إحباط محاولة جديدة للهجرة السرية على سواحل إقليم الجديدة    المجلس الجماعي للجديدة يصادق على جميع نقاط جدول أعمال دورة ماي 2025    الدردوري: منصات المخزون والاحتياطات الأولية تجسيد للرؤية الملكية في تعزيز الجاهزية لمواجهة الكوارث    الدولي المغربي أشرف حكيمي يقود باريس سان جيرمان لنهائي دوري الأبطال    الشرطة القضائية بالعرائش تتمكن من إحباط محاولة تهريب طنين من مخدر الشيرا وتوقيف ثمانية أشخاص    بعد جلسة استمرت 12 ساعة.. المحكمة تحجز ملف النقيب زيان للمداولة    الشرطة تحبط محاولة تهريب طنين من الشيرا بالعرائش وتفكك شبكة إجرامية متورطة في التهريب الدولي عبر البحر    الطيران الباكستاني يؤكد تفوقه ويسقط مقاتلات هندية متقدمة داخل مجالها الجوي    ارتفاع أسهم شركة "تشنغدو" الصينية بعد تفوق مقاتلاتها في اشتباك جوي بين باكستان والهند    منتدى التعاون الصيني الإفريقي: كيف أرسى أسس شراكة استراتيجية؟    مكناس تبدأ في بناء محطة قطار حديثة بتكلفة 177 مليون درهم    تفكيك شبكة دولية للمخدرات بين العرائش وتطوان    اتفاقية رقمنة تصدير منتجات الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي بالمغرب    حكيمي يقود سان جيرمان لتجديد الفوز على أرسنال وبلوغ نهائي الأبطال    عبد اللطيف حموشي في زيارة عمل إلى فيينا ويلتقي مسؤولي أجهزة استخبارات من قطر وتركيا والسعودية والإمارات وباكستان    غزة تُباد.. استشهاد 102 فلسطينيا في سلسلة مجازر إسرائيلية وإصابة 193 خلال 24 ساعة    وهبي: "أشبال الأطلس" مستعدون لمواجهة أي منتخب في الدور القادم    بلقشور يكشف عن موعد إجراء مباراتي السد ويؤكد تواجد تقنية "الڤار"    التجسس على "واتساب": القضاء الأمريكي يغرم "إنزو" الإسرائيلية بمبلغ 168 مليون دولار لصالح "ميتا"    استهلك المخدرات داخل سيارتك ولن تُعاقبك الشرطة.. قرار رسمي يشعل الجدل في إسبانيا    باكو.. الأميرة للا حسناء تزور المؤسسة التعليمية "المجمع التربوي 132–134"    تصعيد خطير في جنوب آسيا: سلاح الجو الهندي يتكبد خسائر بمئات الملايين بعد هجوم باكستاني دقيق    لمواجهة الكوارث.. الملك يعطي انطلاقة إحداث منصة للمخزون والاحتياطات الأولية    المصطفى الرميد: لا تعارض بين الانحياز لقضايا المغرب ونصرة غزة    الأخضر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    رئيس الحكومة الإسبانية يثني على مساهمة المغرب في تجاوز أزمة انقطاع التيار الكهربائي    مجلس أوربا: قانون العقوبات البديلة "منعطف تاريخي" في المنظومة القضائية المغربية    العصبة تكشف برنامج الجولة الأخيرة من البطولة الاحترافية    الجزائر تواصل مطاردة المثقفين.. فرنسا تتلقى مذكرتي توقيف دوليتين ضد كمال داود    صحيفة أجنبية: المغرب يعد الوجهة السياحية الأولى في إفريقيا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ملاحظة نقدية من طرف ألفونس ويلهانز حول جان بول سارتر والعقل الجدلي    ذاكرة النص الأول بعيون متجددة    أبو الأسود الدؤلي    توقيف مواطنين فرنسيين من أصول مغربية يشتبه تورطهما في قضية تتعلق بالسكر العلني وارتكاب حادثة سير بدنية مع جنحة الفرار    دراسة علمية تكشف قدرة التين المغربي على الوقاية من السرطان وأمراض القلب    ديزي دروس يكتسح "الطوندونس" المغربي بآخر أعماله