تعتمد كل دول العالم في تحسين صورتها على تقديم "عرض ثقافي" يُمثل وضعها الصناعي والحضاري والتاريخي، ويُجسد من جهة أخرى قوتها وجودة منتجاتها وقوة تعليمها، وحرصها على صيانة حقوق الفرد والجماعات، كما يُمثل تعددها وتنوعها الثقافي والحضاري... إن الطبيعة العذراء الخلابة والشمس الدافئة وحدها لا تكفي..رمال الصحراء والشواطئ الشاسعة وحدها لا تكفي...الجبال والهضاب وغروب الشمس وحدها لا تكفي...الواحات الصحراوية وعيون المياه الجوفية والشلالات وحدها لا تكفي... الطيور النادرة والوحش في الصحاري ونبات الصبار وأشجار الزيتون وشجرة أركان وحدها لا تكفي... لجذب السياح وجعل المغرب الوجهة المفضلة للاستثمار. لأنه لا بد من العمل على بناء بنية تحتية قوية من طرق وقناطر عصرية وفنادق وخطوط حديدية وجوية ومستشفيات ومدارس ومعاهد وغيرها، ونُضيف إليها الكثير من تقاليدنا في الكرم وحُسن الضيافة مع الكثير من عبق تاريخنا في الأسوار والقلاع والقصور، ونجمع أشلاء ذاكرتنا الجماعية الفكرية والروحية داخل المكتبات والمتاحف، ونبوح بشكل علني بتنوعنا وبتعددنا الثقافي في مهرجانات المسرح والسينما والقفطان المغربي والفنون الشعبية والتشكيلية، ونسجل الملكية الصناعية للكسكس المغربي والطاجين ونجعل منهما سفيرين للمغرب في كل مطابخ العالم وموائده...أما الفخار والزليج وشجرة الأركان فكلها تُعلن بصوت عال انتمائها إلى المغرب.. إن كل هذا ويزيد يُشكل مكونات أساسية لكل صناعات العرض الثقافي، يُهدف من ورائه تحقيق عناصر "الجذب"، سواء للسياح أو للشركات وللاستثمارات الأجنبية.. لأنه باعتمادنا على ما وهبتنا إياه الطبيعة فقط من سحر وجمال، دون الاشتغال عليه وتحسينه وتكييفه وتطويره... لن يكفي لتكوين صورة جميلة عن المغرب... كما أنه لا يمكننا الاستمرار في اختزال كل تاريخ مدينة مراكش مثلا وما تزخر به من قصور وأضرحة ومآثر عظيمة فقط في ساحة جامع الفنا...ولا يُمكننا التمادي في اعتبار أشعة شمس مدينة أكادير هي البضاعة الوحيدة في سوق السياحة بالمدينة...ولا يمكننا الاستمرار في سياحة موسمية في مدينة الصويرة ومهرجان غناوة ذي العُمق الإفريقي....وقس على ذلك كثير. ففي العديد من الحالات فالسائح يبحث عن "الحكي" والمغامرة أكثر من بحثه عن بضاعة أو تذكار، وعليه فإنه لا يجب إغفال "عُنصر الحكي" في كل إستراتيجيات العرض الثقافي والسياحي... يجب أن نسمع "حكيْ" أسوار وحدائق مكناس الإسماعيلية، وحكي المدن العتيقة الأخرى موغادور (الصويرة) ومازاغان (الجديدة)، وتحكي لنا مدينة فاس عن قصورها ومساجدها وأسواقها وملوكها، ومن الحكي لا نستثني تطوان والدارالبيضاء (أنفا وبرغواطة...) والليكسوس (العرائش) وإمارة النكور (الريف) والشاون ووجدة وقبائل الصحراء وتُجار القوافل ومدينتيْ سبتة ومليلية المحتلتيْن...