التصعيد فالتعليم غادي كيكبر.. إضراب جديد كيتوجد ليه فالوقت لي بدا استدعاء الأساتذة الموقوفين للمثول أمام المجالس التأديبية    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    رغم ارتفاع الأسعار .. منتوجات شجرة أركان تجذب زاور المعرض الدولي للفلاحة    حماس: حصيلة الشهداء ترتفع إلى 34454    نهضة بركان يستعد لمواجهة ضيفه الجزائري وهؤلاء أبرز الغائبين    إعادة انتخاب نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    مؤتمر الاستقلال.. اختلاف على اللائحة أجل انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية    إعدام ثلاثة صحراويين بتندوف.. الجزائر و"البوليساريو" في قفص الاتهام    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    هل تصدر الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنياهو؟    ثورة الجامعات الأمريكية.. غزة تحرر العالم    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    ميسي كيحطم الرقم القياسي ديال الدوري الأميركي بعد سحق نيو إنغلاند برباعية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    توقعات أحوال الطقس غدا الإثنين    بسبب خريطة المغرب.. إتحاد العاصمة الجزائري يتجه نحو تكرار سيناريو الذهاب    تعيين حكم مثير للجدل لقيادة مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    ليفار: قرارات الرداد أثرت فخسارتنا لماتش الحسنية وغانشكيو به للجنة التحكيم باش ياخد الجزاء ديالو    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان "مالمو"    محمد صلاح عن أزمته مع كلوب: إذا تحدثت سوف تشتعل النيران!    الحسنية يلحق الهزيمة الأولى بالجيش الملكي في البطولة    الحرب في غزة محور مناقشات قمة اقتصادية عالمية في المملكة السعودية    ساعة جيب لأغنى ركاب "تايتانيك" بيعت في مزاد لقاء 1,46 مليون دولار    ما الذي سيحدث بعد حظر الولايات المتحدة تطبيق "تيك توك"؟    السلطات المغربية تتعقب صاحب صفحة "لفرشة"    محاولة الهجرة إلى سبتة تؤدي إلى مصرع شاب وظهور جثته في الحسيمة    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    افتتاح مهرجان تطوان المتوسطي ب"بنات ألفة"    توقيف سارق ظهر في شريط فيديو يعتدي على شخص بالسلاح الأبيض في طنجة    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    بمشاركة خطيب الأقصى.. باحثون يناقشون تحولات القضية الفلسطينية    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    ما هو صوت "الزنّانة" الذي لا يُفارق سماء غزة، وما علاقته بالحرب النفسية؟    بدء أشغال المجلس الوطني لحزب "الميزان"    رسميا.. نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    قيادة الاستقلال تتوافق على لائحة الأسماء المرشحة لعضوية اللجنة التنفيذية    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    انطلاقة مهرجان سينما المتوسط بتطوان    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    بفضل فوائده وجودته.. منتوج العسل المغربي يطرق أبواب السوق الأوروبية    الأمثال العامية بتطوان... (584)    اتحاد العاصمة باغيين يلعبو وخايفين من الكابرانات: هددو ما يلعبوش ويرجعو فالطيارة اليوم للجزائر وفاللخر مشاو يترينيو    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    نادية فتاح: المغرب يتيح الولوج إلى سوق تضم حوالي مليار مستهلك بإفريقيا    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكرى "الاستقلال" و"المسيرة الخضراء".. دلالات وعبر
نشر في هسبريس يوم 31 - 10 - 2018

في حياة الأمم والشعوب أيام خالدة ومناسبات وأعياد مجيدة يتم تخليدها والاحتفاء بها ليس فقط من باب الفخر والاعتزاز بالماضي والتاريخ المشرق، ولكن باعتبارها مرآة عاكسة للهوية المشتركة حافظة للوعي الفردي والجماعي وحاضنة للموروث. والمغرب بتاريخه العريق وحضارته المزدهرة متعددة الروافد، له من الأحداث الكبرى والمحطات المشرقة، في طليعتها "حدث الاستقلال" الذي شكل منعطفا بارزا في تاريخ المغرب المعاصر، يفصل بين زمنين: "زمن الحماية " بكل ما رافقها من استغلال متعدد المستويات، و"زمن الحرية والانعتاق" و"الشروع في بناء أسس الدولة الحديثة و"استكمال الوحدة الترابية".