الفنية    من إنتاج شركة "Monafrique": المخرجة فاطمة بوبكدي تحصد جائزة وطنية عن مسلسل "إيليس ن ووشن"    إسبانيا تمول محطة تحلية عملاقة بالمغرب ب340 مليون يورو    الخطوط الملكية المغربية و"المبنى رقم 1 الجديد" في مطار JFK بنيويورك يبرمان شراكة استراتيجية لتعزيز تجربة المسافرين    لأول مرة في مليلية.. فيلم ناطق بالريفية يُعرض في مهرجان سينمائي رسمي    من هي النقابة التي اتهمها وزير العدل بالكذب وقرر عدم استقبالها؟    بركة: نعيش سنة الحسم النهائي للوحدة الترابية للمملكة    من المليار إلى المليون .. لمجرد يتراجع    الزمالك المصري يقيل المدرب بيسيرو    "التقدم والاشتراكية": الحكومة فشلت على كافة المستويات.. وخطابها "مستفز" ومخالف للواقع    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    "كوكا كولا" تغيّر ملصقات عبواتها بعد اتهامها بتضليل المستهلكين    فليك يتهم الحكم بإقصاء برشلونة ويُخاطب لاعبيه قبل الكلاسيكو    دافيد فراتيزي: اقتربت من فقدان الوعي بعد هدفي في شباك برشلونة    المغرب يستقبل 5.7 ملايين سائح خلال 4 أشهر    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    تحذير من تناول الحليب الخام .. بكتيريات خطيرة تهدد الصحة!    استقبال أعضاء البعثة الصحية لموسم الحج    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجاح "الطوندونس" .. هل تحول "الفذ المُبدع" إلى "حسن الصّانع"؟
نشر في هسبريس يوم 21 - 05 - 2020

"تكمن مشروعية أي تراكم كوميدي يقود صاحبه إلى الشّعبية والشهرة والكسب المادي الكبير في مدى قدرته على تقديم قدوة طيبة تحوله من مُفسد للقيم ولبنيات التربية والتنشئة إلى مُساهم في بناء ذهنيات حداثية بنّاءة، وذلك من خلال تسلية الناس وإسعادهم بأشكال جميلة ومضامين نيِّرة".
تحليق سريع عبر مسار الكوميديا الوطنية
عرفت الكوميديا المغربية ولادتها الأولى من تقاليد الحلقة والسّمر المنزلي والنزهات وأشكال الفرجة التي كان يقدمها فنانون تقليديون، يهود ومسلمون، في الأسواق وبعض الساحات العمومية، وكذا في قصور الأعيان وكبار القوم في المغرب قبل القرن العشرين.
تطورت الفكاهة بشكل بسيط في شكلها خاصة؛ رجع ذلك إلى منع الاستعمار للنقد وخوفه من تحولها إلى أداة للتوعية ضده، فانحصر تطورها شكلا ومضمونا في استعادة أمجاد الماضي الإسلامي مُضمَّخًا بأساطير خارقة حول شخصيات عديدة ومتنوعة مثل: "سيدنا علي" وسيفه البتار، و"سيف ذو يزن" وقدراته الخارقة، و"هارون الرشيد" وصرامته وعدله المشهود، إلخ.
تطورت الكوميديا بعد ذلك وانتشرت عبر الإذاعة والتلفزيون بعد الاستقلال. كانت البدايات المرئية والمسموعة كبيرة الشعبية في ظل غياب بدائل وانحسار القراءة والكتابة بسبب تفشي الأمية. تطورت الفكاهة بعد ذلك كميًّا، ويمكن في عجالة الحديث عن الفئات التالية لهذا التطور:
الكوميديون القدماء
وهم أفراد وثنائيات أمثال بوشعيب البيضاوي وبلقاس، وعبد الجبار الوزير وعبد الرؤوف، وقشبال وزروال... كانت تلك الفكاهة بسيطة وصادقة شجعها وتبناها كل من الإذاعة والتلفزيون خاصة، اعتمدت في الغالب في صيغها الفرجوية على السُّخريةَ من البدوي أو من الشلح أو السوسي أو من الجبلي أو من الفاسي، وأحيانا من اليهودي المغربي، كمُكوِّن من مُكونات المغرب المُتعدد والمتنوع ثقافيا وعقائديا.
