بعد فراره لساعات.. سائق سيارة نقل العمال المتسبب في مقتل سيدة مسنة يسلم نفسه لأمن طنجة    الأقاليم الجنوبية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    بايرن ميونخ يحتفل بلقبه ال34 بفوزه على ضيفه بوروسيا مونشنغلادباخ (2-0)    الوكالة الفرنسية للتنمية تعلن تمويل استثمارات بقيمة 150 مليار بالصحراء المغربية    الاتحاد الاشتراكي بطنجة يعقد لقاءً تنظيمياً ويُفرز مكاتب فرعي المدينة وبني مكادة    جناح الصناعة التقليدية المغربية يفوز بجائزة أفضل رواق في معرض باريس    الأشبال: الهدف التأهل إلى المونديال    دروس من الصراع الهندي - الباكستاني..    الصين وروسيا تؤكدان التزامهما بحماية العدالة الدولية وتعزيز التعددية    ريال مدريد يعلن قائمته للكلاسيكو بحضور دياز ولخديم    المغرب – السعودية .. افتتاح النسخة الثانية من معرض "جسور" بمراكش    تقديم 8 متهمين في قضية طنين من مخدر الشيرا بالعرائش    نادي السد يتوج بلقب كأس قطر لكرة القدم عقب فوزه على الدحيل (4-3)    التعاون الفلاحي يتصدر إعلان نواكشوط    أرسنال يجهز الممر الشرفي لليفربول    بدء منافسات بطولة المغرب للشطرنج    مركز مغربي: الحكم الذاتي يتيح تنافس قادة "البوليساريو" مع نخب الصحراء    الأسهم تحفز تداولات بورصة البيضاء    الى صديقي يونس    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    زيارة استثنائية وإنسانية للزفزافي تنعش آمال الحل في ملف حراك الريف    زلزال تفوق قوته 5 درجات يضرب هذه الدولة    حريق مهول يلتهم وحدة صناعية للأغطية دون خسائر بشرية    الناظور غائبة.. المدن المغربية الكبرى تشارك في منتدى "حوار المدن العربية الأوروبية" بالرياض    البطولة.. الكوكب المراكشي على بعد نقطة من العودة إلى القسم الأول بتعادله مع رجاء بني ملال    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    سحابة كلور سامة في إسبانيا ترغم 160 ألف شخص على ملازمة منازلهم    إسبانيا تُطلق دراسة جديدة لمشروع النفق مع طنجة بميزانية 1.6 مليون أورو    بعد واقعة انهيار عمارة بفاس..التامني تسائل الداخلية عن نجاعة مشاريع تأهيل المباني الآيلة للسقوط    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يستعد للإعلان عن اعتراف رسمي بالدولة الفلسطينية خلال جولته الشرق أوسطية    العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان تستنكر حرمانها من وصل الإيداع القانوني    مهرجان مغربي في تاراغونا يبرز عمق العلاقات بين المغرب وإسبانيا    وساطة أمريكية تنهي التصعيد بين باكستان والهند    ديستانكت ومراد يرويان خيبة الحب بثلاث لغات    من الرباط إلى طنجة.. جولة كلاسيكية تحتفي بعبقرية موزارت    مهرجان "كان" يبرز مأساة غزة ويبعث برسائل احتجاجية    الأوروبيون يسعون لهدنة مع موسكو    تنظيم استثنائي لعيد الأضحى بالمجازر.. هل يتجه الناظور لتطبيق النموذج المعتمد وطنياً؟    مهرجان مغربي يضيء سماء طاراغونا بمناسبة مرور 15 سنة على تأسيس قنصلية المملكة    الموت يفجع الفنان المغربي رشيد الوالي    وكالة الحوض المائي اللكوس تطلق حملة تحسيسية للتوعية بمخاطر السباحة في حقينات السدود    بالقرعة وطوابير الانتظار.. الجزائريون يتسابقون للحصول على الخراف المستوردة في ظل أزمة اقتصادية خانقة بالبلاد (فيديوهات)    الفيفا يرفع عدد منتخبات كأس العالم للسيدات إلى 48 بدءاً من 2031    بينالي البندقية.. جلالة الملك بوأ الثقافة والفنون المكانة التي تليق بهما في مغرب حديث (مهدي قطبي)    القضاء الأمريكي يجمد تسريح موظفين    المغرب يدفع بصغار التجار نحو الرقمنة لتقليص الاقتصاد غير المهيكل    إيران وأمريكا تستأنفان المحادثات النووية يوم الأحد    تطور دينامية سوق الشغل في المغرب .. المكتسبات لا تخفي التفاوتات    افتتاح فعاليات المعرض الدولي السابع والعشرون للتكنولوجيا المتقدمة في بكين    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المَرْأةُ المُسْلِمَةُ العَالِمَةُ .. الدُّكتورَة عَائِشَة عَبدُ الرَّحْمَنِ نَمُوذَجاً
نشر في هسبريس يوم 07 - 03 - 2019

بِسمِ اللهِ الرّحمَنِ الرّحيمِ، والحَمْدُ لله ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على رَسولِ الله.
