غير بعيد عن مقر بناية عمالة الفقيه بن صالح، تقبع العشرات من الأسر، ضمنها أرامل ومتقاعدو القوات المساعدة، في منازل "متواضعة" تتكون من طوابق سفلية، ملامحها تختزن تاريخا يمتد إلى سبعينيات القرن الماضي. هذه البيوت التي تُعرف ب"ديور المخازنية"، وتنتصب على مقربة من مقر عمالة الفقيه بن صالح الشامخ، المُزيّن بالزجاج المعتّم والشفاف والأشكال الهندسية العصرية، لم يمنح موقعها للساكنة فرصة العيش الهادئ، خاصة بعدما أعلنت مؤخرا السلطات الإقليمية عزمها ترحيل القاطنين إلى مكان آخر تحت مبرر المنفعة العامة، حسب الضاوي عبد الغاني، الذي شبّ بين أطراف هذه الدور المتناثرة، التي لا يجمع بينها سوى قاسم الآباء الذين خدموا الوطن سنوات طوال. وسؤال الترحيل هذا لم يعد يؤرق متقاعدي الفقيه بن صالح وحدهم، فقد بات يلاحق المئات من المتقاعدين بكل من الخميسات ومراكش وبني ملال وأزيلال وسلا والرشيدية وغيرها، وشكّل دافعا نحو احتجاجات مفتوحة لازالت متواصلة حتى الآن، يوحدها الهدف والمطلب وتختلف من حيث الشكل؛ انطلقت شرارتها مؤخرا وأفضت إلى تأسيس تنسيقيات جهوية ومجلس وطني لازال الاعتراف به يراوح مكانه في رفوف السلطات المعنية. يقول بنجي محمد، متقاعد ستيني غطى الشيب محياه، كان يجلس قرب محل تجاري بالكاد يستقبل زبونا: "كنا نقبع تحت سقيفة من القش، بعد أربعين عاما بديور المخازنية، وبعدما هرمْنا ونحن نؤثث بيوتنا ونصلح ما اهترأ منها من أجورنا الهزيلة، تأتي السلطات اليوم لتقول بدم بارد "سوف يتم ترحيلكم عما قريب من أجل المنفعة العامة"..إذن أخيرا وليس آخرا تذكرَتْنا السلطات بعد جراحات اجتماعية تكبدنا مرارتها بعيدا عن أبنائنا". وتحكي مّي رابحة، التي ندبت خدها أثناء وقفة احتجاجية نفذتها عائلات المتقاعدين مؤخرا خوفا من جرافات المخزن: "بهذا البيت وضعتُ أربع بنات وثلاثة أولاد ذكور..كان كل شيء بسيطا، جدران إسمنتية عادية بها دورات للمياه قديمة ومساحة للمطبخ يزداد ضيقها كلما زاد فرد على العائلة، ما تطلب منا مع توالي الزمن توفير مبالغ مالية من أجرة أزواجنا واقتراض أخرى للقيام بإصلاحات وترميمات كنا بحاجة إليها..حينذاك لم يكن أحد يتكلم عن محنتنا، ولم يكن مصطلح الترحيل حاضرا". ومّي رابحة ليست سوى واحدة من ضمن عشرات الأسر التي اهتزت قلوبها فور سماعها خبر عزم السلطات على إفراغ ديور المخازنية لفائدة مشروع تابع للمكتب الشريف للفوسفاط، كما تشير لوحتا إعلانات موضوعتان بالقرب من إحدى الدور التي أفرغتها الجهات المختصة بناء على حكم قضائي، دون أن تفصحا عن طبيعة هذا المشروع. ويقول الضاوي عبد الغني: "لقد نزل علينا الخبر كالصاعقة. لا أحد منا كان يعتقد بعد مرور كل هذه السنوات أنه سيجد نفسه في يوم من الأيام بين عشية وضحاها مهددا بقرار الإفراغ، خاصة أن الأمر يتعلق بفئة أفنت عمرها بعيدا عن أسرها في خدمة الوطن والدفاع عن وحدته الترابية"، وأضاف: "بعض المتقاعدين لا يمكنهم وهُم في سن السبعينات أن يشرعوا في عملية البناء بدخْل شهري هزيل، ما يعني أن منحهم بقعة ولو بالمجان يعني التشريد أو في أحسن الأحوال السكن تحت جحيم "الميكا" والقصدير". وتابع الضاوي ماسكا أوراقا بيده عبارة عن بيانات ولوائح للمتضررين: "لا أحد حسب اعتقادي سيتقبل هذا القرار بشروطه الحالية، ليس رفضا لقرارات السلطات، وإنما بسبب العوز وغلاء العقار مقارنة مع ما ُيقدمُ من اقتراحات لهذه الفئة التي لازال البعض منها يتقاضى أجرا لا يتجاوز 1500 درهم، والبعض الآخر تقل أجرته عن 1000 درهم، ومنهم من يعاني من أمراض مزمنة (رجل يعاني من مرض السرطان، وسيدة من القصور الكلوي وتخضع لأربع حصص تصفية الدم خلال كل أسبوع)". وأكد المتحدث أن جل القاطنين بالحي رفضوا بعد اجتماعات ماراطونية الحلول المقترحة، لأنهم رأوا فيها محاولة لتشريدهم من منازلهم التابعة للأملاك المخزنية قصد تفويتها للمكتب الشريف للفوسفاط، بعدما قضوا فيها أزيد من 40 سنة، ما يعني أن العرض المتوفر إلى حد الآن غير مقبول، لأنه لا يرقى إلى مستوى تطلعات الساكنة، على عكس ما قدمته الجمعية من حلول واقعية، منها إعادة هيكلة الحي، أو استغلال وعاءات عقارية فارغة قصد إعادة الإيواء، أو توفير مساكن جاهزة بغرض الإفراغ الفوري..