اتسمت تجربة هؤلاء وغيرهم بتلقائية ساذجة في المضامين الحكائية وبسطحية وجمود في الصيغة الجمالية. لم تتجاوز هذه الصيغ تسليةً تكاد تكون بريئة ومُقلِّدة للرائج في الحياة اليومية، مع توظيف "نْقَايم" وحكايات شعبية وطرائف معروفة تناقلتها الأجيال لعقود. كانت المرافقة بآلتي "الڭنبري والبندير"، وهي الآلات الموسيقية الشعبية التي تطرب اللاوعي الجمعي الشعبي، إضافة إلى لباس الجلباب والطاقية بطريقة غير معتادة للتميز عن المألوف، تشكل أهم مظاهر "الإبداع" في الفرجة جماليا، فهي ما كان يضفي طربية وحلاوة على ما كان يشبه الحلقة ببساطة تكاد تكون تبسيطية.
الكوميديون المناضلون
وهم من حظي بشعبية كبيرة وحماسية لكنها مسيسة. حجب أسلوب هذه الفئة الإبداع لفائدة خطاب نقابي وحزبي جسده ثنائي "باز وبزيز" خاصة. كانت تلك التجربة متأثرة بمفهوم للالتزام لم يُميِّز بين خدمة المُعارضة السياسية وبين تمثيل الشعب بشكل إبداعي. لم يمنع ما سبق توافق القيم النبيلة التي كانت تجمعهم والعمل الكوميدي والمعارضة فلسفيا وليس سياسيا.
حققت تجربة "باز وبزيز" شعبية كبيرة، وخاصة في الأوساط الشبابية وأوساط الطلبة والمثقفين والمتحزبين اليسارين، ولدى فئات عريضة من ساكنة الأحياء الشعبية الفقيرة والمُهملة. وجعلت فترة توتر العلاقات بين المعارضة والمركزيات النقابية المحسوبة عليها وبين الدولة (جعلت) "الخطاب" الحماسي السياسي لتلك الفكاهة يلقى إقبالا كبيرا، على الرغم من خُلوه من أي صيغة إبداعية فنية تخلده وتدخله تاريخ قطيعة مع الكوميديا الشعبية البسيطة من المنظور الجمالي الإبداعي.
الفنانون الشعبويون
وهم الذين مثلوا، ويمثلون، الأغلبية. ما تزال آلة إعادة إنتاج أمثالهم-للأسف الشديد-تشتغل وتتوسع بأشكال متعددة وبنشاط لا يتوقف، مُستفيدة من قوانين الإنتاج التي أدخلتها الحكومة السابقة حيز التنفيذ لإصلاح أعطى نتائج كارثية على الإبداع والمبدعين، وعلى التحديث الإعلامي والثقافي والسمعي البصري للبلاد في بعده التواصلي والتربوي الجماهيري.
تتميز الأعمال الفكاهية للفنانين الشعبويين بخلوها المُريع من أي جماليات أو إبداع أو صناعة ثقافية متوازنة وتنويرية شكلا. كما أنها تتميز بضحالة المضمون وعجزها الفاضح عن التقاط حتى اليومي في إشراقاته، وذلك لصياغة محتويات، (شخصيات وحوارات ومواقف ...)، قابل للتطويع في أشكال كوميدية ابتكارية تخلخل التقليد المُشوِّه لواقع ينطق بمونوغرافياتٍ وبظواهر وبمظاهر غنية تحتاجُ ذكاء واطلاعا وتكوينا وتقنيات مسرحية ومشهدية وبصرية وحكائية دراماتورجية لتوليدها فنا جذابا ذكيا ومضيئا.
من أمثال الفئة المذكورة، فنانون شعبيون بسطاء لكنهم شعبويون، (نميز بين الفنان الذي يتحمل مسؤولية مخاطبة الآلاف وبين الأشخاص)، الدسوكين والزعري اللذان كرَّسا نمطَ العروبي البليد ونشرا، خاصة الدسوكين، نموذجا لغويا شوَّه العربية والدارجة على حد سواء. نسوق هنا عبارة "ما عندي لا أناقة ولا جمال" على سبيل المثال لا الحصر. لقد اتسمت جل أعمال هذه الفئة بتفاهة منقطعة النظير لقت رواجا في أوساط الهجرة القروية وجموع مسحوقيها خاصة.