ففي الزمن الأول يحضر مسلسل طويل من الكفاح من أبرز محطاته حدث تقديم "وثيقة المطالبة بالاستقلال" (11 يناير 1944) و"حدث ثورة الملك والشعب" (20 غشت 1953). وفي الزمن الثاني يبزغ فجر الحرية والاستقلال الذي شكل خطوة أولى في مسار النهوض وبناء الذات موازاة مع استكمال الوحدة الترابية، وهنا تحضر عدة محطات تاريخية مشرقة في طليعتها حدث المسيرة الخضراء (6 نونبر 1975) التي تبدو اليوم كلوحة عصية على الفهم والإدراك من توقيع ملك "عبقري" وشعب "بطل" جسد أروع صور الوطنية والتضحية والوفاء ونكران الذات.
وعليه فإشراقة على التوالي "الذكرى 43" للمسيرة الخضراء المظفرة، و"الذكرى 63" لعيد الاستقلال المجيد، تسمح باستحضار الحدثين وما يرتبط بهما من أحداث ومناسبات خالدة، ليس من باب "النوستالجيا" التاريخية أو إعادة سرد ما كتب حول حقبة الاستعمار وما بعدها، ولكن تحكمت فيه أساسا الرغبة في رصد وتتبع ما يحملانه من دلالات وعبر وقيم وطنية وإنسانية، في واقع معيش يعرف أزمة في المواطنة والقيم والمبادئ والأخلاق.
ذكرى الاستقلال: محطة مشرقة من تاريخ حافل بقيم الوطنية والتضحية والوفاء
المعالم الأولى للوعي الوطني جسدتها المقاومة المسلحة (العسكرية) التي تحملت وزرها القبائل في الجنوب والصحراء والأطلس المتوسط والريف وجبالة والأطلس الكبير والصغير، تحت إشراف زعماء كبار أمثال "أحمد الهيبة ومربيه ربه"، "موحى أوحمو الزياني"، "محمد بن عبدالكريم الخطابي"، و"عسو أوبسلام"، واجهوا المستعمر بكل بسالة رغم محدودية الوسائل والإمكانيات، بل وأحرجوه في عدد من المواقع والمعارك الخالدة (معركة سيدي بوعثمان (1912)، معركة الهري (1914)، معركة أنوال (1921)، معركة بوكافر(1933)...)، مجسدين بذلك أروع ملاحم الكفاح والتضحية والوفاء دفاعا عن حوزة الوطن.
رغم توقف المقاومة المسلحة وتمكن سلطات الاحتلال من بسط نفوذها على كل التراب الوطني، فقد استمرت عجلة الكفاح في الدوران في المدن في ظل نشأة "الحركة الوطنية" التي ضمت نخبة من المثقفين الشباب الذين آمنوا بالعمل السلمي وجعلوه استراتيجية لمواجهة المستعمر وفضح سياساته الظالمة، وفي هذه المرحلة (مرحلة الثلاثينيات) يمكن الانطلاقة من حدث بارز جسد بوضوح الحس الوطني وكرس الإحساس الجماعي بالانتماء إلى وطن واحد، ويتعلق الأمر هنا بإصدار السلطات الاستعمارية للظهير البربري (30 ماي 1930) كمحاولة للتفرقة بين مكونات المجتمع المغربي (عرب وأمازيغ) في إطار تنزيل سياسة "فرق تسد"، إلا أن هذا الظهير لم يحقق الأهداف والمقاصد التي رسمت له، بعدما تصدى له المغاربة بجميع أطيافهم بالرفض والتنديد والاحتجاج مجسدين بذلك مفردات الوحدة والوطنية الصادقة والتضحية ونكران الذات.