واللائحة طويلة. لكن "عُنصر الحكي" يستوجب من جهة أولى الدراية بقواعد الحكي وقراءة التراث والتقاليد بلُغة جديدة وبلغة الرقمنة... كما يستوجب من جهة أخرى حُضورا قويا "لفضاءات الحكي"، التي من بينها المكتبات الوطنية، حيث نفائس المخطوطات. ويكفينا فخرا نحن المغاربة أن لنا خزانة القرويين، وهي أقدم مكتبة في التاريخ، إذ يعود بناؤها إلى سنة 859 ميلادية. وبالمناسبة هل عرفنا كيف نحكي مكتبة القرويين...؟ حتى نجعل من حكينا هذا عُنصر "جذب" للعديد من الباحثين والمفكرين يلتفون حول أربعة آلاف مخطوط و600 مطبوعة حجرية ونفائس نادرة من مختلف العلوم..وحتى نجعل من مكتبة القرويين ومن مدينة فاس ملتقى عالميا للفكر والثقافة...؟. وقد عرفت العديد من هذه الفضاءات لمسة تأهيل وترميم وأيضا للرقمنة، حفظا لها من الضياع والتلاشي...ولا بأس هُنا أن نفتح قوسا للحديث عن المكتبة الزيدانية أو مكتبة بن زيدان، وهو أحد سلاطين الدولة السعدية، والذي كان يجمع كل ما توصل إليه المسلمون من علوم في مكتبة خاصة، ضمت آلاف المجلدات والمخطوطات. ستستقر نفائس المكتبة الزيدانية بالإسكوريال بإسبانيا، بعد ظروف سياسية عصفت بحُكم السلطان بن زيدون السعدي، ومنذ ذلك الوقت طالب كل المتعاقبين على حكم المغرب باسترجاع المكتبة المغربية، وكان مصير كل محاولات الاسترجاع الفشل لإصرار الإسبان على الاحتفاظ بها، إذ قاموا بترجمة جميع تلك الكتب إلى اللغة الإسبانية. وفي دجنبر 2009، وبعد أربع سنوات من المفاوضات، ستتم الموافقة على استنساخ حوالي 1939 نسخة من المخطوطات العربية، خاصة من الخزانة الزيدانية، وإعداد نُسخ منها على الميكروفيلم لخدمة البحث العلمي. وقد تمت مراسيم تسليم النسخة الرقمية للمخطوطات في يوليوز 2013 بين مؤسسة التراث الوطني الإسباني والمكتبة الوطنية المغربية بحضور ملك إسبانيا خوان كارلوس وأمير المؤمنين محمد السادس. وهنا أيضا، هل نجحنا في حكي "المكتبة الزيدانية" باعتبارها منارة علمية و"شاهدة إثبات" على علو كعب المفكرين والفلاسفة والعلماء والفقهاء في المغرب والأندلس وغيرهم...؟. ومن جهة أخرى ففضاءات الحكي تعني أيضا المتاحف، حيث الحديث عن الذاكرة الجماعية للمغرب وللتنوع والتعدد الثقافي المغربي، ولحضارة المغرب ودوره في "لعبة الأمم" في السلم والحرب، وتقاليده وعاداته الحياتية سواء في أدوات مطبخه أو ملبسه وزخرفة بيوته أو حلي نسائه وفخاره ونقوشه... ولسنوات طويلة ظلتْ "ثقافة المتاحف" بالمغرب مسألة نخبوية وترفا ذهنيا، في المقابل لُوحظ تطور مجتمعي كبير بأهمية المتاحف على مستوى الذاكرة الجماعية، وكذا في تنمية عنصر الانتماء والهوية الوطنية من جهة، وحاجة المغرب إلى التعريف بتاريخه وانفتاحه على ثقافات أخرى واعتبارها عنصر "جذب" للسياح من جهة أخرى. لقد كان ضروريا أن تعرف المتاحف المغربية نقلة نوعية تخرجها من الإهمال والرتابة والنسيان، نقلة تجعل من المتاحف رافعة للتنمية ولصورة المغرب الحضارية؛ وأنه ملتقى الثقافات والحضارات منذ زمن بعيد. وقد تُرجمت هذه النقلة بتوقيع قانون 01.09 بتاريخ أبريل 2011، والمعلن عن ولادة المؤسسة الوطنية للمتاحف، والتي ستتولى بموجب هذا القانون الوصاية على كل متاحف المملكة وبأعمال الصيانة والترميم وإعادة التأهيل، حتى تستجيب للمواصفات الحديثة وتجعل من المتاحف فضاءات عمومية رحبة وجذابة تساهم في التعريف بمختلف أوجه الثقافة الوطنية وكذلك الدولية، وفي فهم مختلف الثقافات من فنون وأركيولوجيا وتاريخ وخبرات وهندسة معمارية...