إن الهدف من طرح هذا السؤال هو محاولة تركيز جوابه على أساس صلب وعميق، بدل أي جواب آخر مؤسس على رؤية سطحية وهشة. لذلك أعتقد أن الوصول إلى هذا الهدف، رهين بإدراك مفهوم لغة الأرض. فما هي إذن لغة الأرض؟ إذا كان مدلول هذه اللغة بالنسبة لعلم الطوبونيميا يقوم على دراسة أسماء الأماكن والمواقع لمعرفة مصدرها اللغوي، أو علاقتها بعقيدة دينية أو مرحلة تاريخية معينة، فإنه بحسب علم القانون والسياسة، يعني بالضبط اللغة الوطنية، أي اللغة المرتبطة بالوطن. واللغة الوطنية بهذا المعنى تنقسم إلى قسمين هما: - اللغة الوطنية الطبيعية. - واللغة الوطنية المكتسبة. فاللغة الأولى أي الطبيعية هي ما يمكن أن يطلق عليها فعلا لغة الأرض الحقيقية، على اعتبار أنها هي التي أنجبها شعبها في الأرض التي اتخذها وطنا له، ومن ثمة فهي بالنظر لارتباطها العضوي بالأرض التي ولدت فيها، تقوم بنفس دور الملامح في تحديد هوية الإنسان، أي تعتبر هي السمة الجوهرية المحددة لهوية الشعب والوطن، وكذا الخصوصية الأساسية لتمييز هذه الهوية عن هوية بقية الشعوب والأوطان، بدليل أن أرض الجزيرة العربية في الشرق الأوسط على سبيل المثال، استقت هويتها العربية المميزة من اللغة العربية التي ولدتها هذه الأرض، فكانت تعرف بأرض العرب والعربية، أي: L'ARABIE، كما تصفها بذلك خرائط الأطلس الجغرافي واللسني المعتمدة دوليا، ونفس هذه الخرائط تطلق أيضا كانت قبل تغييرها تطلق على أرض شمال إفريقيا الواقعة غرب مصر، بلاد البربر والبربرية، أي: LA BERBERIE، لارتباط هذه الأرض بالأمازيغية وبالأمازيغ، كما أن نفس تلك الخرائط تطلق على أرض إيران، بلاد الفرس والفارسية، أي: LA PERSE، ثم على أوطان المعمور الأخرى اسم اللغة الطبيعية التي انبثقت منها. أما اللغة الوطنية المكتسبة فهي التي تنتمي إلى وطن آخر، غير أنه لأسباب دينية أو اقتصادية أو ثقافية أو غير ذلك، يقوم شعب معين بتبنيها وبإضفاء صفة اللغة الوطنية عليها. وهكذا فلو قمنا بتطبيق هذا المفهوم السياسي والحقوقي وكذا الجغرافي على اللغتين الوطنيتين الأمازيغية والعربية المنصوص عليهما في الفصل الخامس من الدستور، منتهجين في هذا التطبيق المنهاج الموضوعي العلمي المستند على حقائق العلم الثابتة ، فيمكن القول إن الدستور نص على ترسيم اللغة الأمازيغية باعتبارها اللغة التي خلقها المغاربة في أرضهم، بعدما اتخذوها موطنا دائما لهم، فأصبحت بذلك مرتبطة بهم ارتباطا عضويا، كارتباط الروح بالجسد، وقد عبر عن ذلك جلالة الملك محمد السادس في خطاب أجدير، في القولة السامية المحكمة والحكيمة التالية: "الأمازيغية ملك لجميع المغاربة دون استثناء". أما اللغة العربية فقد أنجبتها كما هو معلوم أرض الجزيرة العربية، غير أن المغاربة قاموا بتبنيها وبإضفاء صبغة اللغة الوطنية عليها، بعد اعتناقهم للدين الإسلامي، وبعد استقلالهم عن الخلافة العربية في المشرق، وتأسيسهم لدولهم وإمبراطورياتهم الخاصة، التي