لا شَكَّ أنَّ مَن لهُ بَعضَ الاطِّلاعِ بالتّاريخِ الإسلاميِّ، سَيكتَشفُ بسُهولةٍ وُجودَ نِساءٍ رائداتٍ وبارِزاتٍ في مَجالاتٍ شَتّى كالعِلمِ والجِهاد والتّربيةِ، رَغمَ أنَّ هذَا البُروزَ لمْ يبْلغْ الحَدَّ المطلوبَ مِنهُ خَاصةً في الأزمانِ ما بَعدَ عصرِ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ، الّذي عاشَتْ فيهِ المَرأةُ المُسلمَةُ في ظِلال الحُرِّيَّةِ والحُقوقِ دونَ تَمييزٍ سَلبِيٍّ عن شقيقِها الرّجلِ، مِصدَاقاً لقولِ رسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّما النِّساءُ شقائقُ الرِّجَالِ)
أَمَّا في الزَّمنِ المُعاصِرِ فقدْ عَادتْ فيهِ المَرأةُ بكلِّ قوَّةٍ، لاستِرجَاعِ بَعضِ مَا سُلِبَ منْهَا مِن الحُقوقِ الإنسَانيةِ المشْروعةِ كالحَقِّ في التَّعَلُّم والعمَلِ والاستِقلالِيةِ المَاليّةِ... وغَيرِها. والمَرأةُ المُسلمَةُ ليستْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ ذلك كُلِّهِ، فقَدْ عَانَتْ هيَ أيضاً منْ طُغْيَانِ بعضِ التّقاليدِ الاجتِماعِيةِ التِي سَلَبَتْ مِنْها الكثيرُ منْ حقوقِها، والمُلفتُ أنَّ الكثيرَ من هذِه التَّقاليدِ والأعرافِ تُناقضُ كَثِيراً مَبادِئَ الشّريعةِ الإسْلامِيةِ السَّمحةِ. وتُعدُّ الدُّكتورة عائِشَة عبد الرّحمنِ (بنتُ الشاطئ) مِنْ أبرَزِ النِّساءِ المسْلماتِ اللائِي وَردْنَ مجَالَ النِّضالِ النِّسوِيِّ مِن أَوسعِ أبْوابِه، منْ بابِ العِلمِ والدِّينِ. وإِنّ ممّا دعانِي كَثيراً إلى التّعْريفِ بِهذه المَرأةِ العظيمةِ فِي هذِه المُناسَبةِ، كونُها متَعلِّقةً بِالمغربِ، فقد اشتغَلتْ مُدَرِّسةً لسَنواتٍ عَديدةٍ بكُليةِ الشّريعةِ التّابعةِ لجامعةِ القَروِيّينَ بمَدينةِ فاس العريقةِ.
أولا: مَوْلِدُهَا ونَشْأَتُهَا.
