وسط "تعنت" ميراوي .. شبح "سنة بيضاء" بكليات الطب يستنفر الفرق البرلمانية    العودة إلى موضوع "شباب لا يشتغلون، ليسوا بالمدرسة، ولا يتابعون أي تكوين"!    الدار البيضاء.. افتتاح الدورة الثالثة للمنتدى الدولي للصناعة السمكية بالمغرب    وكالة بيت مال القدس الشريف ترعى البازار الأول للمنتجات اليدوية ل«ذوي الهمم» في القدس    بعثة المنتخب الوطني المغربي النسوي لأقل من 17 سنة تتوجه إلى الجزائر    "فيفا" ينظم أول نسخة لمونديال الأندية للسيدات    إضراب كتاب الضبط يؤخر محاكمة "مومو" استئنافيا    إطلاق نار على رئيس وزراء سلوفاكيا ونقله إلى المستشفى    حماية ‬الأمن ‬القومي ‬المغربي ‬هو ‬الهدف ‬الاستراتيجي ‬الأعلى    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار يتوقع نمو الاقتصاد المغربي ب3% خلال 2024    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية الباراغواي بمناسبة العيد الوطني لبلاده    موريتانيا.. مقتل جنديين في تحطم طائرة تدريب عسكرية    فتح بحث قضائي حول تورط شرطي في ترويج الكوكايين    انتخاب المكتب التنفيذي للمرصد المغربي لمكافحة التشهير والابتزاز    توسيع 6 مطارات مغربية استعدادا للمونديال    تطوان تستضيف الدورة 25 للمهرجان الدولي للعود    بما في ذلك الناظور والحسيمة.. 2060 رحلة أسبوعية منتظمة تربط المغرب ب135 مطارا دوليا        مدينة محمد السادس طنجة تيك تستقطب شركتين صينيتين عملاقتين في صناعة مكونات السيارات    تأجيل القرار النهائي بشأن الغاز الطبيعي بين نيجيريا والمغرب    دراسة: صيف 2023 الأكثر سخونة منذ 2000 عام    تسجيل أزيد من 130 ألف مترشح بمنصة التكوين على السياقة    "فيفا" يعتمد برمجة جديدة للمسابقات    التويمي يخلف بودريقة بمرس السلطان    وفاة "سيدة فن الأقصوصة المعاصر" الكندية آليس مونرو    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على أداء سلبي    الفيفا يحسم موقفه من قضية اعتداء الشحات على الشيبي    قصيدة: تكوين الخباثة    الرئيس السابق للغابون يُضرب عن الطعام احتجاجا على "التعذيب"    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    زنيبر: رئاسة المغرب لمجلس حقوق الإنسان ثمرة للمنجز الذي راكمته المملكة    الجيش الملكي ومولودية وجدة يواجهان الدشيرة وأولمبيك خريبكة للحاق بركب المتأهلين إلى المربع الذهبي    وفاة عازف الساكسفون الأميركي ديفيد سانبورن عن 78 عاما    رجوى الساهلي توجه رسالة خاصة للطيفة رأفت    معرض الكتاب يحتفي بالملحون في ليلة شعرية بعنوان "شعر الملحون في المغرب.. ثرات إنساني من إبداع مغربي" (صور)    الجديدة: حجز 20 طنا من الملابس المستعملة    بلاغ جديد وهم من وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة    معرض هواوي العالمي "XMAGE" ينطلق لأول مرة بعنوان "عالم يبعث على البهجة"    رسالتي الأخيرة    عملاق الدوري الإنجليزي يرغب في ضم نجم المنتخب المغربي    بلينكن في كييف والمساعدات العسكرية الأمريكية "في طريقها إلى أوكرانيا"    الرئيس الروسي يزور الصين يومي 16 و17 ماي    لقاء تأبيني بمعرض الكتاب يستحضر أثر "صديق الكل" الراحل بهاء الدين الطود    دعوات لإلغاء ترخيص "أوبر" في مصر بعد محاولة اغتصاب جديدة    شبيبة البيجدي ترفض "استفزازات" ميراوي وتحذر تأجيج الاحتجاجات    المنتخب المغربي يستقبل زامبيا في 7 يونيو    هل يتجه المغرب إلى تصميم المدن الذكية ؟    الأمثال العامية بتطوان... (598)    بعد القضاء.. نواب يحاصرون وزير الصحة بعد ضجة لقاح "أسترازينيكا"    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    دراسة: البكتيريا الموجودة في الهواء البحري تقوي المناعة وتعزز القدرة على مقاومة الأمراض    الأمثال العامية بتطوان... (597)    الأمثال العامية بتطوان... (596)    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحسين الباز .. حنجرة ذهبية بارَزت أساطير "تيرويْسا" في سوس
نشر في هسبريس يوم 14 - 07 - 2020

خصصّ عبد الله بوشطارت، باحث في التاريخ فاعل أمازيغي، مقالة مطولة للحديث عن الفنان الأمازيغي الحسين الباز، الذي ولج عالم "تيرويْسا" من باب مجموعة الرايس "محمد اوتولوكولت" خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، تعلم فيها أساسيات "تيرويسا" من خلال التدريب على الآلات، ونحت الكلمات، وصقل الألحان، وطريقة النظم والأداء والعرض والإلقاء.