وتقوية الحكامة المتحفية... بعد هذا التاريخ، ستُصبح المؤسسة الوطنية للمتاحف وصية على المتاحف بدل وزارة الثقافة، وسيمثل نقطة انطلاق ورش وطني ثقافي كبير لحماية التراث الثقافي للمملكة، تميز بتدشين متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، والمتحف الوطني للآثار والعلوم، بالإضافة إلى عمليات إصلاح وترميم وتهيئة لكل من متحف الخزف بآسفي ومتحف الفنون الصحراوية بالعيون ومتحف تطوان وطنجة وغيرها.... فخريطة المتاحف المغربية عكست التنوع والتعدد الثقافي المغربي، وهكذا نجد مثلا متحف الفنون الأمازيغي بأكادير ومتحف الفنون الصحراوية بالعيون إلى جانب المتحف اليهودي المغربي بالدارالبيضاء الذي تم تأسيسه سنة 1997، وهو الأول في العالم العربي، يحكي من خلال معروضاته عن تأثير الثقافة اليهودية في المجتمع المغربي سواء في مجال الطبخ أو اللباس والحلي وغيرها... إن "ثقافة" ارتياد المكتبات أو المتاحف تتطلب الكثير من الوقت والجهد، لأنها ترتبط بميكانيزمات ذهنية وعقلية، ما يعني أن اكتساب "عامل التعود" على ارتياد المتاحف، هو ورش آخر يدخل في ضمن ابتكار آليات جديدة واستعمال الثورة الرقمية لخلق الفضول اللازم لدى المواطن للذهاب للمتاحف، في إطار دمقرطة الثقافة والفن.. لكن بين بُلدان رائدة في صناعة العرض الثقافي حيث استثمارات قوية في المكتبات والمتاحف بأغلفة سخية تتجاوز المليارات، وتُعد متاحفها بالآلاف وتدر عليها عائدات مالية بالملايين وتوفر فرص شغل كثيرة، وبلدان تعتبر المتاحف ترفا فكريا وذهنيا وعملا نخبويا، فإن الأمر يدعو حقيقة للخجل حيث تُسجل الفئة الأولى ملايين الزوار سنويا (فمتحف اللوفر مثلا يتجاوز عدد زواره تسعة 9 ملايين زائر سنويا....)، وتستحي الفئة الثانية من الإعلان عن عدد زوار متاحفها ومكتباتها وفضاءات حكيها...! صحيح أنه لا مجال للمقارنة كما يُقال، لكن لا يجب أن يشكل لنا هذا حاجزا نفسيا للتطلع، بل حافزا لتسطير إستراتيجية تدبير عقلانية جديدة لهذا الملف ليس على المستوى الوطني، بل أيضا على المستوى الجهوي.. إن "فضاءات الحكي" وتنوعها وتعددها يمتد إلى كل الأنشطة الفنية كالمهرجانات السينمائية والمسرحية والفنون الشعبية ومعارض الكتاب والأسواق الأسبوعية والبازارات والاحتفال بالفرس والقفطان والطاجين وشجرة الأركان وغيرها... لأن هذا يُشكل فقط جُزءا من العرض الثقافي وليس كُل العرض الثقافي، والذي يخدم مجال صناعة صورة المغرب وقوة تأثيره بالخارج، بالإضافة إلى حسناته في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.