وقبل هذا وذاك عبروا عن "الهوية المشتركة" وقوة الانتماء إلى وطن واحد يقتضي توحيد الصف والانخراط اللامشروط في كل تعبيرات المقاومة والاحتجاج؛ الأمر الذي تحملته "الحركة الوطنية" التي واجهت المستعمر بكل الوسائل الممكنة (تأسيس الجرائد والمجلات، بناء المدارس الحرة، تأسيس الأحزاب السياسية، مقاطعة السلع والبضائع الأجنبية، الاحتفال بعيد العرش كرمز للوحدة الوطنية... إلخ)، ومن تجليات هذا النضال متعدد المستويات، تقديم "برنامج الإصلاحات" (1934) على التوالي لسلطات الاحتلال بالمنطقة الفرنسية (السلطانية) والمنطقة الإسبانية (الخليفية) في إطار "رؤية" مبكرة آمنت بالإصلاح في إطار الاستعمار، لكن المطالب الإصلاحية ووجهت بالرفض، لتشتد المواجهات والاحتجاجات على سياسة الاستغلال الاستعماري (السطو على الأراضي الزراعية التي يملكها الفلاحون المغاربة، تحويل مياه واد بوفكران لتسخيرها في سقي أراضي المعمرين الفرنسيين...)، وقد واجهت الإقامة العامة هذه الأوضاع المضطربة بالقمع وتضييق الخناق على قادة الحركة الوطنية (نفي، فرض الإقامة الجبرية...).
خلال فترة الأربعينيات سوف تعرف الحركة الوطنية تطورات عدة، من سماتها البارزة تجاوز رؤية المطالبة بالإصلاح وتبني نهج "المطالبة بالاستقلال"؛ إذ أصدر حزب الاستقلال وعدد من الشخصيات الحرة، وثيقة "المطالبة بالاستقلال" (11 يناير 1944)، وهذا التحول الجذري استفاد من المتغيرات الوطنية والدولية (الظروف الخارجية الدولية المرتبطة أساسا بمجريات الحرب العالمية الثانية التي انخرطت فيها الدول الإمبريالية، ومنها احتلال الدولة المستعمرة (فرنسا) من قبل القوات النازية، صدور "ميثاق الأطلسي" (1941م)، لقاء أنفا بالدار البيضاء (1943م) الذي أبدى فيه الرئيس الأمريكي (روزفيلت) تفهمه وعطفه ببذل الجهد لتحقيق الأماني المغربية في الاستقلال بعد نهاية الحرب، تعزز الحركة الوطنية بظهور أحزاب سياسية جديدة (حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال والحزب الشيوعي...)، إقبال العمال المغاربة على العمل النقابي، النجاحات التي حققتها الحركات الاستقلالية بالمشرق العربي والتي مهدت للاستقلال وشكلت بذلك دافعا محفزا لزعماء الحركة الوطنية...)، وقد أبدا السلطان محمد بن يوسف مواقف إيجابية حيال القضية الوطنية في عدد من المحطات التي أكد فيها على ضرورة استقلال المغرب، منها "خطاب طنجة" (1947) و"خطاب العرش "(18 نونبر 1952)، مما شكل دعما قويا للحركة الوطنية وزعمائها.
كما كان متوقعا، فقد واجهت سلطات الاستعمار المطلب المغربي بأساليب عنيفة تجسدت في شن جملة من الاعتقالات التي طالت عددا من الموقعين وآلاف الأشخاص واقترفت عددا من الإعدامات ذهب ضحيتها آلاف من المغاربة، وأصدرت عددا من أحكام الإدانات بالأشغال الشاقة وأقفلت المدارس وطردت عددا من الموظفين المغاربة، فضلا عن اندلاع احتجاجات ومظاهرات عمت كل البلاد عقب مقتل النقابي التونسي "فرحات حشاد" (1952) واجهتها سلطات الاحتلال بالعنف والقمع، مما خلف الكثير من القتلى والجرحى.
