في 12 من شهر مارس الماضي صدر كتاب جديد لجوزيف ناي، وهو الأب الروحي ل"القوة الناعمة" أو "القوة الذكية". ويتضمن الإصدار الجديد "هل الأخلاق ذات شأن...؟" العديد من الأجابات عن أسئلة طرحها الكاتب الأمريكي، وتتعلق بموضوع الأخلاق وعلاقتها بالسياسة الخارجية الأمريكية والعلاقات الدولية....وهل هي مهمة في السياسات الخارجية. وتناول "جوزيف ناي"، وهو المفكر المتخصص في العلاقات الدولية، تحليل ثنائية الأخلاق والسياسة من خلال جرده تجارب القادة الأمريكيين من روزفلت إلى الرئيس الحالي ترامب. وتزامن صدور الكتاب مع حدثين هامين؛ الأول هو الحملة الانتخابية لرئاسيات الولاياتالمتحدةالأمريكية، والثاني هو الحرب على جائحة كورونا...وحملات التضامن الدولي والمساعدات الدولية للدول الأكثر تضررا، إيطاليا نموذجا؛ وكل ما رافق ذلك من تحاليل تتجه إلى تسييس تلك المساعدات ودخولها في نطاق تحالفات أيديولوجية أو اقتصادية...ما جعل عامل الأخلاق يحظى بمساحة أصغر في عمليات المساعدات الدولية...وهناك من وصفها ب"دبلوماسية الكمامات"، أو "طريق الحرير الطبي الجديد" أو غيرها..ما ينفي عن كل تلك المساعدات المقدمة في زمن الحرب على كورونا أي وازع أخلاقي. وقد حظيت المساعدات الطبية الكوبية بالكثير من التعاليق...بحيث يُمكن تبرير المساعدات الطبية الصينية لإيطاليا بالقوة الاقتصادية للصين، ويُمكن تبرير المساعدات الطبية الروسية لإيطاليا بكون روسيا دولة قوية ونووية وعضو دائم في مجلس الأمن وفاعل قوي في مجال العلاقات الدولية...لكن صعُب أمْر تبرير المساعدات الطبية الكوبية لإيطاليا، وهي الدولة القوية والمنتمية إلى مجموعة الدول الأكثر تصنيعا جي 7 ومؤسس للاتحاد الأوروبي..و...هذا مقارنة مع جزيرة كوبا وتاريخ صراعها مع أمريكا ومقاومة زعيمها "فيديل كاسترو" لكل أشكال الحصار والعقوبات الاقتصادية الأمريكية. وهذا ما يجعل الطريق سالكا لطرح أسئلة أخرى، كهل مساعدات كوبا هي تضامنية، أي ينتصر فيها عنصر الأخلاق..؟ أم هي نوع من خرق الحصار الأمريكي... وإستراتيجية لفتح أسواق جديدة وتحالفات جديدة... وبالتالي يُمكن توصيفها ب"دبلوماسية صحية". فقد رفع فيديل كاسترو، الرئيس السابق لكوبا، شعار "أطباء...لا قنابل" من بوينس أيرس عاصمة الأرجنتين سنة 2003...وتأكيده أن كوبا لن تتبنى أبدا هجومات مسلحة استباقية ضد البلدان الأخرى، بل ستكون مستعدة لإرسال أطبائها إلى كل أقطار العالم عندما يُطْلب منها ذلك...وهو ما يعني أن "الدبلوماسية الصحية" تعتبر جُزءا من العقيدة الأيديولوجية والسياسية لكوبا، ليس فقط بمناسبة جائحة كورونا، حيث أرسلت أكثر من 800 من أطباء وممرضين ومتخصصين في علوم البيولوجيا إلى أكثر من 13 دولة مختلفة لمحاربة فيروس كوفيد 19المستجد...بل إن كوبا وقًعت على حضورها من خلال حضور أطبائها في كل الكوارث السابقة، كزلازل باكستان وأندونيسيا ووباء الكوليرا في هايتي، وفيروس إيبولا في إفريقيا الغربية....وقبل أكثر من 60 سنة عندما أرسلت أول بعثة من أطبائها إلى الجزائر سنة 1963...كما استجابت كوبا لطلب Cyril Ramaphosa رئيس جنوب إفريقيا وأرسلت له حوالي 200 من الأطر الطبية والممرضين للمساعدة في الحرب على جائحة كورونا..كما أرسلت بعثات طبية أخرى إلى العديد من الدول الإفريقية. وهذا يعني أن القطاعات المرتبطة بمجال الصحة والتمريض والطب الرياضي هي قطاعات إستراتيجية بالنسبة للسياسة الخارجية لكوبا، وموجهة أساسا لخدمة العلاقات الخارجية. كما يتم تسخير الأطر الطبية الكوبية لفك الحصار والعقوبات الاقتصادية...وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير عندما أرسلت أطباءها إلى إيطاليا لمواجهة فيروس كوفيد 19..وتم اعتبار ذلك حدثا سياسيا كبيرا باعتبار إيطاليا من الدول السبع الأكثر تصنيعا في العالم ومؤسس للاتحاد الأوروبي وعضو في الحلف الأطلسي ( الناتو )...كما أنها أرسلت أطباءها أيضا إلى إمارة أندورا بإسبانيا. كل هذا يجعلنا نميل إلى تغليب السياسة والمصالح والتحالفات الإستراتيجية في مسألة المساعدات الدولية، أكثر من كفة التضامن والأخلاق...وأن الأمر يدخل في مجال دبلوماسية القوة الناعمة أو القوة الذكية...كما يدفعنا من جهة أخرى إلى التفكير في آليات جديدة تسمح لنا نحن أيضا بجعل كل من الصحة وما يرتبط بها من مجالات كأحد آليات "الدبلوماسية الصحية"، خاصة في العمق الإفريقي، وكيف نجعل منها مصدر قوة وتأثير في مجالات أخرى... صحيح أن القطاع الصحي المغربي يعيش أوضاعا غير سليمة...لكن تجربة جزيرة كوبا الصغيرة تجعلنا نقف على أن المشكل ليس هو الموارد المالية فقط، بل أولويات السياسات العمومية...ومجال لتجديد وابتكار في آليات جديدة في مجال الدبلوماسية الناعمة. لقد جعلت كُوبا من أطبائها جيوشا وسفراء في كل العالم، حتى إنها أغرقت القارة الإفريقية بالأطباء والممرضين... وهو ما عاد عليها بمداخيل مهمة من العملة الصعبة في شكل استثمارات ووفود سياحية وغيرها.. بالإضافة إلى إنجازات سياسية وإيديولوجية في إطار العلاقات الدولية. وهذا ما يجعلنا على موعد جديد مع قواعد لعب جديدة، خاصة ما بعد زمن كورونا...حيث يجب إعطاء الأولوية للقطاع الصحي، ليس لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأمن الصحي وبجودة عالية فقط..بل لنجعل منه دبلوماسية ناعمة وذكية خاصة في العمق الإفريقي..واعتباره قطاعا إستراتيجيا حيويا للسياسة الخارجية المغربية، ما يُوجب معه خلق "المجلس الأعلى للصحة" إلى جانب المجلس الأعلى للتعليم والمجلس الأعلى للأمن. نعتقد أننا تأخرنا بالفعل في مجال "الدبلوماسية الصحية"، لكن هذا لا يعني الاستسلام لإكراهات مرحلية... ولأن رحلة الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى..فإننا نعتقد أن الخطوة الأولى هي المجلس الأعلى للصحة.