منقول عن ترجمتنا لكتاب "اللّغة الصامتة" لإدوارد هارت الأنتروبولوجي الأمريكي، فما أشبه اليوم بما نقله لنا شاهد من أهلها.. ... أما بالنسبة لقبيلة Tiv، فيعتبر الزمن لديها بمثابة كبسولة، حيث نجد لديهم وقتا للزيارات وآخر للطبخ ووقتا للعمل. وحينما نكون متواجدين في أي منهما، فلا يمكن قطعا التواجد فيهما معا. ويمتد مقابل الأسبوع في قبيلة Tiv من خمسة إلى سبعة أيام، ولا يتعلق بالتغيرات الكونية المرحلية الشبيهة بمراحل القمر. ويعين يوم الأسبوع انطلاقا من الأشياء المباعة في السوق المجاور. وهكذا سيسمى عندنا في واشنطون يوم الاثنين ب " السيارات "، وفي التيمور ب "التجهيز "، وفي نيويورك ب " كبة صوف "؛ وفي الأيام المقبلة سيصير ويتحول الاسم ذاته إلى مطبخ، وفي المدن المحترمة إلى سوائل أو جواهر، وهذا يدل على أن مجرد سفر ما سيجعلنا نرى تغيير اسم اليوم حسب المكان الذي نتواجد فيه. ومن بين الشروط المفروضة على نظامنا الزمني، القدرة على إلحاق عناصره : أي أن تصبح 60 ثانية مساوية للدقيقة الواحدة، وأيضا 60 دقيقة مساوية لساعة واحدة. ولقد زاغ الأمريكيون عن كل هذا نتيجة الذين لم يستطيعوا إدارة هذه التقسيمات الموحدة. ويرجع Henri-Alexandre Junod المختص في الشؤون الإفريقية على أن المطبب والشافي لدي Thonga كان يملك في ذاكرته ما يجعلها تمتد حول سبعين سنة، بحيث يمكن لها أن تعطي التفاصيل حول الأحداث السابقة، سنة بعد سنة. ونفس الإنسان عرف المرحلة باعتبارها " عهدا " احتفظت به ذاكرته فقدر المدة ب " أربعة أشهر وثمان مائة سنة ". ويتحدد الرد الفعلي لهذه الطرفة على الجزم بأن هذا الإنسان بدائي ومزاجه صبياني، ولا يعرف البتة ماذا يقول ؛ وبالتالي كيف يمكن لسبعين سنة أن تساوي ثمان مائة سنة ؟ ولا يمكننا والحال أننا أصبحنا منكبين على ثقافة ما، تجاهل هذه التصورات للأحداث المختلفة عن تصوراتنا ونحن نعتقد أن كل هذا يعد صبيانيا. ففي حالة Thonga يجب أن نذهب أبعد من كل هذا ما دام يبدو أن " العهد " و " التزامن " هما شيئان مختلفان تماما، وبالتالي لا يربطهما رابط في نهاية المطاف. وإذا كانت تبدو هذه المفارقات بين عدد كبير من الأنظمة الزمنية المختلفة نابعة من شتى الحضارات البدائية، فهذا ما يسمح لي هنا إلى الإشارة وتعيين شعوب وأمم متحضرة، أو قل مصنعة شأنها شأن أمتنا. وإذا أمكننا مقارنة الولاياتالمتحدة بإيران وأفغانستان، فسنلاحظ لا محالة اختلافات كبيرة في طريقة تصور الزمن. وهكذا يبدو موقف الأمريكيين من الموعد واحد. ولقد سنحت لي الفرصة يوما أن ألاحظ في طهران شبابا إيرانيين وهم يحضرون حفلة معينة، وحين حددوا الموعد من أجل البحث عن الضيوف، سقط بغتة كل شيء في الماء. وترك كل واحد خطابا معلنا فيه عدم قدرته على المجيء للبحث عن فلان، أو بالأحرى