بعدما فشلت كل محاولات الحركة الأمازيغية في إقناع حكومتي السيد عبد الله بنكيران والسيد سعد الدين العثماني وكذا البرلمان بمجلسيه، بتصحيح الاختلالات الواردة في مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، التي تمس بروح الدستور وبحقوق الأمازيغية في آن واحد. وبعد إحالة هذا القانون على المحكمة الدستورية لمراقبة مطابقته للدستور كمحطة أخيرة قبل خروجه لحيز التنفيذ، وجهت الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي إلى هذه المحكمة مذكرة مؤرخة في 31/8/2019، مقدمة إليها في شكل ملاحظات مفتوحة مكتوبة تلتمس فيها تحقيق العدل، بالتصريح بعدم مطابقة القانون التنظيمي المذكور للدستور، مع الأمر بوقف تنفيذه، أو العمل به. وحيث لا تخفي هذه الجمعية أنها – وهي تقوم بهذه المبادرة – كان يغمرها شعور باليأس والإحباط، اعتقادا منها أن خطوتها هذه ستلقى من المحكمة مصير الرفض نفسه الذي لاقته المبادرات المختلفة للحركة الأمازيغية من مؤسسات الدولة سالفة الذكر، غير أن ما فاجأ الجمعية حقا، ومن دون شك سيفاجئ كذلك الجميع، هو أن المحكمة الدستورية لم تحكم بالعدل الذي طلب منها فحسب، بل حكمت أيضا بالإنصاف غير المطلوب منها أصلا، الذي هو أسمى من العدل. واعتقد أن تعريف الفيلسوف إيمانويل كانط لفضيلتي العدل والإنصاف سيساعدنا على فهم مغزى هذا الحكم، ذلك أن هذا الفيلسوف حصر تعريف العدل في التطبيق الدقيق لما هو مسطر في القانون الجاري به العمل، أما الإنصاف فيعرفه بكونه صوت الضمير الحي الذي يدفع الجانب الرفيع من العقل إلى إقرار الحق والصواب غير المنصوص عليهما صراحة في القانون، مؤكدا أن التطبيق الدقيق للقانون قد يؤدي أحيانا إلى الظلم، وأنه لتفادي حدوثه، لا بد للقضاة اليقظين من الالتجاء إلى عدالة الإنصاف السامية، التي يرشد إليه صوت الضمير الحي. هذا بالضبط هو ما فعلته محكمتنا الدستورية، ذلك أنه بعدما تبين لها عدم مطابقة القانون المعروض عليها للدستور، لإقراره إدماج اللهجات الأمازيغية المختلفة في التعليم وفي مجالات الحياة العامة، بدل إدماج اللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة، وبعدما تبين لها كذلك أن هذا القانون خرق الدستور لارتكابه التمييز العنصري المحظور، بتقزيمه وظيفة اللغة الأمازيغية في التواصل وحده، ثم بعدما ثبت لها أيضا قيامه بجعل تدريس اللغة الأمازيغية مجرد حق فحسب، دون أن يجعله كذلك واجبا ولازما، مخالفا بذلك الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من الدستور، التي تنص على رسمية اللغة الأمازيغية، ما يخول لها أن تقوم بجميع وظائف اللغات الرسمية، أقول بعدما وقفت المحكمة على كل هذه الخروقات السافرة، صرحت بعدم دستورية هذا القانون مع أمرها بعدم تنفيذ مقتضياته، كما يقضي بذلك الفصل 134 من الدستور، فسوف يلحق الأمازيغية من جراء ذلك ضرر بليغ، يتمثل في الرجوع بها إلى جحيم مربع التسويف والتماطل والإهمال الذي عاشت فيه منذ الولاية التشريعية السابقة إلى الآن، لتنتظر هنالك تفرغ الحكومة القائمة لإصلاح العيوب الدستورية المرصودة في القانون المذكور، وتنتظر فيه أيضا حلول ذلك الحين الذي سيصادق فيه البرلمان على هذا الإصلاح، ليعود القانون من جديد إلى المحكمة الدستورية لمراقبة مطابقته للدستور، ولذلك تقديرا من المحكمة لمعاناة الأمازيغية حتما من انتظارها مرور هذا الاصلاح في هذا الصراط العسير والطويل، اعتبرت أن اكتفاءها فقط بالحكم بإبطال القانون لعدم دستوريته، سيشكل في حقيقته ظلما، لا عدلا، على اعتبار أن الأمازيغية ستكون هي الخاسر الأكبر لتعطل شروعها في الاستمتاع بحقوقها اللغوية والثقافية. ومن هنا لم تجد المحكمة من ملجأ آخر لتجنب حدوث هذا الظلم، إلا بالتجائها إلى عدالة الإنصاف، التي أرشدها إليها ضميرها الحي وعقلها الرفيع، لذلك صادقت على دستورية هذا القانون التنظيمي، لكن بشرط مراعاته تفسيرها المتعلق ببعض مواده المخالفة للدستور. إذن، من الواضح أن المحكمة الدستورية بذلت مجهودا فكريا جبارا لكي تجعل حكمها يحقق كل الأهداف النبيلة المتقابلة التالية: – قيامها بتطهير القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية من العيوب المخالفة للدستور العالقة به، وذلك بواسطة تفسيرها الصحيح والعميق. - مصادقتها