ولفت بوشطارت في مقالة تحت عنوان "الحسين الباز: موهبة متكاملة بامتياز"، بعث بها إلى هسبريس، إلى أنه كان "شابا تفور منه حماسة التلقي وشغف الممارسة الفنية في محيط تعتبر فيه الفنون أرقى آليات التعبير، وفرض الذات داخل مجتمع يشتغل باستمرار على إيقاعات الشعر ودورات الرقص الجماعي، ويتنفس منظومة ثقافية متخمة بأشكال متعددة من الرموز والطقوس في غاية الحبك والغموض، لا يتم فهمها وفك طلاسمها إلا بتشفير العلاقات البينية الصامتة داخل المجتمع، بين الذكور والإناث في إطار علاقات الزواج وعلاقات الحب، وروابط القرابة العائلية وعلاقتها بالولاء لرموز السلطة، وأساليب القهر والحرمان السياسي والعاطفي".
وإليكم المقالة:
ازداد الحسين الباز سنة 1957 في دوار جنان آيت الباز بجماعة إرحالن بكونفدرالية إنتوگا، المعروفة ب "متوگة" بناحية إمي ن تانوت. ولج الحسين الباز عالم فنون تيرويسا في ريعان شبابه، وهو لم يبرح بعد السادسة عشر من عمره. فقبيلة إنتوگا هي تجمع أمازيغي له تاريخ قديم وعريق، للأسف لا تساعدنا المصادر التاريخية كثيرا على استجلاء بداياته وتحركاته التاريخية في المجال الذي يستقر به حاليا، وقد قرأنا في المصادر الوسيطية، خاصة عند البيدق، بعضا من الشذرات السريعة حين ذكر كلمة أتيگي، وبعض المعلومات عند "حسن الوزان" في حديثه عن المنطقة أثناء مروره بها خلال القرن 16م، وبالضبط خلال سنة 1514، على الرغم من أنه ضمها إلى منطقة إيحاحان.
لكن إشاراته تظل قيمة جدا حول مدينة "تادنيست"، وما حصل لها من خراب، ثم اندراس هي وجارتها تاسگدلت، وهذا يدل على أن موقع انتوگا كان يتعرض دائما لحتمية تاريخية تتجلى في ثنائية العمران والخراب، وهي حتمية انتقلت من الجغرافيا إلى التاريخ، تذهب ضحيتها الشعوب الأمازيغية التي تستقر على أقدام السلاسل الجبلية وعلى سفوحها المطلة على الهبط، كما هو حال موقع انتوگا في علاقتها مع هبط شيشاون/شيشاوة الفسيح الذي يتعرض لتحولات سوسيو-مجالية جارفة ومتسارعة، بسبب قربه من مراكش كعاصمة سلطانية في تاريخ المغرب، وباعتبارها ممرا إجباريا يربط سوس والأطلس الكبير مع مراكش ومناطق الشمال، ثم باعتباره برجا لمراقبة الخط التجاري المحوري والهام أغمات- گوز، ثم في المرحلة الثانية مراكش–تاصورت/الصويرة، بمعنى أن المنطقة لها دور استراتيجي في التجارة والحرب والنزوح والانزال الذي يختاره المخزن لمحلاته في اتجاه الجنوب. وذلك ما نستشفه من حديث صاحب وصف إفريقيا عن تجارة تادنيست وتاسكدلت والرخاء الاقتصادي الذي كان بالمنطقة، خاصة في وجود دور لسكة النقود الفضية بهذه المدن وعدم وجود أي نوع من الضرائب والإيتاوات.
