بالياريا تُطلق رسميًا خط طنجة – طريفة وتكشف موعد تشغيل باخرتين كهربائيتين    عملة "البيتكوين" المشفرة تنتعش وسط العواصف الاقتصادية العالمية    5 وفيات و7 إصابات في حصيلة أولية لانهيار منزل بالحي الحسني بفاس    فاس.. انهيار مبنى من ستة طوابق يخلف قتلى وجرحى واستنفاراً واسعاً للسلطات    الزلزولي يهدي بيتيس أول نهائي قاري    أمن تيكيوين يوقف مروجي مخدرات    تأجيل قضية محاكمة ناشطين بحراك فجيج    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    اتحاد طنجة يضمن بقاءه في القسم الأول من البطولة الاحترافية    صدام إنجليزي في نهائي الدوري الأوروبي    سعر الذهب يتأثر باتفاق تجاري جديد    المغرب يقود إفريقيا الأطلسية نحو نيويورك    الصين وروسيا تجددان تحالفهما عبر إعلان مشترك شامل    أوروبا تكشف بضائع أمريكا المعاقبة    فتح تحقيق في ممارسات منافية للمنافسة في سوق توريد السردين الصناعي    أسبوع القفطان بمراكش يكرم الحرفيين ويستعرض تنوع الصحراء المغربية    أكاديمية المملكة تتأمل آلة القانون بين الجذور المشرقية والامتدادات المغربية    مواجهة حاسمة بين المغرب التطواني وشباب السوالم لتحديد النازل الثاني للقسم الوطني الثاني    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الشعر الحساني النسائي حاضر في فعاليات الدورة ال18 لموسم طانطان 2025    خبراء: انضمام المغرب ل"بريكس" غير مستبعد    في عيد ميلاده الثاني والعشرين: تهانينا الحارة للأمير مولاي الحسن    وزير الأوقاف المغربي يقيم مأدبة غداء تكريما لوزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة    مجلس تزطوطين يستقبل مسؤولي التطهير السائل ويصادق على جدول أعمال دورة ماي    انتخاب الكاردينال الأمريكي بريفوست بابا جديدًا للفاتيكان    المستشارون يدعون إلى تعديل خريطة الاختصاصات بين المركز والجهات    بعد إسقاط باكستان لرافال الفرنسية.. واشنطن تراقب أداء الطائرات الصينية المستعملة في الحرب مع الهند    وزير التشغيل والكفاءات يكشف إجراءات تفعيل العمل عن بعد بالمغرب    مكتب السياحة يسعى للحصول على تصنيف "China Ready" لاستقطاب السياح الصينيين    كرة القدم داخل القاعة لأقل من 19 سنة.. المنتخب المغربي يتعادل مع نظيره الإسباني (6-6)    "الأحمر" ينهي تداولات بورصة البيضاء    انتخاب الكاردينال الأمريكي بريفوست بابا جديدًا للفاتيكان    أتاي مهاجر".. سفير الشاي المغربي يواصل تألقه في "معرض ميلانو" ويعتلي عرش الضيافة الأصيلة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة        «أول مرة»… مصطفى عليوة يطلق عرضه الكوميدي الأول ويعد الجمهور بليلة استثنائية من الضحك    انفجار في مدينة لاهور الباكستانية وإسقاط مسيرة هندية    الأميرة للا حسناء تقيم بباكو حفل شاي على شرف شخصيات نسائية أذربيجانية من عالم الثقافة والفنون    محكمة الاستئناف بالرباط تُخفض عقوبة النقيب محمد زيان    أشرف حكيمي يدوّن اسمه في التاريخ ويصبح المدافع الأكثر تأثيرًا هجوميًا بدوري الأبطال    البرلمان يناقش رئيس الحكومة حول إصلاح وتطوير المنظومة التعليمية    أبريل 2025 ثاني أكثر الشهور حرارة عالميا    وداديون يحتفون بحلول الذكرى ال88 لتأسيس النادي    منصات المخزون والاحتياطات