وُلِدتْ الدُّكتورة عائشةُ عبدُ الرّحمنِ بنتُ الشّاطيء سنةَ 1913 للميلاد، بمدينَةِ "دمياط" ببلادِ مِصرَ، منْ أسرةٍ عِلميةٍ مُحافظةٍ، يَنْتهي نَسبُها إِلى الإمامِ الحُسينِ عليه السّلام، سِبطِ رَسول اللهِ صلّى الله عليهِ وسلّمَ، وأغلبُ رِجالها منْ عُلماءِ الأزهرِ الشّريفِ، مِنهم والدُها الشّيخُ محمّد عَلي عبدُ الرحْمن الحُسيني رحمهُ اللهِ. وذَكرتْ في رِوايتِها "عَلى الجِسرِ، بيْن الحياةِ والموْتِ" التي ضمَّنتْها سيرتَها الذّاتيةِ، أنّ وَالدَها سمَّاها عائشةَ تَفاؤلاً باسمِ عائشة أمِّ المؤمنينَ رضي الُله عنها، قائلةً: "حتّى إذَا حمَلتْ بِي أمِّي ووضعَتْني بِنْتاً ثانيةً، لمْ يضْجرْ بِي وَالِدي، وتِلك إرادَةُ اللهِ، بلْ وهبَني للعِلم منذُ وضَعتْني أمِّي فِي المَهدِ، وسمَّاني 'عَائشةَ ' تفاؤلاً باسمِ أمِّ المؤمنين رضي الله عنْها، وكنَّاني "أمَّ الخيرِ."[على الجسر. ص:23]. وَالمُتمَعِّن في سِيرةِ السيِّدة عائشة عبد الرحمن سيُلاحظُ أنّ المُحرِّك الأكبرَ لتَحوُّلاتِ حيَاتِها هُو العِلمُ، تَعَلُّماً وتَعلِيماً، فَما زاغَتْ عنْه إلى غَيرهِ قطّ، من المَهدِ إلى أن التَحَقَتْ بالرَّفيقِ الأعلى. وإِن أبرزَ ما أدّى إلى ذلك هو كونُها سَليلة بَيتِ العِلم والصَّلاح والزُّهدِ، فقدْ كانً والدُها عالماً مُربِّيا، يصاحبُها منذُ صِباها إلى مكتبِه حيْث يتَذاكرُ مع زملائهِ وطلبتهِ مبَاحثَ علومِ الإسْلام. تقول السّيدة عائشة رحمها الله: "ولعلِّي كذَلك تلقَّيتُ مبادِئَ القِراءةِ والكِتابةِ في ذَلك العهدِ الذِي يسبِقُ وَعْيِي، غيرَ أنَّ دِراستي الجادَّةَ المُنَظَّمةَ لمْ تبدَأ إلّا صَيفَ عام 1918 وأنا في نَحوِ الخَامسَةِ من عُمرِي!" [على الجسر، ص:24]. فلمَّا وصَلتْ سنَّ الطّفولةِ الذي تلتحِقُ فيهِ قرينَاتُها في السِّن بالمدرسةِ النِّظامية رفضَ والدُها السّماحَ لها بالتّوجُّهِ إليْها لأسبابٍ معيَّنةٍ، مُبيِّنا لهَا أنّ ما تتعلَّمُه لدَيه في البَيْتِ فيهِ غُنْيَةٌ عمّا سِواه. وتقول واصِفةً ما حدَث: "فلمَّا سألني (أيْ والدُها) عمّا بي، تشجَّعتُ فصارحتُه بما يُشَوِّقنِي من الذَّهابِ إلى المَدرسةِ مع بناتِ الجِيرةِ.. فكأنَّنِي نطقْتُ كُفْراً! فجاءَنِي الرَّدُّ حازِماً حاسِماً: (ليسَ لبَناتِ المشايخِ العُلماءِ أنْ يخْرجْنَ إلى المدارسِ الفاسِدةِ المُفْسِدةِ، وإنَّما يتعلَّمنَ في بيُوتِهنَّ)" [على الجسر. ص:34]. بَيْدَ أنَّ رفضَه لمْ يُثنِها عن هدَفِها، إذ استَعانتْ بِجدِّ والدَتِها، حيث شفَع لها لدَى والدِها، الذي أذِنَ لها لاحقاً بالتّوجُّه إلى المدرسَةِ مع زميلاتِها.