انتوگا هو تحالف سياسي واجتماعي مصمودي خالص، مع استحضار حصول تداخل وامتزاج بين البطون الأمازيغية الكبرى، سواء تعلق الأمر باحتكاك إيزناگن بهم في مرحلة صعود صنهاجة من الصحراء في بداية الزمن المرابطي، وهذا لا يعني أنني أتبنى ما يقال في المزج بين اسم قبيلة لمتونة مع جزء من قبيلة مصمودية كانت تسمى إينگا، لتعطي لنا اسم لمتونگا، ثم صارت بالتداول اللسني امتوگة، وهذا ما يتطلب بحثا تاريخيا ولسانيا دقيقا. وتوجد إمكانية حصول تمازج وتداخل أثناء الصدام التاريخي العنيف بين المصامدة في أواخر عهدهم مع زناتة بني مرين، وقد عرفت منطقة إمي ن تانوت استقرارا للمرينين الذين خلفوا بعض القصبات والقلاع لصد هجومات مصامدة الموحدين الذين احتموا بقمم درن.
كما يتجلى ذلك في بعض الأسماء الأماكنية بصيغ زناتية بالمنطقة. كما أن إنتوگا تجاورها اتحاديات وأحلاف مصمودية قوية لها من الشوكة والشهامة أيضا ما لقبائل مصمودية أخرى، ككونفدرالية أفيفن وايحاحان وإلبنسيرن؛ وكلها تحالفات ذات وزن تاريخي وسياسي عظيم، أرخت بظلالها الوفيرة والسخية على الحياة الفنية والإبداعية في تاريخ فنون الأمازيغ بشكل عام.
وقد تفاعل كل هذا التاريخ الممزوج بالحروب والدفاع وبناء الدول وانهيارها في حياة الناس والمجتمع، وأفرز لنا بنيات ثقافية قائمة تعبر عن هذه الدينامية التاريخية ذات الطابع المحلي، ولها امتداد مجالي نحو مراكش، ثم نحو جنوب أطلس درن بسوس والصحراء، وهو تفاعل حضاري يتمظهر على صيغ أنساق ثقافية ومنظومات برع فيها أهل الجبل لكتابة تاريخهم الخاص عن طريق إنتاج أشكال التعبير الجماعي تحكى يوميا على شكل طقوس في غاية البناء والتمكين، إنها طقوس أحوايش في مختلف أنواعها، على رأسها رقصة تاسكيوين التي تنتشر لدى سكان قمم الأطلس التي تمثل جزءا من تلك المشاهد التاريخية باعتبارها رقصة حرب، وكذلك أحواش ن أسگا الذي تشارك فيه النساء وعواد انتوگا وأحواش امي ن تانوت، وغيرها من ضروب إحواشن التي تختلف من مسارح أسايس إلى آخر بكل مناطق أطلس درن وسفوحه.
الحسين الباز تأثر بكل هذه الممرات الثقافية الفنية التي يمارسها المجتمع بشكل مفتوح، على خطوات أقرانه في هذه المنطقة الفريدة الذين تلمسوا عتبات إسوياس وحلقات الروايس في الأعراس والاحتفالات، وهم أطفال صغار، ففي غياب المدارس والمؤسسات التعليمية في مثل هذه المناطق المهمشة التي لم تعط لها الدولة أي اهتمام ولا عناية بعيد الاستقلال، نهض المجتمع بنفسه وخلق مدارسه الخاصة بحرية مطلقة هي شرط الإبداع، خارج بيروقراطية السلطة وتوجيهات الإدارة.