وبدا واضحا أن سلطات الاستعمار فقدت البوصلة بنفي الملك محمد بن يوسف وتنصيب "بن عرفة" مكانه في محاولة منها تغيير الوضع السياسي القائم، لكن المغاربة واجهوا التضحية بالتضحية والوفاء بالوفاء، وأشعلوا فتيل ثورة الملك والشعب (20 غشت 1953م) التي من عناوينها البارزة محاولة قتل "ابن عرفة" من طرف "علال بن عبد الله" (شتنبر 1953) الذي استشهد على إثرها، وتصاعد أعمال المقاومة المسلحة وإعدام عدد من زعمائها أمثال "حمان الفطواكي" و"محمد الزرقطوني"، وتأسيس جيش التحرير بالمنطقة الشمالية (1955) الذي قرر استعمال السلاح والعمل المسلح لتحرير البلاد من الاحتلال والضغط على سلطات الاحتلال من أجل إرغامها على إعادة الملك الشرعي، والانتقال من وثيقة 11 يناير 1944 إلى الكفاح المسلح عام 1953 كان-حسب محمد الجابري-"نتيجة تطور الأطر الشعبية الشابة داخل الحركة الوطنية التي ألقي بقياداتها السياسية في السجون ... فقد وجدت نفسها مضطرة لحمل الأمانة، أمانة القيادة التفكيرية، وفي الوقت نفسه، وجدت نفسها مضطرة كذلك إلى الرد على التحدي الذي قامت به سلطات الحماية بعزل محمد بن يوسف الملك الشرعي، بعمل تاريخي يكون في مستوى هذا التحدي"، وأمام ذلك لم تجد فرنسا بدا من تغيير نهجها والسماح بعودة الملك من المنفى والدخول في مفاوضات الاستقلال، ليتم توقيع معاهدة إنهاء الحماية الفرنسية ثم الإسبانية، وهذا التلاحم المتين بين الملك والشعب جسد قيم الوفاء والتضحية والصمود بين ملك مجاهد وشعب مكافح.
ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة.. عبقرية ملك وكفاح شعب
بعد كسب رهان الاستقلال، بقيت عدة مناطق خاضعة للاستعمار الإسباني، وكان على المغرب أن يدخل في تحدي استكمال وحدته الترابية بالموازاة مع بناء أسس الدولة الحديثة. وفي هذا الإطار، نجح عبر مراحل من استرجاع عدد من المناطق (طنجة الدولية، طرفاية (1958)، سيدي إفني (1969))، لكن أهم حدث ميز المرحلة ارتبط بتنظيم المسيرة الخضراء نحو الصحراء، في إطار المساعي الدبلوماسية المبذولة لاسترجاع ما تبقى من التراب. وفي هذا الصدد، فقد عرض المغرب القضية على محكمة العدل الدولية بلاهاي، التي أصدرت رأيا استشاريا مفاده أن "الأراضي الصحراوية التي تحتلها إسبانيا لم تكن عند استعمارها أرضا خلاء لا صاحب لها"، وأكدت على "تواجد روابط قانونية وروابط ولاء بين الصحراء والمملكة المغربية".
واستثمارا لمعطيات هذا القرار الاستشاري، أعلن المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه (أكتوبر 1975) بحكمة وبعد نظر، عن تنظيم مسيرة سلمية خضراء لاسترجاع الصحراء وتحريرها من الاستعمار الإسباني، شارك فيها 350.000 متطوع ومتطوعة، فضلا عن مشاركة وفود عدد من الدول الشقيقة والصديقة التي آمنت بالقضية المغربية وتفاعلت إيجابا معها. وفي يوم 5 نونبر من سنة 1975 خاطب الملك الحسن الثاني حشود المتطوعين والمتطوعات قائلا: "غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطؤون طرفا من أراضيكم، وستلمسون رملا من رمالكم، وستقبلون ثرى من وطنكم العزيز".
لتنطلق المسيرة رسميا (6 نونبر) بنظام وانتظام نحو حدود الصحراء وسط ردود فعل إقليمية ودولية متباينة ومنها رد فعل إسبانيا التي عارضت المسيرة وطالبت بعقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي للنظر فيها، وزعمت بهتانا وكذبا عن طريق مندوبها بمجلس الأمن أن المسيرة هي زحف عسكري مسلح وعمدت إلى تحريك أسطولها البحري إلى المياه الإقليمية المغربية في محاولة منها إجبار المغرب على العدول عن تنفيذ المسيرة. وقد وصف الملك الحسن الثاني هذه اللحظة التاريخية في كتاب التحدي بقوله:
"اندفعت في 6 نونبر جماهير ال 350.000 مغربي نحو الجنوب وفق نظام المسيرة الذي احترم بدقة.. عشرة في المائة من متطوعينا كنّ نساء، وفي الحقيقة كانوا مسلحين برايات تؤكد السيادة الوطنية.. والعديدون كانوا يرفعون كذلك كتاب الله.. لقد اخترقوا على شكل كتل بشرية متراصة، وفي نظام محكم بديع، الأرض المتنازع عليها.. لقد بلغ إيمانهم حدا جعلهم يعتقدون أنهم قادرون على الوصول إلى آخر العالم".
