ضمنها المغرب.. تقرير يكشف تعرض شمال إفريقيا لاحترار غير مسبوق    مندوبية التخطيط تؤكد تحسن القدرة الشرائية ب5,1 نقطة سنة 2024        ملف الهجرة يدخل طاولة التداول بالاتحاد الأوروبي    تجارة الصين ترتفع وأداؤها السنوي يواصل الإستقرار خلال الأشهر ال11 من 2025    مولودية وجدة يحسم الديربي لصالحه ويعزز موقعه في الصدارة    أولمبياد لوس انجلوس.. لقجع يكشف اسم مدرب المنتخب الأولمبي    غضب وانقسام داخل ريال مدريد بعد الهزيمة... وتصريح يكشف تفاصيل صادمة من غرفة الملابس    توقيف سائق طاكسي بتطوان بعد ظهوره في فيديو بطنجة يسير عكس الاتجاه ويعرّض حياة المارة للخطر    قتيل وجرحى في حادثة سير باشتوكة أيت باها    مغربيان ضمن المتوجين في النسخة العاشرة من مسابقة (أقرأ)    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين            مجلس المنافسة يفاجئ فاعلين في قطاع الدواجن بزيارة ميدانية    فرنسا.. تسرب مياه بمتحف اللوفر يتسبب في إتلاف مئات الكتب بقسم الآثار المصرية    توقعات أحوال الطقس لليوم الاثنين    عزوف الشباب عن العمل يدفع لندن لإلغاء إعانات البطالة    علاج تجريبي يزفّ بشرى لمرضى سرطان الدم        الائتلاف المغربي لهيآت حقوق الإنسان يدعو إلى وقفة رمزية أمام البرلمان للمطالبة بإطلاق سراح "المعتقلين السياسيين"    ساركوزي يكشف: الملك محمد السادس أول من اتصل بي بعد الحكم علي بالسجن.. كان متأثّراً وصوته يرتجف من الصدمة    اغتيال "شاهد" بجنوب إفريقيا يحيي السجال حول مسألة حماية المبلغين    "إيكواس" تشر قوات احتياطية في بنين    كاتبة إيطالية تعرّض لحادثٍ مروّع أثناء زيارتها إلى مراكش تنشر شهادتها عن تجربة إنسانية غير متوقعة        كيوسك الاثنين | الاجتماع المغربي – الإسباني يؤكد انتعاشا اقتصاديا    النفط يصل إلى أعلى مستوى في أسبوعين مدعوما بتوقعات خفض الفائدة الأمريكية    لفتيت يستبق انتخابات 2026 بحركة تنقيلات واسعة لضبط الإدارة الترابية    الاتحاد المغربي للشغل يخلّد الذكرى ال73 لانتفاضة 8 دجنبر 1952        اجتماع ثلاثي بين الولايات المتحدة وإسرائيل وقطر في نيويورك    المغرب ضد السعودية.. نهائي قبل الأوان في سباق الصدارة        "الفن والإعلام في ترسيخ القيم الوطنية".. أمسية فنية وثقافية تُمتع الجمهور وتغني النقاش بطنجة    ثورة في عالم الطب .. علاج جديد يقضي على سرطان الدم تمامًا    كأس العرب لكرة القدم (قطر 2025).. المنتخب المغربي يخوض غمار الجولة الثالثة بطموح الفوز على نظيره السعودي والتأهل للربع    كأس العرب تشهد إقصاء تونس وقطر    أخنوش: ضاعفنا عدد أساتذة الأمازيغية 5 مرات وخصصنا للتعليم 17 مليار درهم    ناصر بوريطة: الولايات المتحدة الأمريكية ستقود مفاوضات تنزيل الحكم الذاتي    إعلان الحرب ضد التفاهة لتصحيح صورتنا الاجتماعية    التكنولوجيا وتحولات الفعل السياسي في المغرب: نحو إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع    اختتام الدورة ال 22 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش .. تتويج فيلم «سماء بلا أرض» للمخرجة أريج السحيري بالنجمة الذهبية للمهرجان    إجماع دولي على إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية    تتالي الصفعات لنظام الكابرانات!    بنكيران: أنا لا أعرف ما هي الدولة العميقة إلى اليوم    الصيد المستدام والبنية الصناعية يقودان المغرب لزعامة سوق السردين العالمي    رونالدو نازاريو: المغرب يلعب "كرة القدم بأسلوب مذهل" خلال السنوات الأخيرة    إبراهيم أوشلح يستعيد في سيرته الذاتية ذاكرة جيلٍ عاش تحولات المغرب من زمن الاستعمار إلى سنوات الرصاص    المخرجة آن ماري جاسر: فيلم "فلسطين 36" يقدم أرشيفًا حيًا لمرحلة مفصلية في التاريخ    عودة مهرجان مواهب الدار البيضاء في دورته الثانية... فضاء يفتح الأبواب أمام الطاقات الشابة    تحذير من "أجهزة للسكري" بالمغرب    قبل انطلاق كان 2025 .. الصحة تعتمد آلية وطنية لتعزيز التغطية الصحية    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ومن الضرائب ما قتل..