من هذه المدارس الفنية الراقية التي تأسست من وحي المجتمع الأمازيغي المفتوح، ومن تجارب الحيوات القاسية المتدحرجة بين تضاريس المعاناة والمجروحة بسفوح الألم الباطني التي وشمت أنهارا حادة الجريان في نزيف الذاكرة الجماعية لأمازيغ الأطلس الكبير، من هذه الفضاءات الأمازيغية ذات النبوغ العريق والحضارة المتماسكة والمتراكمة، انفجرت ينابيع الإبداع الحارة من حناجر شعراء تصدح بكلام من ذهب، لكنه كلام مرصع بالرصاص نافذ وخلاق، شِعْرٌ مزعزع للقيود كاسر للأغلال، من تلك التربة الغنية خرج الرايس عمر واهروش، والرايس بريك المتوگي، والرايس عبد الله بن دريس المزوضي، والرايس محمد أوتولوكولت، وبالقرب منهم بزغ نجم سلطان تيرويسا الفنان الأسطورة محمد ألبنسير.
وفي السفوح الجنوبية لأطلس درن، تسلق فنان آخر سماء النجومية وتربع على عروشها وهو الفنان أحمد أمنتاگ الذي ساهم في فتح آفاق الإبداع الفني لمجموعة من مدارس تيرويسا ما بعد عقد الستينات من القرن الماضي، دون أن ننسى دور الرايس الفنان المجدد محمد أموراك الذي تأثر به محمد ألبنسير كثيرا والباز كذلك، وكل الفنانين الذين تألقوا في تلك الفترة كالفنان محمد بونصير وعمر إجيوي، والرايس سعيد أشتوك، والرايس أحمد إمسگين، وغيرهم من العمالقة الذين وجدهم الفنان الحسين الباز في الساحة الفنية كأسماء مرموقة، ونشأ بصحبة البعض منهم وتقاسم معهم مرحلة البدايات الصعبة والعسيرة التي تصاحب مخاض ولادة كل فنان شاب يطمح إلى غرس بذور تجربته الشخصية الخاصة به ويضع لبنات أولى لصناعة اسمه بين أسماء فنانين كبار.
وموضوع البدايات لهؤلاء الفنانين العمالقة الذين ظهروا كلهم من البوادي والقرى المنسية بعد الاستقلال يستحق المزيد من البحث والدراسة من مختلف حقول العلوم الإنسانية، من التاريخ وعلم النفس التاريخي والسوسيولوجية القروية والأنثروبولوجيا الثقافية.
طفولة الحسين الباز كُتبت مثل كل أطفال البوادي الأمازيغية بمداد من القساوة والحرمان التام من الولوجيات إلى الخدمات الاجتماعية والتربوية والترفيهية، وماتزال تلك البوادي على حالها المأزوم إلى اليوم. ولم يجد الباز الصغير إلا باب مسجد الدوار لتتلمذ أبجديات الكتابة وحفظ القرآن، آنذاك بزغت ميول الباز للتحليق بعيدا، فكلما كان الأطفال يكتبون على اللوح ما تعلموه من حروف، كان ينهمك هو في رسم آلة لوتار، حينها علم وعلم من كان معه أن الطفل الصغير سقط في عشق الآلة وبات متيما بأهازيجها ورنينها.
هكذا تعلق الوجد الموسيقي في بدايات الحسين الباز من خلال جولات بيلموان وامعشار في الدوار، ثم تعلم آلة الناي بسرعة وأصبح أحد متقنيها في المنطقة، وقد شجعه في هذا الانخراط المبكر لعالم الموسيقى وجود ثلة من الفنانين بجواره، من بينهم الرايس "أعراب أتيگي" الذي تعلم منه "الحسين الباز" العزف على آلة الرباب، والرايس الحسن بوميا، وكذلك الرايس أوتولوكولت، وآخرون من أبناء قبيلته إنتوگا.