الأولية.. بنيات جهوية موجهة للنشر السريع للإغاثة في حال وقوع كوارث    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    السيد ماهر مقابلة نموذج رياضي مشرف للناشطين في المجال الإنساني    لجنة: زيادة مرتقبة للأطباء الداخليين    زيان قبل الحكم: قول الحق صعب.. والحق لم يترك لعمر صديق    الغربة والذياب الجائعة: بين المتوسط والشراسة    فنانون مغاربة يباركون للأمير مولاي الحسن عيد ميلاده ال22    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    مكناس تبدأ في بناء محطة قطار حديثة بتكلفة 177 مليون درهم    دراسة علمية تكشف قدرة التين المغربي على الوقاية من السرطان وأمراض القلب    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المهدي المنجرة المُنذر بآلام العالم ومَآسِيه
نشر في هسبريس يوم 13 - 08 - 2019

قيل ذات مرّةٍ عن المهدي المنجرة: "من حُسن حظ المغاربة أنّ المهدي المنجرة هو واحد منهم.. وإذا كانت لدى جنوب إفريقيا مناجم الذهب، ولدى مصر الأهرام، ولدى البرازيل القهوة، فلدى المغرب الفوسفاط والسّمك والمهدي المنجرة. كان يرى بعيداً مثل صقر، ويحلّق عاليا كطائر، ويتكلّم مثل حكماء الجبال الشاهقة في الصّين القديمة".
قال عنه ميشال جوبير، وزير الخارجية الفرنسي السابق، في إحدى المناسبات، إنّ "الجلوس بجانب هذا "المنذر بآلام العالم ومآسيه" لساعاتٍ طويلة يترك لديك انطباعاً بأنّك أمام رجل يشتغل في شباب كامل، مثل تلميذ يعالج واجباته المدرسية كما يليق".
جاب هذا الطائر المحلّق أزيدَ من مائة وأربعين دولة عبر العالم في تجربته الغنية مع الحياة، والمعرفة، حاور مختلف الثقافات، وجاور العديد من المعالم الحضارية، ولامس أفكاراً، وناظر عقولاً، وعاد ليجلسَ على كرسيٍّ صغير وطاولةٍ بسيطة في غرفة ضيّقة تحوطها كتب كثيرة مُبعثرة بكلّ اللغات، إنه يذكّرنا بالطاولة الخشبيّة الصّغيرة التي جعل منها الزّعيم محمد بن عبد الكريم الخطّابي مكتباً له بمركز قيادته بأزغار بأجدير الحصين خلال حرب الرّيف التحرّرية الماجدة التي خاضها ورفقاؤه ببسالةٍ منقطعة النظير ضدّ الاستعماريْن الإسباني والفرنسي الغاشميْن، إنه المهدي المنجرة المثقف المفرد الفريد الذي نراه اليوم ويراه العالم معنا مُفرداً في صيغة منتهى الجُموع.
في ذكرى رحيله الخامسة
في الثالث عشر من شهر (يونيو) الفارط 2019، حلّت الذكرى الخامسة لرحيل المهدي المنجرة، عالم المُستقبليات المفكّر المغربي المعروف. كان مُثقفاً فريداً ذا عقلٍ راجح بشهادة علماء ومفكّرين أجانب مرموقين، إلاّ أنه قوبل بنوعٍ من الجحود والنسيان من لدن بعض أبناء جلدته.. ولا عَجب فلا كرامة لنبيٍّ بين قومه..! كما نُسِجتْ أباطيل، وأشيعت ادّعاءات حول مدى تكوينه العلمي، ومستواه الأكاديمي الرفيع، إلاّ أنه مع ذلك أمكنه أن يتبوّأ أرقىَ المراتبَ، وأن يُدرك أسمىَ المنابر العلمية على الصّعيد الوطني والعالمي، كما أمكنه أن يتسنّم منازلَ عليا، وأن يحظى بتقدير الأوساط الثقافية والعلمية والفكرية والسياسية في مختلف أنحاء المعمور، وقد طفق نجمُه في السّطوع عندما بدأ يُدلي بدلوه عمّا أصبح يُطلق عليه ب"حرب الحضارات"، ولقد اعترف له بالتألق والنبوغ المفكر الأمريكي المعروف صمويل هنتنغتون، ونوّه به في كتابه الذائع الصّيت "صدام الحضارات".