يحكمون بها أنفسهم بأنفسهم، انطلاقا من دولة أوربة التي يطلق عليها إيديولوجيا (الدولة الإدريسية)، ودولة بني مدرار، وبورغواطة، مرورا بالدولة المرابطية والموحدية وغيرهما في الماضي، إلى الدولة العلوية في العصر الحديث. ومما تجدر الإشارة اليه في هذا الصدد، أن كتب التاريخ تشهد كلها على حقيقة حاسمة هي: أن ملوكنا جميعا، بدءا في الماضي بإسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوروبي، ملك دولة أوربة السالفة الذكر، واستمرارا بيوسف بن تاشفين، وعبد المومن الموحدي، وأبو عنان المريني، وأحمد المنصور الذهبي، ومولاي إسماعيل العلوي وغيرهم، إلى الملك محمد السادس في العصر الحاضر، كانوا جميعا أحرارا مستقلين في اختيار اللغة العربية عن طواعية وطيب خاطر، مما يجعل هده اللغة تتسم حقا بالصفة الوطنية، لتمتع المغاربة في اختيارهم لها بسيادتهم وبحريتهم الكاملة، غير المشوبة بأي إكراه عسكري، أو أية قوة مادية أخرى كيفما كانت. وإنه من هنا نستنتج أن دستورنا الحالي صادف الصواب فعلا بترسيمه الأمازيغية والعربية، مدركين من جهة أن قيامه بترسيم للغة الأمازيغية فرضته ضرورة حيوية، تتمثل في المحافظة على روح الشعب المغربي، وعلى شخصيته الطبيعية المنسجمة مع إرادة الله في خلقه للشعوب والألسن، لحكمة لا يعرفها إلا هو عز وجل. ومن جهة أخرى مدركين كذلك أن ترسيمه للغة العربية فرضته ضرورة سياسية ودينية، تتجلى في امتلاك المغاربة للإرادة الحرة في اتخاذ القرار السياسي المنسجم مع تحقيق مصالحهم العليا. وبعد، فإن كانت هذه المقدمة قد عرفتنا على الفرق الموجود بين اللغة الوطنية الطبيعية، وبين اللغة الوطنية المكتسبة، فإنها تقودنا كذلك إلى معرفة حقيقة هامة ذات صلة بالبعد الحقوقي والسياسي للغة الوطنية الذي نتدارسه، وهي أن لغة الأرض الطبيعية بالخصوص تتميز عن نظيرتها المكتسبة، بخاصية فريدة هي ارتباطها الوثيق بالحقوق الطبيعية للشعوب. ذلك أن حق الحياة مثلا، الذي يعتبر الحق الطبيعي الأول لجميع الكائنات الحية، إن كان بالنسبة للإنسان العادي يكمن في روحه، فإنه بالنسبة للشعوب يكمن في لغاتها الطبيعية الخاصة، استنادا إلى قاعدة عامة من قواعد القانون الطبيعي تقضي بأن الشعوب تحيا بلغاتها الأصلية، وأنها تموت حتما إذا ما قررت العيش بلغة أخرى، هذه القاعدة التي أكدت التجربة صحتها، من خلال الشعوب السومرية والبابلية والفينيقية وغيرها، التي دخلت في عداد الأمم المنقرضة بسبب استبدالها لغاتها الطبيعية بلغات أخرى. وما من شك أن وعي شعبنا أخيرا بالأحكام الآمرة لهذا القانون الطبيعي، هو ما جعله ينص في الدستور على ترسيم الأمازيغية باعتبارها لغته الطبيعية التي تكمن فيها روحه وحياته. وكما يرتبط حق حياة الشعوب بلغاتها الأصلية حسبما تبين، يرتبط بها أيضا حقها الطبيعي في النماء وفي التطور، من منطلق أن الشعب الذي لا يبني حضارته بلغته الطبيعية يظل على الدوام موصوفا بالبدائية وبالبداوة، وذلك