وفي سنِّ مبكِّرٍ من عُمُرِها بدأتْ في تَحرير مقالاتٍ أدبيةٍ وتُوَّقِعُها باسمٍ مُستعارٍ، وهوَ "بنتُ الشّاطئِ " -إشارةً إلى شاطئِ دَمياط - دُونَ ذكرِ اسمِها الحقيقي في تِلكَ المقالاتِ التي تنْشرُها في جَريدة الأهرام المصريّة، تَجنُّباً لسُخْطِ أهل بيتِها وبلدَتِها المُحافظينَ. تقول الدّكتورة عبد الرحمن: (ولقَد توجَّسْتُ خِيفَةً، حينَ عرفْتُ أنَّ القَريةَ تَعلَم أنِّي دخَلتُ الجامعةً، وتَعْلم كذلك أنّني التي تكتُبُ في "الأهْرامِ" عن الرِّيفِ والفَلّاح، بالتّوقيعِ المُسَتعارِ: بِنتُ الشّاطِئ) [على الجسر. ص:105].
وهكذا ترتقي الدّكتورة عائشةُ عبدُ الرّحمنِ في مدارجِ التّعليمِ النِّظاميّ إلى أنْ وصَلتْ المرحلةَ الجامعيّةَ، مستفيدةً من ذَلك العِلمِ الرَّاسخِ والغزيرِ الذي تَلقَّتْه في البَيتِ عندَ والدِها، خاصّةً علومُ الشّريعة اللغةِ، ممّا جعلهَا تَتَجاوزُ مستوى ما يُدرُسهُ زملاؤُها الطَّلبَة في الكلِّيةِ، وقد عبَّرتْ عن ذلك بقَولها: (لقد حضَرتُ عدَداً من المُحاضراتِ الجامعيَّة في النَّحوِ والعَروضِ والتّاريخِ الإسْلاميِّ، فما وجدْتُ قَطُّ جديداً لمْ أكنْ قدْ تَعلّمتُه في مدْرسَتِي الأولى في البَيْتِ)1.
ثانيا: عِلمُهَا ومُؤَلَّفاتُهَا.
لا شكَّ أنّ منْ طالعَ كُتُبَ ومُؤلفاتِ الدّكتورة عائشةَ عبد الرّحمن رحمةُ اللهِ عليْها، سيَكتشفُ أنّها عَالِمةٌ موسوعيةٌ، أحكمَتْ عُلومَ الشّريعةِ إحكاماً ودرَسَتْ العُلومَ الإنسانِيةِ واللغويةِ وتمَكّنتْ منها تَمكُّناً، وكُتبُها الكثيرةُ والنّفيسةُ تجمَع بينَ المنْهجِ العِلميِّ المُحكَمِ والمَضْمونِ المَعرفيِّ الواسِعِ والعَرضِ الأدَبيِّ والفَنّي المَاتعِ.