المنجرة والأندلس
كان المنجرة مُداوماً على زيارة مدريد التي كنت أقيم بها حيث تعرّفتُ عليه فيها أواسط الثمانينيّات من القرن الفارط، كان يشطّ بنا الحديث فيها عن تاريخ هذه الحاضرة العريقة وماضيها التليد، نظراً لكونها تتميّز بخاصّيةٍ فريدة في تاريخها باعتبارها العاصمة الأوروبية الوحيدة التي تحمل اسماً عربيّاً، كما أنها أسِّستْ من طرف المسلمين تأسيساً، وكان الحضور العربي- الأمازيغي فيها حضوراً قويّاً وزاخراً، وقد أمست تُعتبر اليوم من أكبر المدن الأوروبيّة وأجملها، الأمير محمد بن عبد الرّحمن الثالث، خامس الأمراء الأموييّن في الأندلس هو الذي أسّسها في القرن التاسع الميلادي تحت اسم "مجريط". كان المهدي المنجرة مولعاً كذلك بزيارة بعض المدن الإسبانية الأخرى، خاصّةً في منطقة الأندلس لإلقاء بعض المحاضرات عن العلاقات الدّولية، والعلوم المستقبلية، أو المشاركة في العديد من المناظرات والندوات الثقافية الدولية وسواها التي كان يُدعى للمشاركة فيها..
مَتاعب السّؤال ومُنغّصاته !
الحديث عن المهدي المنجرة حديث ذو شجون يجرّ بعضُه بعضاً، وممّا كنّا قد سمعناه عنه أنه كان فتىً نشيطاً، يقظاً، ذكيّاً، مشاكساً، ومشاركاً منذ نعومة أظفاره، منذ أن كان صبيّاً طريَّ العود، غضَّ الإهاب، في شرخ الشباب، وريعان العمر خلال المرحلة الطلاّبية، في مختلف التجمّعات الشعبية التي كان ينظمها الوطنيّون، كما أنه كان يؤمّ المدرسةَ الحديثة و"الكُتّاب" (يُسمّى في المغرب المسيد)، وعندما التحق لاستكمال دراسته العليا بجامعة "كورنيل" في الولايات المتحدة الأمريكية كان لمّا يَزَلْ في ربيع حياته، كان شغوفاً كعادته بحبّ الإطّلاع والاستطلاع، مُشبَعاً بالفضول العلمي، والخوْض في مختلف حقول العلوم والمعارف، والتطلّع نحو استكناه واستقراء المستقبل، وسَبْر آفاق المجهول.. وكان فضوله المعرفي المبكّر يدفعه دائماً إلى السُّؤال والاستفسار عن كوامن الأشياء، وعن أسرار الحكمة، وعن حقول المعرفة بدون انقطاع، كان لا يتورّع من أن يسأل عن كلّ ما كان يخطر بباله ويدور في خلده، أو يعنّ له في دروب الحياة التي كانت تملأ رأسه، وذات مرّة ضاق به أستاذه ذرعاً في هذه الجامعة لكثرة تساؤلاته وفضوله العلمي فصاح فيه مُنبهراً: مَنْ أَنْتَ..؟ وأردفَ الأستاذ الأمريكي قائلاً له باسماً: "تساؤلاتك المتوالية الدقيقة ستعود عليك بالكثيرَ من المعارف، ولكنها قد تجلبُ لك معها كذلك الكثيرَ من المتاعب والمُنغّصات".. وصدق أستاذه وأصاب.
