا والاشتغال فيه، حيث يستفيد الموطن من جميع الخدمات التي يوفرها الموطن لديه إضافة إلى شغل حيز مكاني على شكل مكتب مثلا. وتأتي أهمية التفرقة في كون الوضعية الأخيرة تشبه إلى حد كبير وضعية الكراء، لكن مشروع القانون لم يتطرق إليها ولم يقم بتقنينها ابتداء من كيفية إبرام العقد مرورا بالوضعيات القانونية المترتبة عن عدم الأداء وآجال الإخطار وحالات وجوب الإخلاء وترك ذلك لاتفاق الطرفين الذي يتخذ واقعيا شكل عقد إذعان، حيث يرضخ الموطن لشروط الموطن لديه والتي تكون في الغالب الأعم غير منصفة له. إضافة إلى قصور التعريف وإضافة إلى عدم التطرق إلى الأشكال التي يتخذها عقد التوطين، فإن مشروع القانون لم يخصه -كما خص المشرع العلاقة الكرائية- بتقنين متكامل من بيان أركانه وشروط صحته وآثار علاقة التوطين وانتهائها وحالات عدم أداء مقابل التوطين وما يترتب عنها وما إلى ذلك وترك ذلك لقوانين أخرى عامة كقانون الالتزامات والعقود ولفصول أخرى من مدونة التجارة؛ لكن إن كان الأمر ممكنا بخصوص بعض الوجوه مما ذكر، فإن بعض الأوضاع التي يطرحها عقد التوطين تستلزم التطرق إليها بشكل مفصل، خاصة أن باقي القوانين لا يمكن لها أن تحتويها أو أن تجيب عن إشكالاتها وهي المتعلقة بالإنهاء القانوني لعقد التوطين وبانتهاء علاقة الموطن لديه بالمحل المشترك وعلاقة ذلك بمصير الموطن. كما سبقت الإشارة للأمر، فإن انتهاء عقد التوطين قانونا يستلزم التشطيب على رسم الضريبة المهنية والسجل التجاري للموطن المؤسسين على المحل المشترك، لكن في حالة إذا ما رفض الموطن القيام بذلك إثر فسخ عقد التوطين أو انتهاء مدته.. فهل من حق الموطن لديه أن يطلب التشطيب على الموطن لدى إدارة الضرائب ومصلحة السجل التجاري لينهي بذلك التوطين إن تعلق الأمر بشخص ذاتي وهل من حقه أن يطلب حل الأشخاص الاعتبارية لذات السبب لتعذر إمكانية التشطيب بدون اللجوء إلى حلها؟ استمرار وجود الرسم المهني والسجل التجاري بالمحل المشترك هو استمرار للتوطين والجواب عن التساؤلات الأخيرة يطرح عدة إشكالات، خاصة أمام استحالة القيام بالتشطيبات أو حل الأشخاص الاعتبارية دون مباشرة ذلك من لدن الأشخاص الذاتيين أو المسيرين كما تقتضي ذلك المساطر.. وهذه الحالة كان لا بد أن يتطرق لها مشروع القانون، كأن يعلق عقد التوطين إثر الفسخ وأن يلزم مسيري الموطن شخصيا بالقيام بإجراءات التشطيب أو الحل تحت مسؤوليتهم وتحت طائلة عقوبات مادية أو غيرها تطالهم بصفة شخصية. وبخصوص حالة انتهاء علاقة الموطن لديه بالمحل الموطن فيه، فإن هذا الحالة تطرح إشكالات كبيرة، خاصة عندما نعلم بأن مراكز التوطين توطن لديها أعدادا كبيرة من الشركات والأشخاص الذاتيين، ففي هذه الحالة مثلا إذا ما قرر مسيرو الموطن لديه حل شركتهم التي تشتغل في التوطين فما هو مصير الشركات الموطنة؟ وإن قرروا نقل المقر الاجتماعي إلى مكان آخر، فما هو مصير هذه الشركات علما بأنها لا يمكن نقلها بالموازاة مع انتقال الشركة الموطن لديها ويسري الأمر كذلك على حالات إفراغ الموطن لديها وحالات التشطيب على الشخص الذاتي الموطن لديه.. حقيقة يتعين أن يحظى التوطين بتقنين متكامل ينظمه بصفة مقبولة يستجيب معها لتطلعات مراكز التوطين ولانتظارات المستثمرين ليجيب بذلك عن الإشكالات التي تطرحها الممارسة، وكان أحرى أن يتم التقنين بموجب قانون عادي مستقل لا بمجرد قانون يحتوى على 13 فصلا يتمم بموجبه القانون رقم 95.15 المتعلق بمدونة التجارة.