وقد اختار الحسين الباز الشاب ولوج عالم تيرويسا من باب مجموعة الرايس "محمد اوتولوكولت" خلال عقد السبعينات، وتعلم فيها أساسيات تيرويسا من خلال التدريب على الآلات ونحت الكلمات وصقل الألحان وطريقة النظم والأداء والعرض والالقاء، كان شابا تفور منه حماسة التلقي وشغف الممارسة الفنية، في محيط تعتبر فيه الفنون أرقى آليات التعبير وفرض الذات داخل مجتمع يشتغل باستمرار على إيقاعات الشعر ودورات الرقص الجماعي، ويتنفس منظومة ثقافية متخمة بأشكال متعددة من الرموز والطقوس في غاية الحبك والغموض لا يتم فهمها وفك طلاسمها إلا بتشفير العلاقات البينية الصامتة داخل المجتمع بين الذكور والإناث في إطار علاقات الزواج وعلاقات الحب، وروابط القرابة العائلية وعلاقتها بالولاء لرموز السلطة، وأساليب القهر والحرمان السياسي والعاطفي.
وبعد تمرسه لسنوات قليلة مع مجموعة الرايس "محمد أوتولوكولت"، قرر الشاب الحسين الباز أخذ زمام المغامرة بيده والخروج إلى الساحة الفنية/أباراز، وبدأ تجواله الفني من قريته إلى امي نتانوت التي التقى فيها مرة أخرى بالفنان أعراب أتيگي، ثم انتقل إلى مراكش حيث كان يشتغل في فندق، وخلال الفترة المسائية يلتقي مع فنانين آخرين في ساحة جامع الفناء، منهم "الرايس بوالمسايل" و"الرايس بلمودن"، ويشارك معهم في إحياء السهرات المفتوحة على الهواء الطلق في إطار ما يعرف بفنون الحلقة، حيث تمرس أكثر على العزف على مختلف الآلات كالرباب والناقوس وغيرها، وفي ساحة جامع الفناء جرب الباز أجنحته واكتشف أنه فعلا يستطيع أن يحلق بها بعيدا في سماء الفن والنجومية.
من مراكش ارتحل إلى البيضاء، وحطت أحلام الباز الشاب وسط العاصمة الاقتصادية وعزم على دخول مغامرة التسجيل واقتحام الميدان الفني الذي يحتكره فنانون كبار لا يشق لهم غبار، كان ذلك في سنة 1979. تحدث الحسين الباز مع ثلة من الروايس وكشف لهم عن نيته خوض مغامرة البروز باسمه الشخصي كفنان اسمه "الحسين الباز" (لم يختر لقبا فنيا، وإنما الحسين الباز هو اسمه الحقيقي).
الفنانون الذين كشف لهم الباز عن رغبته في تسجيل ألبومه الأول لم يروا في ذلك جدية من شاب لا يملك إلا الرغبة وعشق التحدي ويحتاج إلى مد يد المساعدة والمواكبة، بقدر ما تبدى لهم أنه لا يعدو أن يكون مثل أقرانه في البادية الذين يعيشون مراحل التيه الشبابي، ويا ليتهم علموا أنهم يتحدثون مع شاب سيكون له شأن عظيم في ميدان تيرويسا.
وبعد ذلك اتصل بفنان آخر دله على شركة تسجيل وسجل أول ألبوم له بإمكانية بسيطة في مدينة الدار البيضاء، وكان الشريط بعنوان قصيدة "أنزور أنيلي العقل" في شهر مارس 1979. وفي تلك المرحلة كان الرايس الحاج أعراب أتيگي أيضا في مدينة الدار البيضاء، وشارك معه في تسجيل بعض القصائد في الشريط بالعزف على الرباب.
هكذا تعرف الجمهور الأمازيغي لأول مرة على صوت الباز الجميل، ولم يكن الأمر سهلا أمام الفنان الشاب لجذب ذوق وإعجاب الجمهور، خاصة بوجود فنانين مرموقين مثل الرايس محمد البنسير، وكذلك بوجود فنان آخر ظهر خلال السبعينات واعتبر آنذاك الفنان الظاهرة الذي خلق رجة كبيرة في الأوساط الفنية خلال تلك الفترة، وهو الفنان الرايس طيب الذكر حماد بيزماون، الفنان الذي تأثر به الباز كثيرا.