قِيمةُ القيَم
وفي إطلالة عاجلة على فكر، وبعض تأمّلات المهدي المنجرة في المجتمع، والتنميّة، والحياة، ومستقبل الثقافة، والاقتصاد، والعلم، والتعلّم الذي يُعتبر من المقوّمات الأساسية في حياة الفرد والجماعة في محيطه الاجتماعي، كان يقول في كتابه "قيمة القيم" : "… ورغم كثرة البرامج الدولية للتنمية، لاسّيما في أفقر الدول، حيث يزداد الاهتمام الدّولي، فإنّ المساهمة الوطنية نادراً ما تمثل أقلّ من سبعين في المائة من المجموع، وتبقى المساعدة الدولية التي تنتج عن هذا التعاون ضعيفة من ناحية الكمّ، إذن يصبح من الضروري القيام بمقاربة منظومية في التحليل لتقييم جودة التفاعل الثابت بين المستوى الوطني والمستوى الدولي، والمهمّ في هذه المساعدة الخارجية هي الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنه والتجارب الصّادرة منه. وبربط هذا المحتوى بالأحداث الراهنة خصوصاً بما يتعلق بدول صُنفت اقتصاديا ب (دول نامية) أو (في طور النموّ)، فإنّ إشكالية تبعية الدّول النامية للدول (المتطوّرة) مستفحلة كلما ارتبطت بما يُسمّى "مساعدات" من هذه الدّول، وجعلت معتمدها الرئيسي عليها بالرّغم من ثبوت ضآلة مساهمتها في النهوض، خصوصاً بقطاع الاقتصاد الذي أصبح ركيزةً أساسيةً للاعتراف بوجود الدّول في معالم القوة. إذ إنّ أهمّ ما يمكن أن يساهم في "النهوض" انطلاقا من التعاونات بين الدول مرتبط بعالم الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنها".
الثقافة المتوسطيّة
ونقرأ كذلك في هذا الكتاب الرّصين من جهة أخرى حول أهمية "الثقافة المتوسطية” التي تربط بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط فيقول: "إنّ ربط مستقبل هذه الدول ومستقبل قضاياها رهين بمستقبل الثقافة بها، على اعتبار أنّ الثقافة لها ارتباط عريق، وصلة وثقى بجميع جوانب الحياة، ولا يُمكن نسخ ثقافة مجتمع مّا، أو دولة مّا، في حيّز آخر تحت مُسمّى "نقل الثقافة"، لأنّ التعدّد وارد بحُكم أن لا شمولية لثقافة مّا من جهة، ومن جهة أخرى باعتبار الثقافة نسبيّة، والموروث الثقافي هو مفتاح من مفاتيح التنمية، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة لتعميم ثقافة مّا، أو نقلها، أو استنساخها، وإجبارها ما هي إلاّ محاولة للتشتيت، والتفرقة، والهدم وليس البتّة البناء".
ويقول المنجرة في هذا المجال أيضاً :" إنّ إحدى القضايا الأساسية بالنسبة لدُول حَوْض البحر الأبيض المتوسط، تتعلق بمستقبل ثقافاتها، لأنّ هذا المستقبل مرتبط بجميع الجوانب الأخرى للتنمية الإستراتيجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية إلخ.. أضف إلى ذلك أنّ هذا المستقبل غير قابل للانقسام، لأنّ هناك ثقافة متوسطيّة بكل ما تحملُ هذه الكلمةُ من معانٍ سامية"، وعليه فإنّ مفهوم "الثقافة" بما تضمره من أبعاد – حسب المنجرة –" لها وقعٌ عميق على مستقبل الشعوب ووجودها وارتباطاتها فيما بينها، وذلك نظراً لما لها من جذور ضاربة في عمق التاريخ، وما تكتنزه لواقع المستقبل".