ويقول محمد بنجي لهسبريس: "إني أفضل أن تنهار هذه الجدران على جسمي وفوق رأسي على أن يتم ترحيلي قسرا وأنا في هذه السن المتقدمة، وبعدما كنت من أول المحاربين بتخوم الصحراء في سنوات السبعينيات". واسترسل بجي محمد، الذي يعلو قسمات وجهه القلق من المستقبل: "إن المصلحة العامة تقتضي من سلطات الفقيه بن صالح والمجلس الجماعي الالتفاتة إلى الحي وإصلاح أزقته ودعم المحاربين الذين وَهَنَ العظمُ منهم وكبُر أولادهم في زمن العطالة، ولم تعد تتسع لهم هذه البنايات..".."هذا ما يجب استحضاره في هذه المصلحة العامة، لا أسلوب التهديد والوعيد بهدم الجدران فوق رؤوسنا..أي مسؤول هذا الذي يقول هذا الكلام في وجه أناس بسطاء لا يشاركون في التظاهرات أو الوقفات... أناس يحملون -وكما كانوا دائما-كل خصال الوطنية وحب العرش والوطن"، يقول الرجل الستيني بعد صمت عميق انتهى بزفرات مثقلة بفواجع الماضي الدفين في تخوم الرمال. وأوضح الضاوي أن هذه البنايات تابعة للأملاك المخزنية، وليست مساكن وظيفية يمكن تفويتها، معتبرا قرار التفويت إجراء غير قانوني بما أن قاطنيها يؤدون واجب الكراء للجهات المختصة، ما يفرض عليها التراجع عن تفويت المنطقة حماية لهذه الأسر من التشريد، وأردف بأن جمعية "الخير" لعائلات متقاعدي القوات المساعدة بالفقيه بن صالح كانت قد كشفت في بيان لها أن تفويت هذه المنطقة للمكتب الوطني للفوسفاط سيتسبب في تشريد عدد من الأسر، مذكرة بأن العرض الذي قدمته سلطات الفقيه بنصالح خلال لقاء ال 8 من نونبر المنصرم لا يرقى إلى مستوى تضحيات قاطني الحي، إذ تضمن مبلغ 45 ألف درهم والاستفادة من بقعة أرضية مساحتها 70 مترا مربعة بمنطقة تدعى سيدي خلخال، لا تعرف الساكنة حتى مكان تواجدها بالمدينة، وفق البيان ذاته. وكشف الضاوي عبد الغني، رئيس الجمعية ذاتها، أن المعنيين بالرحيل يقترحون إعادة هيكلتكم في المنطقة نفسها باعتبارهم مُلّاكا مُفترضين يؤدون واجب الكراء للأملاك المخزنية وقاطنين لعقود طويلة، أو على الأقل تعويضهم بسكن آخر يتناسب مع عدد أفراد كل عائلة على حدة، مشيرا إلى أن هناك مرسوما وزاريا يؤذن فيه للأملاك المخزنية بأن تبيع المساكن لقاطنيها، وزاد: "نحن أولى أن تفوت لنا هذه المساكن". وكانت سلطات مدينة الفقيه بن صالح أصدرت "قرار المنع" في حق المسيرة التي دعت لها التنسيقية المحلية لقدماء العسكريين والمحاربين وقدامى الدرك الملكي وقدماء القوات المساعدة وأبناء وأرامل الشهداء، مُعللة ذلك بكون الإطار سالف الذكر "لا وجود قانونيا له"، وبأن الإخبار الموجّه إليها بخصوص تنظيم المسيرة لا يستجيب للشروط الشكلية والموضوعية المنصوص عليها في القوانين الجاري بها العمل، فضلا عن الإخلال بالنظام والأمن العامين الذي يمكن أن تتسبب فيه المسيرة. واستغرب المصرّحون الترسانة الأمنية التي شهدها محيط حي “بيرو أعراب” بمدينة الفقيه بنصالح، يوم أعلنت التنسيقية المحلية ذاتها تنظيم المسيرة السلمية، معتبرين ذلك "أسلوبا غير حضاري في مثل هذه القضايا المصيرية للسكان"، خاصة أن الجمعية المذكورة كانت هي الأخرى أشعرت السلطات المعنية بتنظيم المسيرة عن طريق عون قضائي، وهو ما تم رفضه أيضا حسب رئيسها. وكشف المتقاعد أسرغين الحسين أن رحيل التعزيزات الأمنية من جانب ديور المخازنية "لا يعني مطلقا رحيل الخوف والفزع من نفوس العائلات، خاصة النسوة منهم، فهاجس اقتحام السلطات للمكان بعدما هدمت بنايتين مجاورتين أضحى كابوسا لدى كل القاطنين، ما يكشف أن أساليب التخويف خلّفت أضرارا نفسية في صفوف القاطنين"، وفق تعبيره، واعتبر "لجوء عدة عائلات إلى وضع العلم الوطني على أبواب عدد من البنايات وبأزقة هذا الحي المتواجد في قلب مدينة هادئة إجراء احترازيا من أي تدخل محتمل للقوات العمومية تحت ذرائع مختلفة، خاصة بعد وضع لوحة إعلانات تحمل على طرفيها اسم عمالة الفقيه بن صالح والمكتب الشريف للفوسفاط وبوسطها عبارة "مشروع بناء قطب تكنولوجي بمدينة الفقيه بن صالح"، ما يفيد حسبه بأن تداعيات هذه القضية لازالت مفتوحة على كل الخيارات، بما في ذلك التدخل بالقوة لإفراغ المتقاعدين من بيوتهم.