وبعد أن حققت المسيرة نجاحا شعبيا وتأييدا إقليميا ودوليا، وتوغل المتطوعون في الأقاليم الصحراوية، لم يجد الإسبان بدا من إعادة النظر في موقفهم المعادي للمغرب والبحث عن حل مناسب لمشكلة الصحراء، ففتحوا قنوات الاتصال مع المغرب، حينها أعطى الملك الحسن الثاني الأمر للمتطوعين من أجل العودة إلى نقطة الانطلاق (طرفاية) بعد أن أعلن أن المسيرة قد حققت الأهداف التي رسمت لها، حيث قبلت إسبانيا الدخول في مفاوضات مكنت من إبرام اتفاقية مدريد (14 نونبر 1975)، وهي الاتفاقية التي أقرتها الأمم المتحدة، والتي اتفق بموجبها المغرب مع إسبانيا وموريتانيا على انسحاب إسبانيا من الصحراء، كما نصت الاتفاقية على احتفاظ موريتانيا بالأطراف الجنوبية من الصحراء، لكنها فضلت التخلي عنها سنة 1979 فضمها المغرب، وألحقت بالتالي منطقة وادي الذهب بالتراب المغربي بعد أن قدم سكانها البيعة والولاء للملك الراحل الحسن الثاني، ليتم بذلك استكمال تحرير الصحراء.
وعليه، فالمسيرة الخضراء تعد من أقوى الأحداث واللحظات التي عاشها مغرب الاستقلال، ليس فقط لأنها مكنت من استكمال الوحدة الترابية باسترجاع الصحراء من قبضة الاستعمار، ولكن أيضا لما تحمله من رموز ودلالات متعددة الأوجه، منها العدد الهائل من المتطوعين والمتطوعات الذين شاركوا فيها بنظام وانتظام بدون سلاح سوى القرآن الكريم والإيمان الراسخ بالقضية الوطنية، وطريقة تنظيم وتدبير هذا الحشد الهائل على مستوى التأطير الطبي والمواكبة والتتبع الأمني والأغطية والأفرشة والخيام والشاحنات والمأكل والمشرب وغيرها، وقبل هذا وذاك الصدى الواسع الذي خلفته المسيرة إقليميا وعالميا كاستراتيجية جديدة في حل المشاكل والأزمات مبنية على ثقافة "السلم" واضعة بذلك حدا لمنطق الحرب والانخراط في النزاعات المسلحة.
لذلك فقد وجدت الدولة المستعمرة (إسبانيا) نفسها محرجة في طريقة التعامل مع مسيرة سلمية يحمل مشاركوها القرآن الكريم والأعلام الوطنية دفاعا عن الوطن، مما فرض عليها اللجوء إلى خيار التفاوض لإيجاد مخرج للأزمة، كما أن الانخراط الشعبي ما كان له أن يتم لولا الروابط القوية بين الملك والشعب، ملك "عبقري" أعلن فكرة المسيرة، وشعب مناضل تفاعل معها وانخرط فيها بالتضحية والوفاء ونكران الذات تلبية لنداء الوطن، دون إغفال أن هذا الحدث البارز ألهم الفنانين والمبدعين، فخرجت إلى النور مجموعة من الأغاني الوطنية الحماسية الخالدة من قبيل أغنية "نداء الحسن" (صوت الحسن ينادي بلسانك ياصحرا.. فرحي يا أرض بلادي أرضك صبحت حرة.. مرادنا لازم يكمل بالمسيرة الخضراء الله الله الله...) من كلمات "فتح الله لمغاري'' ولحن "عبد الله عصامي"، وأغنية "العيون عينيا والساقيا الحمرا ليا والواد وادي يا سيدي الواد وادي..." لمجموعة "جيل جيلالة". وقوة الحدث ورمزية الذكرى، تفرض اليوم التعبئة الجماعية دفاعا عن الوحدة الترابية وتحصينها من كيد الكائدين.