ويؤكّد المنجرة في هذا القبيل: "إن الفرَضية السّابقة قد يظهر فيها شيء من المبالغة بالنسبة لأولئك الذي لا يهتمّون بالماضي، ولا بالإطّلاع على كتب التاريخ، وحسب تجربتي، فإننّي أدرك أنّه كلما ازددت اهتماما بالدراسات المستقبلية، زادني ذلك الشعور بالحاجة لترسيخ رؤيتي على أسس تاريخية صلبة".
الهويّة الثقافية
وفي مَعْرِض حديث المنجرة عن "الهويّة الثقافية" التي يعتبرها سبباً في وجود "منظومة القيم" وبغيابها تفشل المجتمعات في إثبات ذاتها أو هُويّتها يقول: "بأنّ هناك فترات يؤدّي فيها الانفتاح التلقائي وليس الانتقائي إلى غزو كبير، وإضعاف أعزّ ما للإنسان وهي هُويته الثقافية". ويركّز المنجرة على ضرورة صَيْرُورَة حَرَكية "التعلّم" من المهد إلى اللّحد، منبّها إلى ما يُمكن أن يجابه أو يعوق المسيرةَ العلمية بين هاتين المحطتين مستقبلاً، مشدِّداً على أنّ أهمّ عنصر من عناصر التعلّم هي (القيم) مشيراً في هذا المضمار: "وأهمّ عناصر التعلّم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإنّنا نؤكّد على دورها الفعّال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه، وأنّ ظهور القيم هو ظهور الحدّ الفاصل بين الذاتية، والموضوعية، وبين الحقائق، والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق، والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول، واللاّمعقول".
المنجرة وحاسوبه
كان المهدي المنجرة يستعمل باستمرار منذ ذلك الإبّان حاسوباً صغيراً يستخرجه خلال محاضراته، ويسجّل فيه مداخلاته وملاحظاته، سواء كان مُحاضراً، أم مُشاركاً، أم مُستمعاً، ولم يكن يفارقه أبداً، كان قد وضع له اسمًا أمازيغيّاً طريفاً إذ كان يسمّيه وينعته ب "يَطّو"؛ وهو اسم الفتاة الرّيفيّة التي لعبت دوراً كبيراً في مساعدة الجيش المغربي على استرداد مدينة طنجة من قبضة الإنكليز عام 1648 م بقيادة علي بن عبد الله الرّيفي، أحد كبار قادة المولىَ إسماعيل.
عشنا معه أيّاماً رغيدة ضيوفاً على طعام مُزٍّ، وشرابْ مُرٍّ، (كما كان يقول الشاعر الضرير- البصير بشّار بن بُرد !)، وفِكرٍ خلاّق، وأدبٍ رّفيع، ومع فيضٍ من قبسات، وقفشات، وهمسات، وإشارات، وإرهاصات، واستكناهات، واستغوارات، خبايا وخفايا "مِهنة" أو بالأحرى " مِحنة" السياسة...!
ومرّت الأيّامُ خلسةً، و"قصّرنا" في ليالينا مع رفقته الطيّبة، ولكنّنا لم "نقصّر" قطّ في صفاء صداقتنا، ونقاء عِشرتنا، وبهاء أنسنا، حافظين للودّ الجميل، وللذكرى العطرة، راعين لهما، حريصين على استحضارهما وصَوْنهما في كلّ وقتْ وحين ما حيينا...! وأنستنا هذه الأمسيات اللطيفة الحافلة باللحظات الرغيدة، والهنيهات السعيدة، والأحاديث الطليّة، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة، وعوّضها دفء الصّداقة التي مدّ الله حبلها طويلاً ومتيناً، وما فتئنا نحافظ على شعلتها المتّقدة إلى اليوم .
* عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.