ويرجِعُ الفضْل الكَبيرُ في تكوينِها ذلكَ التّكوِينَ العِلمِيِّ والمنْهجيِّ المُتميِّزِ إلى رَجُلينِ كبيرين، أمّا أحدُهما فوالدُها ومُعَلِّمُها الأولُ الشّيخُ مُحمّد علِي عبد الرّحمن الحُسيْني رحمه الله، وأمّا الثّانيُّ فزَوجُها وأستَاذُها الدّكتور "أَمين الخُولِي" رحمَه الله. وقدْ عبّرتْ عنْ دورِهِما الكبيرِ بقولِها: "إلى منْ أعزّني اللهُ به أباً تقيّاً زكيّاً ومُعلِّماً مُرشِداً ورائداً أميناً مُلهَماً وإِماماً مَهيباً قُدْوةً: فضِيلة والدِي العارفِ بالله العالمِ العامِلِ: الشّيخِ محمّدِ عليّ عبدِ الرّحمنِ الحُسَيْنِيِّ، نَذَرَنِي رضي اللهُ عنهُ لعُلومِ الإسْلامِ، ووجَّهنِي من المَهدِ إلى المَدرسةِ الإسْلاميّة، وقادَ خُطاي الأولى على الطّريقِ السَّويِّ، يُحَصِّنُني بمناعةٍ تحمِي فِطرتي منْ ذرائعِ المسْخِ والتّشويهِ. وإلى أمِّي السّيدةِ فريدة عبد السّلامِ مُنْتَصر، والجنّة تحتَ أقدامِها. وإلى شيْخي الإمامِ الجليلِ الأصوليّ الأستاذ أمِين الخُولي، الذي أدِين له بتأصِيل المَنْهجِ وترسيخِ جذوري في المدرسةِ الإسلاميةِ، وما علّمني من أصول مناهجِها وذخائِر تُراثِها، ما أُحقِّقُ به وجودي العلميِّ." 2.
وقد ألَّفَتْ الدّكتورة عائِشة عبدُ الرّحمن في مُختلفِ العلوم الإسلاميةِ كُتُباً قيِّمةً. فَفي عِلم التّفسير ألّفتْ كتاب "التّفسير البَياني للقرآن الكريم" وفي عُلوم القُرآن ألّفت كتابَ "الإعجازُ البَياني للقرآن ومسائلُ ابن الأزرقِ" وفي السِّيرة النّبويةِ ألّفتْ كتابَ "معَ المُصطفى" كما ألّفَتْ كُتباً ترجَمَتْ فيها لنِساء بيْت النَّبي، بدْءاً بوالدتهِ وزوجاتهِ وبَناتِه عَليهنّ السلام، جُمِعَ في سِفرٍ واحدٍ بعنوان "تَراجِمُ سيّدات بيْت النُّبوَّةِ"، وفي الفِكر الإسْلامي المُعاصرِ وقَضايا العَقيدةِ ألّفتْ كتَابينِ، وهُما "مقالٌ في الأنسانِ" و "القُرآنُ وقضايا الإنسانِ"، وفي عِلمِ المُصطلحِ حقّقَت كتابَ "مُقدِّمة ابنِ الصّلاح ومحاسِن الاصطِلاح"، وفي شَواغِل الأمّةِ كالقضية الفلسطينيةِ وما يهدِّدُ الإنسَانيةَ كالصهيونيةِ ألفت كتابَ "أعداءُ البشرِ"، وفي الرّوايةِ الأدبِيّة ألفَتْ رويةَ "على الجِسرِ، بيْن الحياةِ والموتِ"، وفيها حَكتْ سيرتهَا الذّاتيةِ، و لها غَيرُ ذلكَ من الكُتبِ المؤلفَةِ والمحقّقةِ. وإنّ ممّا يُميز مؤلفات العالمةِ عائشة عبد الرّحمن إضافةً إلى الغِنَى المَعرفيّ والعِلميّ هو أسْلوبُها الأدبي والفَنّي في عَرضِ الأفكارِ وسَرد الأحداثِ، وهي واعيةٌ بذلك بل قاصِدتهُ، ويدُلّ على ذلك قولُها أثناء التّعريفِ بالسّيدةِ "آمنةِ بنتِ وهبٍ" والدَةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ولو كنّا هُنا نعرِضُ حياةَ 'آمنةَ ' عرضاً تاريخيّاً بحتاً لكانَ فرْضاً علينا الوقوفَ لتوثيقِ هذه المروياتِ ومقابلةِ أَسانيدها والتِماسِ موضِعِ رجالِها عند أئمةِ النّقّادِ، أمّا ونحنُ نعرضُ المادّة التاريخيةَ عرضاً أدبيّا فنِّيا، فحَسبُنا أن نطمئِنّ إليها، ونرى فيها حقيقةَ الصُّورة التي تَمَثَّلها القومُ للأمّ التي ولدتْ بَطلَنا الأعْظَمَ."3.