فلم يكن أمام الحسين الباز أي خيار من أجل البقاء والارتقاء في وسط فني تشتد فيه المنافسة، إلا الإبداع والموهبة والاجتهاد، وإنما أيضا العمل على التجديد وصياغة نمط موسيقي داخل تيرويسا خاص بالحسين الباز. وبالفعل استطاع الفنان الباز طيلة الثمانينات مبارزة عمالقة وأساطير تيرويسا، على رأسهم الفنان محمد ألبنسير الذي اشتغل معه في بعض الأعمال الفنية والأعراس. وقد نجح في كسب الرهان وفرض أسلوبه الخاص ومدرسته الفنية، كما كسب قلوب عدد كبير من الجمهور وجعل لأسمه مكانا مميزا داخل الوسط الفني، مع توالي الحضور والإنتاج ازدادت شهرة الباز وانتشرت في الآفاق.
قوة الحسين الباز وفرادته تكمن في مرونة ألحانه الممتعة والصقيلة، وكذلك في إيقاعاته الحماسية المفعمة بالروح والوجد والتعلق، كل هذه الأشياء تتلاءم مع صوته الشجي العذب والجذاب. يملك حنجرة ذهبية مميزة، لا يتصنع الإلقاء وإنما ينخرط في عملية إبداعية تتكامل فيها قدراته الفنية مع الألحان والإيقاعات. ينتقي أشعاره بعناية فائقة، اختار منذ البداية شعر الحب والطبيعة والأخلاق الفضلى والقيم الأمازيغية، سماه الباحث "ماحا الحنفي" الذي جمع قصائده في ديوان "شاعر الجَمال".
الحسين الباز غزير الإنتاج والنظم، قام في مسيرته الفنية منذ سنة 1979 إلى الآن بتسجيل ما يناهز 70 شريطا موسيقيا، ما يقارب 500 أغنية. فهذا سجل حافل وغني وزاهر. الكثير من هذه الأغاني وشمت في ذاكرة الأجيال منذ الثمانينات من القرن الماضي، مثل "وانا يران الزين اسوق انوگار إ يمي ن تانوت"، "تاسا نو أتاسا ياگوگ أوكان أغراس"، "أسيدي المال أسيدي ريال"، "أيمي اينو أتاسا مادريغ الحوب"...
الفنان الباز اجتمع فيه ما تفرق في غيره، فهو عازف ماهر، يتقن العزف على العديد من الآلات، هو أيضا ملحن، ثم ناظم كلمات؛ بمعنى شاعر يكتب كلماته بنفسه، ثم مغني يقوم بالإلقاء، وهذه صفات مشروطة وضرورية في شخصية الفنان، وهذا ما يجعل منه فنانا متكاملا بالموهبة والخبرة.
للأسف الشديد، الفنان الحسين الباز، اليوم، يعيش المصير نفسه الذي عاشه عمالقة الفن الأمازيغي بالمغرب، الراحلون منهم والباقون على قيد الحياة، من معاناة ونكران، فهم جميعا يعانون الألم نفسه الذي تعاني منه اللغة الأمازيغية وثقافتها باعتبارها لغة الهامش والمهمشين، لغة تمارس عليها كل أشكال الغلبة والهيمنة الثقافية والعنف الرمزي المؤسساتي الذي تمارسه الدولة بسبب التزام أيديولوجي يجعل من ما هو أمازيغي، من إبداع وفنون وأشكال التعبير وتراث مادي وغير مادي، يواجه شبح الضياع والمصير المجهول.
فنان مثل الحسين الباز يستحق كل الاحترام والعناية وتقدير خاص، عناية مادية ومعنوية من قبل الدولة والمؤسسات الوصية على قطاع الثقافة والفنون؛ فهو هرم فني كبير بمثابة كنز وطني يجب على المغاربة جميعا أن يفتخروا به.
في انتظار إنصاف حقيقي للحسين الباز، نتمنى له العمر المديد ووافر الصحة والعافية. طريق إنصاف الأمازيغية طويل وشاق، لكن قادرون على مواصلة المسير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.