على الرغم من إنتاجه في حياته أرقى الحضارات بلغات أخرى، بدليل أن الشعب المغربي رغم مساهمته الفعلية الكبرى في بناء كل الثقافات والحضارات التي عرفتها منطقة البحر الأبيض المتوسط قديما، فإنه ينعت دائما بالشعب البدوي الذي لم يخلف في حياته أية حضارة أو ثقافة راقية، هذا النعت الذي صاغته بعض الكتابات التاريخية في العبارة الساخرة التالية: (شعبنا لم يرث عن أجداده سوى حلق الرؤوس، وأكل الكسكس، ولبس البرنوس). ولا غرو أيضا أن وعي شعبنا بارتباط حقه الطبيعي في التطور والتقدم بلغته الأصلية، أي الأمازيغية هو ما أدى به إلى التنصيص في الدستور على تنميتها، وعلى إدماجها في جميع مجالات الحياة العامة. أما حق الملكية الذي يعتبر هو أيضا من الحقوق الطبيعية الثابتة، فإن كان يتجلى لدى الأفراد في ملكية العقارات والمنقولات، فإنه بالنسبة للشعوب يتجلى في ملكيتها لأرض وطنها، هذا التجلي الذي يتمظهر في تسميتها لكل شبر من وطنها، بأسماء لغتها الطبيعية، تعبيرا منها على حيازتها الفعلية والقانونية لملكية أرضها. ومن هنا يبدو أن احتفاظ جل مساحة وطننا بالأسماء الأمازيغية، يعتبر دليلا قاطعا على قيام الشعب المغربي بمزج لغته الطبيعية بتراب وطنه، وذلك قبل أن يمزجها بدمه دفاعا عنها في مختلف مراحله التاريخية. بيد أنه بعدما تعرض المغاربة لتخدير الفكر الأيديولوجي العصبي الأموي في الماضي، ثم للبعثي في العصر الحاضر، فقد قاموا -مع الأسف- بتعريب الكثير من مواقع وطنهم خدمة لهذا الفكر التوسعي، الذي كان يهدف إلى تغيير ملامح وطننا الطبيعية للقضاء على هويته المتميزة، غير أن ما يثبت صحوة شعبنا من هذا التخدير، هو قيام عاهلنا بالعودة إلى إطلاق الأسماء الأمازيغية على بعض المدن والمشاريع العمرانية الجديدة، مثل مدينة تامسنا في الرباط، ومدينة تامنصورت في مراكش، ولعل ما يثبت انتشار هذه اليقظة هو قيام بعض التجار بإضفاء الهوية الأمازيغية على مؤسساتهم التجارية، وكذا رجوع العديد من المواطنين إلى تسجيل مواليدهم في دفاتر الحالة المدنية بأسماء أمازيغية. وهكذا ونظرا لثبوت ارتباط اللغة الطبيعية الأصلية بذات الشعوب وبحقوقها الطبيعية الأزلية، فذاك ما يجعل الشعوب الواعية بذاتها، تعتبرها من مقومات كيانها، وبالتالي من مرتكزات سيادتها الوطنية القائمة على الاركان الاساسية التالية: - سيادة الوطن. - سيادة الكيان. - سيادة اللسان. والحق أن ملوكنا السابقين إذا كانوا واعين تمام الوعي بسيادة وطنهم، وسيادة كيانهم، فإنهم مع الأسف، لم يكونوا مدركين لسيادة لسانهم الطبيعي، الأمر الذي جعل سيادتنا الوطنية -لفترة تاريخية طويلة- ينقصها أحد أركانها الهامة، أي سيادة اللسان. ومن هنا فمن الأكيد أن قيام دولتنا في عهد الملك محمد السادس بترسيم الأمازيغية في الدستور، يدخل دون شك، في إطار استدراك ذلك النقص المزمن، تصحيحا للتاريخ من جهة، واستكمالا لسيادتنا الوطنية، القائمة على كل أركانها الثلاثة، من جهة أخرى.