من هنا تظهر أهمية المركز الاقتصادي الدار البيضاء، جزئيا، في إنجاح هذا النوع من الأعمال المستمر إلى اليوم على شاشات التلفزيون المغربي.
سيظهر بعد ذلك كثيرون من هذا النوع من الفكاهيين، ومنهم ثُنَائِيَا "التيقار" و"الصداقة"، اللذان لم يكن لهما من المستوى ما يستحق الاهتمام هنا على الاطلاق.
بعد كل ما سبق، سيظهر بطلا هذه الفئة في تاريخ الكوميديا المغربية، أقصد السيدين عبد الحق فهيد الذي أفل نجمه، ومحمد الخياري الذي يأبى أن يتطوّر مع استطاعته المُحافظة على حضور في ظل وضع معطوب للمشهد الإعلامي الوطني، وهو ما لم يستغله إبداعيا وجماليا على قاعدة فكرية للرقي بإنتاجاته خارج ضغط كسب القوت وعبور الشّعبية الجوفاء.
يبدو أن جل، بل كل أعمال هاذين "النجمين" – ظهر إلى جانبهما في العشارية الأخيرة آخرون أسطوريو الغباء أنانيو الأهداف ضعاف الفكر، لا يفارقون الشاشة التلفزيونية بل ويلطخون حتى شاشة السينما بفضل مخرجين، سامحهم الله، يلهثون وراء الربح وشعبية قاتلة للفن ومكرسة للضحالة – هي أعمال "غير مُفكر فيها" أو أنها كذلك بدماغ من تِبْن.
تميُّزُ تجربة
أمام إفلاس الشكل الفني والمضمون الفكري والبنية الحكائية والعبث السلبي التواصلي لأغلبية الإنتاجات الفكاهية الوطنية، (فكاهة وسيتكومات وسلسلات وسكيتشات وما يسمونه بالكاميرا الخفية)، التي تلطخ شهر رمضان على الخصوص، والتي تعتمد شعار الترويح والتسلية! وأمام ريع الفرجة الرخيصة التي تغمر مشهدنا الإعلامي التلفزيوني وغيره! قدّم الفنان حسن الفذ منذ سنوات أعمالا فنية فكاهية عديدة، شكَّلت اختلافا واضحا عن السائد عموما من الأعمال التي قدمها ويقدمها التلفزيون المغربي خلال شهر رمضان على الخصوص.
تميزت أعمال الفنان حسن الفذ بكثير من الذكاء والإبداع والحذق اللغوي في مجملها. وإذا كانت بدايته على شكل سكيتشات خفيفة تارة ومطولة، من خلال سلسلة حلقات، مرات أخرى، فقد بنت تلك الأعمال للفنان حسن الفذ صيتا وشهرة جعلته من أكثر الكوميديين المغاربة شعبية ومقبولية لدى النقاد والمهتمين من المثقفين والصحافة المغربية، إضافة إلى جماهير عريضة.
اتخذت الأعمال الكوميدية لحسن الفذ في البداية طابعا نقديا اجتماعيا، التقط من خلاله حس الشارع ونبض المجتمع ومعاناته متعددة الأوجه مع الإدارة ومع العقليات المتكلسة والعادات والتقاليد البالية، ومع بعض مظاهر التخلف في الأوساط والشرائح الاجتماعية المختلفة.
كانت قدرات حسن الفذ التشخيصية الكبيرة جسديا وإيمائيا صوتا وحركات، إضافة إلى سيطرته على رصيد لغوي، دارج وفصيح، ينبع من القلب النابض للحياة الشعبية في تجلياتها الهامشية و"المتبرجزة"، علاوة على ذكائه في التقاط النمطي في الخطاب الإعلامي الوطني من جهة، والرسمي و"المُثقَّفِي" من جهة ثانية، كان لكل ذلك دور أساسي في تميز وإبداعية أعماله التي ظهرت "مُمتلئة" شكلا ومضمونا، إذا ما قورنت بالضعف الإبداعي والفني الذي لفَّ ويلُف الغالبية الساحقة من الأعمال الكوميدية الأخرى.
من أسباب تميز وتوفيق أعمال حسن الفذ، حرصه على اختيار شركائه ضمن وضوح رؤية فنية لديه. يظهر ذلك في تمسُّكِه بالإدارة الفنية والانطلاق من فكرة ونص يتحكم فيه وإن شاركه آخرون كتابته.