ينصرفون وهم يعلمون جيدا أن الإنسان الذي أوصوه بإيصال الخطاب لم يعد في إمكانه قطعا إيصاله. ولقد تصادف أن انتدبت فتاة ركنا قصيا من إحدى الأزقة، ولم يهتم بحالها أي إنسان. وفي هذا الإطار أخبرني بعض المخبرين التابعين لي، أنه شخصيا سبق له أن عاش سيلا من التجارب المماثلة. فحدث مرة أن أعطى أحد عشر موعدا لصديق لم يصادفه فيها أبدا. وفي المرة الثانية، وعد كل منهما الآخر على الالتزام بساعة الموعد ولا شيء يستطيع منعهما من الموعد المرتقب، فثبت أن الصديق لم يأت، وبعد خمس وأربعين دقيقة من الانتظار، اتصل الرجل هاتفيا بصديقه وكان لا يزال في بيته. وكان يردد تقريبا ما مفاده :« آلو من معي على الخط ،أأنت يا عبده ؟ » نعم « لماذا لم تأت؟ اعتقد أننا سنكون هذه المرة في الموعد ». ورد عبده بصوت المشتكي المعهود في اللغة الفارسية:« آه يا صديقي، لكن الجو كان ممطرا ». وإذا كانت المواعيد المقبلة لا تحمل شيئا للفارسيين عن عدم اكتراثهم، فليس الأمر كذلك بالنسبة للماضي، حيث غالبا ما يحنون إلى ما يعتبرونه من عجائب الماضي، ومن أعظم الأزمنة الثقافية الفارسية. وبمجرد النظر إزاء الماضي، يبدو أن المستقبل لا يحمل إلا جزءا يسيرا من الحقيقة. ونعلم كم استثمر رجال الأعمال من ملايين الدولارات في شتى أنواع الشركات، وبدون سابق تخطيط يخول لهم طريقة الاشتغال في هذه الشركات. ولقد تم في طهران شراء مؤسسة للنسيج من قبل إنسان لم يكن له القدر الكافي من النقود يمكنه من الإعداد والتجهيز الآلي الضروري، أو حتى تكوين العمال. وحين حلت فرق التقنيين بإيران من أجل الإقلاع الاقتصادي، كان عليها أن تدافع بلا هوادة ضد ما كان يبدو لها نقصا عاما في الإعداد والتنظيم. وبقدر ما نقترب من أفغانستان بقدر ما نبتعد عن النظام الزماني الأمريكي. وبعد سنوات خلت، حل رجل بكابول زاعما أنه يبحث عن أخ له. وكان يسأل كل تجار السوق هل سبق لهم أن رأوه، وهل يمكن لهم مده بعنوانه في حالة وصوله إلى كابول ورغبته في رؤيته. وأقبل في السنة المقبلة مرددا نفس الشيء، وطالبا من أحد أعضاء السفارة الذي صادفته به رياح أبحاثه: هل تراه استطاع الاهتداء إلى أخيه طيلة مدة غيابه؟، فأجابه الرجل بأن الجميع اجمعوا على وجوده بكابول، لكن لم يقل أحد منهم في أي سنة كان بها. وهكذا تبدو هذه الحكايات أيضا غريبة، ويمكن فهمها بسهولة حين نحللها تحليلا دقيقا. ويستدعي هذا التحليل نظرية ثقافية مناسبة، أتمنى أن أكون قد أفضت بما فيه الكفاية في إغناء هذه النظرية قبل العودة إلى إحدى الفصول الأخيرة المتعلقة بالموضوع نفسه والتي تمثل مجال اهتمامنا- أعني الزمن-. وعند توضيحنا لتفاعلية الزمن وباقي المظاهر المجتمعية، سيتجلى لنا آنذاك سر هذه اللغة الثقافية المفحمة والبليغة في كل أشكالها وتنوعاتها المفترضة.