لمْ تكْتَفِ السّيدة عائشةُ عبدُ الرّحمن -رحمَها اللهُ - بالتأليفِ ونشرِ الكُتُبِ، بل كانتْ أيضاً أسْتاذةً مُزاوِلةً لمهمّةِ التّدريس في مُختلفِ الجامِعات بالعالمِ العربي كمِصرَ والجزائر ... أما في بلدِنا المغربِ فقدْ شَغَلت منصِبَ أستاذة الدّراسات القُرآنيةِ بدار الحديثِ الحسنيّة وكُلّيةِ الشريعةِ بجامِعة القرويّين بفَاس، لِمَا يُناهز عِقدينِ من الزّمان، تقول عن ذلك: " وأذكرُ بصادقِ التّقديرِ والعرفانِ، ما أفدْتُ من صُحبَتي، عشرينَ عاماً، لأبنائي طُلّاب الدّراسات الإسلاميّة العُليا بجامعةِ القرويّين العريقةِ، تعلّمتُ معهم في كلّ درسٍ لنا أو لقاءٍ، ما يُثْري وجُودنا العِلميَّ، ويُرهِف اعتزازنا بالانتماء إلى المدرسةِ الإسلاميةِ، بما نَهلتُ وإيّاهم، من ينابيعَ سَخِيّةٍ نقيّةٍ لسلفِنا العلماءِ النُّبلاءِ الصَّفوةِ ورثةِ الأنبياءِ"4.
ثالثا: نِضالُها من أجْل المَرأةِ المُسْلمةِ.
منْ أهمِّ القَضايا التي شغَلت اهتِمامَ الدُّكتورة عائشةَ عبد الرّحمن قضيةُ المرأةِ، حيثُ خَصّصَت حيِّزا غيْر يسيرٍ من كتاباتِها لهذا الموضوعِ، بدءاً بمُعاناتها في المُجتمعاتِ القَديمة والحَديثةِ، ثمّ حقوقِها المَنشودةِ والتي سُلبتْ منها بقوّةِ التّقاليدِ والأعرافِ الجائرةِ.
وتؤكدُ العالِمةُ المناضلةُ السّيدةُ عائشة عبد الرّحمنِ أنّ الرّجلَ - وهُو شقيقُ المَرأةِ- لا يستطيعُ مَحوَ المَرأةِ من الوجودِ، سواء بِالوأدِ المُميت، أو بالنّفي المُهين، فدورُ المرأةِ تفرِضُه الفطْرةُ البَشريّةُ والسُّنُنُ الكونيّة، تقُول في بَيان ذلك: "ثم كان هناك إلى جانب هذا كلِّه، بل قبل هذا كلِّه، العامِل الاجتماعيُّ والاقتصاديّ، المَحْكومُ بِسنَّة الفِطرةِ وقانونِ الطّبيعةِ: البِنْتُ حين تكْبُرُ، وعاءٌ للولدِ وصانعةٌ للبَنِينَ، ولئِنْ كان العربُ في نظرتِهم الجانبيّة إلى البِنتِ قدْ اعتبَروها كَلّاً عليهم وعالةً، فلم ينْتبِهوا إلى الجانِب الآخرِ، وهُو أنّه لا سبِيل إلى وَلدٍ لمْ تحمِلهُ أنْثى جنِيناً و تَغْذوه رضيعاً وتحضُنُهُ صبيّاً وتُربِّيهِ غُلاماً وترعاه رجُلاً، فإنّ الحياة كانتْ تسيرُ بمقتضى السُّننِ الثّابتةِ، مُقدِّرةً ضرورةَ وُجودِ البَناتِ لبقاءِ البشَريّة وعُمرانِ الكوْن، غيرَ معنيّة بما إذا كانَ القومُ مُنْتَبِهينَ إلى هذِه أو غير مُنْتَبهين."5.