يؤخذ بعين الاعتبار كذلك تحويله لمشروعه الفني إلى مقاولة محترفة فصل فيها بين الإنتاج والفن، وبين مصالحه وإمكانية اختراقها من أي جهة، وعيا منه بمعنى الصناعات الفنية ونجاحها واستمراريتها.
الفذ المُبدع
مكَّن كل ما سبق الفنان حسن الفذ من القطع مع الفنان الهاوي الذي كان. جعلته هذه القطيعة في مساره بين مرحلتين، يفرض نفسه كشخصية عمومية من موقع صناعة الفن الكوميدي. أصبح حسن الفذ إذاً شخصية مُؤهلة لحمل رسائل رسمية وغير رسمية – الفنان المحبوب الناطق بهموم المجتمع، ومُشخص إشهار مؤسسات رسمية خاصة وعمومية وشبه عمومية تشهر إنتاجاتها تجاريا لا غير – كرّسَت شخصه كقُدوة وكرمزٍ للنجاح دخلت مُخيلة الشباب والمراهقين وجماهير ملايين المشاهدين المغاربة بل حتى غير المغاربة.
مع سلسلة "الكوبل" ثم سلسلة "كبور" خاصة، بلغ حسن الفذ مستوى كبيرا من الرمزية والقدرة على التأثير. فقد غدت الشخصيات التي يقدمها جزءا من المشهد الإعلامي ومن الأحاديث العمومية والتغطيات والمتابعات الصحفية وأخبار الفن والتعليقات المتداولة عن اليومي. بل غدت شخصيات الأعمال الكوميدية لحسن الفذ، أكثر من ذلك، تُسْتعار في نقد ومواكبة الحياة السياسية: أصبح "كبور" حكيما ينصح ويسخر ويعلق ويُفتي في عدد من القضايا الوطنية.
إنه نجاح منقطع النظير ومُستحَق عن ذكاءٍ وحُسن تدبير وجُهد متواصل وبحث عن التميز والتجديد، فما القُدوة التي يقدمها الكوميدي حسن الفذ من خلال أعماله تلك بشكل فني وبحس ذكي؟
بين تكريس القائم التقليدي والايحاء بتجاوز الزمن له نعتقد وباختصار شديد أن الأعمال الناجحة المذكورة للفنان حسن الفذ شكّلت مصدرا لتعرية مظاهر اجتماعية وذهنيات بائدة، يفرض تحديث مجتمعنا التخلي عنها.
لا تصل رسائل العمل الفني، كيفما كان نوعه، بخطاب مباشر ركيك وخال من الإبداع، بل الأكثر نجاعة هو الإيحاء بها عبر مواقف قد تبدو مُكرِّسة للمُراد خلخلته حيث يكون الموقف الساخر تبخيسا ونقدا قويا لما يُضحِكُ رغم ذلك، إلا أن طبيعة الجماهير المغربية المُستهلكة للكوميديا والمتآلفة مع الضعف الجمالي، الفاقدة لأي حِسٍّ حداثي تربت عليه، وتشبعها بالتقليد وتمسُّكها به، قد تجعل أعمالا فنية كوميدية مثل أعمال حسن الفذ تكرس أكثر مما توحي بنقد والتنبيه إلى ما هو عائق نحو تقدم المجتمع ذهنيا وثقافيا واجتماعيا.
حسن الصانع
كتب ثلة من النقاد الرصينين القليل ظهورهم وإنتاجهم واستشارتهم من طرف الصحافة الرائجة، لفائدة أقلام نقدية وصحافية تحتاج العمق والرصانة والإبداع في المقاربات النقدية، (هذا وجه آخر لسيادة السطحية والضعف الفكري في مشهدينا الإعلامي والفني)، (كتبوا) أن حسن الفذ بدأ منذ الجزء الثاني من سلسلة "الكوبل" في تكرار نفسه، فقد بدى وكأنه يدخل في نوع من النمطية في تصميم أعماله كوميديا وفنيا: نفس اللغة وايحاءاتها، نفس الأوساط الاجتماعية والذهنيات تتكرر في أعماله وإن تغير شكل العمل وإلباساته الجمالية، نفس الأداء جسديا وإيمائيا، ونفس خصائص الشخصيات الرئيسية عقليا، ملابس وغباء وذكاء نمطي أصبح من السهل توقعه...إلخ
نكتفي تعليقا على هذه الآراء التي لا نتفق معها كاملة، بالتساؤل: أليس الكثير من ذلك نتيجة طبيعية لسيطرة "حسن الصانع" على "الفذ المبدع" في تطور اشتغال الفنان حسن الفذ الطبيعي؟
من دلالات "طوندونس"
من الأعمال الحديثة للفنان حسن الفذ هذه السنة سلسلة "طوندونس"، وهو عمل تم إنجازه بنفس طريقة عمل حسن الفذ، مُمسِكا بالتلابيب الفنية على مستويات الكتابة والإدارة الفنية والتشخيص.