أخيرا وتأسيسا على ما سبق، فسواء تعلق الأمر بالأعياد التي ارتبطت بالكفاح من أجل نيل الاستقلال (ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ثورة الملك والشعب) أو تلك التي ارتبطت بمسار استكمال الوحدة الترابية وبناء المغرب الحديث وفي طليعتها "حدث المسيرة الخضراء المظفرة" فكلها مناسبات وأعياد تقتضي من جهة التعريف بها للأجيال الحالية والمتعاقبة كنوع من "الرأسمال اللامادي" والرصيد النضالي الوطني والتراث الحضاري للبلاد الممتد عبر التاريخ، ومن جهة ثانية، استلهام ما تجسده من قيم الالتزام والوفاء والصدق والتضحية ونكران الذات والتحلي بروح المسؤولية والتفاني في خدمة الوطن والدفاع عن الثوابت الوطنية والمقدسات الدينية.
وهي قيم تفرض على الأجيال المتعاقبة التحلي بالمواطنة الصادقة والسلوك الإيجابي والتفاني في خدمة الوطن والدفاع عن مصالحه العليا في الداخل كما في الخارج، فإذا كان الأجداد-بمختلف شرائحهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية في البوادي كما في المدن-قد حققوا نعمة الحرية والاستقلال، بعد مسار طويل من الكفاح تذوقوا خلاله كل أشكال المعاناة والاستغلال والتشريد والقهر والتجويع والاعتقال، فأمانة الوطن ملقاة اليوم على الجميع.
فكما كان هناك-زمن الحماية-من وضع يده في يد الاستعمار وتعامل معه ضد الوطن، فهناك اليوم أناس "أشباه مغاربة" يعبثون بمصالح الوطن ويضرون بمصالحه، بجريهم الأعمى وراء الكراسي والمناصب وتسلق الدرجات، بدل التحلي بروح المسؤولية وما يقتضي واجب المواطنة من أجل خدمة الصالح العام.
وإذا كانت ملحمة المسيرة الخضراء حبلى بقيم الوطنية والتضحية والوفاء فداء للوطن، فلا مناص من "مسيرة" أخرى لتطهير الوطن من عبث العابثين من مفسدين وانتهازيين ووصوليين يجرون البلاد بسياساتهم إلى حافة الاحتقان والانهيار، فمن يسرق أو يختلس مالا عاما، أو يستغل نفوذه أو يغتني أو يتسلق الدرجات أو يجري لتحقيق مصالح ضيقة أو لا ينظر في قضايا المواطنين، أو يساهم في زرع اليأس والإحباط أو ينظر-باختصار-إلى الوطن كبقرة حلوب... فهو "عابث" بالوطن، إن لم نقل "خائنا" له.
فمعادلة الوطن لا تحتمل القسمة على إثنين، فإما "الوطنية" أو "الخيانة"، وبناء الوطن بسواعد "عابثة" و"فاسدة" هو بمثابة "هتك عرض" وطن استشهد من أجله الأجداد.
لذلك وفي ظل تدني منسوب المواطنة لدى فئات عريضة من المجتمع، وفي ظل تراجع منظومة القيم والأخلاق وانتشار ثقافة اليأس والتذمر والإحباط، آن الأوان لتحرير الوطن من ثقافة "العبث" و"الفساد" استلهاما لملحمة الكفاح من أجل الاستقلال ووفاء لقسم المسيرة الخضراء، واحتراما وتقديرا لشهداء قدموا حياتهم فداء للوطن، وهي فرصة لتقدير كل المغاربة الشرفاء والنزهاء الذين يبنون الوطن ويقدمون العون ويتخذون المبادرات القادرة على توفير فرص الشغل والرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني والدفاع عن مصالح الوطن في الداخل كما في الخارج، وبفضل هؤلاء "يستمر الوطن" و"يحيى الوطن".. مهما عبث به العابثون والفاسدون...
*كاتب رأي أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي بالمحمدية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.