كانت الدّكتورةُ عبد الرّحمن شَديدةَ النّقدِ لكثيرٍ من التّناقُضات التي تَسود بعضَ المُجْتمعات العربية في نظْرتِها إلى المَرأة، وذلك بتأثيرٍ من التّقاليدِ الموروثةِ، من ذلك قولُها: " وكالذي نشْهدُه اليومَ في البِيئةِ الرّجعيّة المُحافِظةِ، تُعلِّم الفتاةَ وتأذْنُ لها بالخروجِ للاحتِرافِ وقد تأْبى في الوقت نفْسِه على خاطبِها أنْ يَراها. وشبيهٌ به ما نَشهده في المجتمعِ الشّرقيّ: ترْقَى المرأةُ إلى منصبِ الأستاذِيّةِ بالجامعةِ ويُنكَر عليها عضويّة المَجامِع الإسْلاميّة والعَربيّة، مع التّرحِيبِ بها 'سِكرتيرة ' ومُوظَّفة إدارية! ويَضِيقُ أشَدَّ الضِّيقِ بظُهورِها في المؤْتمراتِ الإسْلاميةِ، ولا يحرِّك ساكناً إذْ يراها تشتَغِل في المَلاهي الليْليّة أو تشْربُ الخَمرَ علناً في الحانَاتِ والمَراقصِ ... وتظْهرُ عاريّةً في المَصَايفِ!"6. غيرَ أنّ نِضالَ الدُّكتورة عائشة عبد الرّحمن من أجْلِ حقوقِ وحرّية المَرأة المُسْلمة كانَ مُؤطّراً بالشّريعةِ الإسلاميّة ومنْضَبِطاً بقواعدِها وحدُودِها، وكَمِثالٍ على ذلك علّقتْ علَى قولِه تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ) بقولِها: "ومِنْ يومئذٍ فُرضَ الحِجَابُ على نِساءِ النّبيِّ، وعلى المُؤْمناتِ جميعاً، رمزَ تَصوُّنٍ وعِزّةٍ، وسِمَةَ كَرامَةٍ وتَرفُّعٍ عن الابْتِذَالِ ..."7.
وللدّكتورة عائشة عبد الرحمن تفسيراتٌ وتوضيحاتٌ لمعاني بعضِ النُّصوصِ الشّرعيّةِ التي يُؤَوِّلُها خُصُومُ النّظرةِ الإسلاميّة للمرأةِ تأويلاً سَلبيّاً، من ذلك قولُها: "وهمْ يَذْكرون في حِكايَةِ الضِّلع هذه، حديثاً مرويّاً عن الرّسول صلّى اللهُ عليه وسلّم يُشبِّه فيهِ المرأةَ بضِلعٍ أعوجَ، إن حاولتَ تقويمَه بالشِّدَّة والعُنفِ كسَرْتَه. وقد فَهِموا هذا الحديثَ فهماً حرفيّاً، مع أنّ الضِّلعَ فيه من التّعبيرِ المَجازِي الذي نَعرِفهُ في أسْلوبِ البيان العربِي. وإنّما هي وصِيّةٌ من نَبِيِّ الإسْلامِ بالتّرفُّقِ بالمَرأةِ والتّحذيرِ منْ أخذِها بالشِّدّةِ. مِثْلُه مِثْلُ قولِه عليهِ الصّلاة والسّلام: (رفقاٍ بالقَواريرِ)، فهل خُلِقت النِّساءُ منْ قواريرَ؟"8.
الهوامش:
1 – رواية "على الجِسْر، بين الحياة والموت" ص: 92.
2 – كتاب "مقدِّمة ابنِ الصّلاح ومحاسنُ الاصْطلاح" ص: 3.
3 – كتاب " تراجِم سيِّدات بيْت النُّبوة" ص: 104.
4 – كتاب "مقدِّمةُ ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح" ص: 8.
5 - "تراجم سيّدات بيت النبوة" ص: 454.
6 – المرجع نفسه، ص: 455.
7 – المرجع نفسه، ص: 348.
8 – كتاب "مقال في الإنسان" ص: 34.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.