تقوم سلسلة "طوندونس" لحسن الفذ بتقديم سلسلة نعتبرها، بالدارجة المغربية المقعقعة، نوعا من "الطَّنزٍ العَكْريٍ" مُدثَّرا ب"عراءٍ" فنيٍ من صنف ما "يطنِزُ" عليه فيها، سواء من حيث الأسلوب الفني أو من حيث التصور البصري أو من حيث ال"نَّاب"، في ما ينطق به من حوارات. ففي هذا العمل الكوميدي تُوظِّفُ كتابة "حسن الصانع" "الأغبى" مِما هو موجود في الواقع المَرِير.
نقصد مما سبق أن سلسلة "طوندونس"، التي نعتبر أن حسن الفذ كممثل وكاتب ومدير فني وصاحب الفكرة هو المسؤول الأساسي والوحيد عنها، تقدِّمُ للمشاهد ببراعة وبإتقان وبإيحاء قوي، شخصيات من المجتمع ترسُم مفارقة مدهشة ومضحكة حد البكاء. إنها شخصيات تمثل منتهى الرعونة والغباء، وقوة مقاومةٍ شعبيّةٍ محرومة من تربية حد أدنى لواقع صعب، والتفوق في التكيف معه، من خلال ذهنية متفردة و"تصور" للحياة وللعالم، وفهمِ الحب والزواج والآخر والكسب والعمل والعصر بشكل فريد من الصعب تصوره رغم كونه جزءا من واقع فئات هامة من المجتمع.
إن سلسلة "طوندونس" في نظرنا تعكس-عن وعي أو غير وعي، والمرجح عندنا هو وجود قصدية ذكية وإيحائية-نتائج سياسات عمومية معطوبة استغرقت عشاريات، في التعليم والإعلام والثقافة والصناعات الفنية والثقافية، أنتجت نماذج عبثية لوعي مبتور وشخصيات سوريالية الوعي بذاتها وبالعالم وبالواقع، بقدر ما هي شخصيات أسطورية طيبوبتها وسكونها لبعضها في "غيتوه" ذهني واجتماعي، يكشف عنه عمل حسن الفذ بسخرية وباختيارات جمالية عارية عراء واقعها الذي تقدمه.
هل تخلى حسن الفذ عن مهام الفنان الملتزم، "فنان الشعب"، لفائدة مصلحة نرجسية وربحية؟
وهل الانتقال من الممارسة الإبداعية غير المنتظمة في سياق مؤسسي إلى سياق مؤسسة الصناعة الفنية هو بالضرورة تخلٍّ عن الالتزام بالمعنى الجمالي الإنساني؟
ثم ما المسافة بين السائد التبسيطي والضحل من إنتاجات فكاهية، يعوزها النضج شكلا ومضمونا، أعمال ترزح تحت نرجسية السعي للشهرة والكسب بتشويه القيم والقدوات والثقافة المغربية، وبين ما ينجزه الفنان حسن الفذ؟
لعل نقادا ودارسين ومهتمين ومجموع المجتمع المدني ينتظرون من حسن الفذ تطويرا إبداعيا للقب "فنان الشعب المبدع والمتميز"، ليحقق ما لم يتوفق في تحقيقه كثيرون ممن سبقوه وعاصروه على تنوع تجاربهم وأعمالهم.
شخصيا لا أعتقد أن الأعمال المُقبلة للفنان حسن الفذ ستفرِضُ تقديرا جماليا فكريا ونقديا، ما لم يتم تصميمها بجرأة جمالية متميزة عما حققه إلى حد الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.