على دستورية هذا القانون، بشرط مراعاته لهذا التفسير. - حماية الأمازيغية بذلك من العودة إلى جحيم الفراغ القاتل الذي كانت تعاني منه منذ مدة طويلة. - ضمان استفادة الأمازيغية توا من مزايا هذا القانون مع التفسيرات المدخلة عليه. ومن المؤكد كذلك أن حكمها الرحيم هذا سيدخل التاريخ من بابه الواسع، وستذكره الأجيال في كل العصور، لأنه أنقذ الأمازيغية وكذا مجتمعنا معها من الدخول في المنعرج المظلم المجهول، الذي قادهما إليه القانون التنظيمي المعيب، فأعاد بذلك سفينتهما إلى الطريق الصحيح الآمن. والحق أن هذه المحكمة لم تبرهن بحكمها عن سمو عدالتها فحسب، بل برهنت به أيضا عن استقلالها الكامل عن باقي السلط، وبالأخص السلطة الحكومية التي تعتبرها الأمازيغية هي المسؤولة الأولى عن جمودها وترديها، بدليل قيام هذه السلطة بشكل تحكمي واستبدادي بعرقلة صدور هذا القانون التنظيمي في الولاية التشريعية السابقة، وقيامها كذلك بإرادتها المنفردة، أي من دون إشراك الخبراء وكذا المعنيين بالأمر، بإعداد هذا القانون في تعجل وتسرع، ما جعله يصدر في شكله المشوه ذاك المخالف للدستور من جهة، والمتعارض مع حقوق الأمازيغية من جهة أخرى، وبدليل قيامها أيضا بوقف مسار الأمازيغية في مجال التعليم وفي مجالات أخرى، تحت ذريعة ارتباط هذا المسار بالصدور القبلي للقانون التنظيمي، ثم حبسها خروج هذا القانون لإطالة مدة هذا التوقف الجائر، التي بلغت إلى حد الآن ثماني سنوات. اما أخطر ما قامت به هذه السلطة فهو إقرارها تفعيل ترسيم اللهجات الأمازيغية المتعددة، عوض ترسيم اللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة، وذلك ضدا منها على إجماع الحركة الأمازيغية على وحدة هذه اللغة، وضدا منها كذلك على إرادة الدستور الواردة في الفقرة الرابعة من فصله الخامس، وكذا على الهدف الاستراتيجي للدولة من إقرار هذه اللغة الواحدة، الذي تتوخى منه أن يساهم في تعزيز التلاحم الوطني، على غرار ما تقوم به اللغة العربية الواحدة، والمذهب الديني الواحد، أما الادهى من هذا كله فهو أن قرار هذه السلطة كان حتى ضد الإرادة الملكية التي كرست هذا الهدف الوحدوي للدولة، من خلال إحداثها مؤسسة واحدة للأمازيغية، هي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بدل إحداثها معاهد لهجاتية متعددة في مختلف جهات المملكة، هذه الإرادة الملكية المعبر عنها صراحة في ديباجة ظهير هذا المعهد بما يلي: "واقتناعا من دولتنا الشريفة بأن تدوين كتابة الأمازيغية سوف يسهل تدريسها وتعلمها وانتشارها، ويضمن تكافؤ الفرص أمام جميع أطفال بلادنا في اكتساب العلم والمعرفة، ويساعد على تقوية الوحدة الوطنية". أما وجه الخطورة في إقرار لهجنة الأمازيغية فهو بالإضافة إلى مساسه في الصميم بوجود هذه اللغة ككل، لتكريسه تشتيتها وتفرقتها، يهدد كذلك الوحدة الوطنية لجعله من الأمازيغية عاملا للتفرقة والتمزيق، بدل أن تكون عاملا لتقوية الوحدة الوطنية، على اعتبار أن ترسيم اللهجات في مناطقها يشكل في عمقه قنابل موقوتة من شأنها أن تفجر استقرار بلادنا، وأن تقضي مستقبلا على وحدتنا الوطنية. وهكذا فعندما قامت المحكمة الدستورية بتفسير منطوق الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون التنظيمي التي نصت على تفعيل ترسم اللهجات الأمازيغية، بقولها: "إن مدلول اللغة الأمازيغية المخول لها طابع الرسمية، والمعنية بمجال القانون التنظيمي المعروض ينصرف إلى اللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة المكتوبة والمقروءة بحرف تيفيناغ، والمكونة من المنتوج اللسني المعجمي الأمازيغي الصادر من المؤسسات المختصة، ومن مختلف التعبيرات الأمازيغية المحلية، بشكل متوازن، دون إقصاء، والتي لا تتخذ طابع المكونات اللغوية قائمة الذات، ولا تمثل بدائل عن اللغة الأمازيغية الرسمية، وإنما روافد تساعد على تشكيلها على النحو المنصوص عليه في المادة الثانية (البند الثالث) من القانون التنظيمي المعروض"، فإنها تكون بهذا التفسير التصحيحي الصائب قد أعادت الأمور إلى نصابها الحقيقي. لهذه الأسباب كلها يحق لنا في المغرب أن نفخر، مثلما هو الحال في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي بريطانيا، بأن لنا أيضا محكمة عليا عادلة ومستقلة.