نشر في هسبريس يوم 04 - 12 - 2020

سادسا: أسطورة انفصال البربر عن العرب.. ومن الضرائب ما قتل..
علاقة ضريبية
حاولنا، في الحلقات السابقة، أن نستخرج مظاهر الوحدة والاتصال بين القبائل فيما بينها، وكذا بين القبائل والمدينة. وتمكنا من الوصول إلى نتيجة أولية؛ وهي استحالة العثور على أي مجتمع "طاهر" أو "قبيلة خالصة "أو مستقرة استقرارا مطلقا، لسبب بسيط هو أن الموارد الذاتية عاجزة عن تحقيق تام لكل ما يحتاج إليه الفرد – سواء بالمدينة أو القرية. لقد لاحظنا حركات وهجرات متعددة، بشتى الاتجاهات، نحو الشمال والجنوب...
وهذه الحركة المستمرة والطبيعية تُبطل دعاوى السوسيولوجيا الكولونيالية، التي حاولت أن تبرهن – بدون أيّ سند علمي أو وثائقي – على عزلة البربر فيما بينهم وكذا فيما بينهم وبين المجتمع الحضري. ولا داعي للتذكير بالخلفية الإيديولوجية التي كانت تتحكم في هذا النوع من التأويل.
والآن، ما هي العلاقة التي كانت تربط بين المخزن المركزي وبين قبائل البربر؟ وما هي طبيعتها؟
يركز جُلُّ الأنثروبولوجيين، وعلى رأسهم روبير مونتاني، على أن علاقة المخزن بالقبائل البربرية كانت علاقة يطبعها الاستبداد والاستغلال الضريبي وإثارة النعرات بين القبائل وتحريض قبيلة على أخرى. وبالتالي، فالمخزن – من وجهة نظره – بحكم هذه النعرات وغيرها "مخزن طفيلي"، همُّه الوحيد هو تأمين الحصول على الضرائب.
وبإلقاء نظرة على طبيعة السلطة السياسية وعلى النظام المالي للدولة المخزنية، يمكن لنا التأكد من صحة أو بطلان هذه الرؤية.
يشير محقق كتاب "التقاط الدرر ومستفاد المواعظ والعبر من أخبار وأعيان المائة الحادية والثاني عشر" إلى أن الشكل السياسي الذي عانت منه السلطة العلوية منذ العهد الإسماعيلي كان هو ترسيخ وجودها ونفوذها على جميع أنحاء البلاد. ولهذه الغاية، لجأ إلى تكوين جيش من العبيد – يكون ولاؤه للسلطان ومرتبطا به، ويأتمر بأوامره، إضافة إلى تكون قبائل سميت ب"قبائل الجيش" عربية انضمت إليها بعض القبائل البربرية – وقد حصلت على امتيازات خاصة مقابل الدفاع عن السلطة وإخضاع القبائل المتمردة، إلا أن هذا التنظيم تطلب مصاريف ضخمة أثقلت كاهل الدولة وكاهل السكان أيضا.
يمكن حصر موارد ميزانية الدولة في نوعين أساسيين:
– المداخيل
– والمصاريف،
مع أنه لم يكن هناك تمييز أو فاصل بين ميزانية السلطان وميزانية الدولة؛ ما يعبر عن الطابع الحقيقي للسلطة في علاقتها بالمجتمع ككل نجد مظهرين رئيسيين: أ-ضريبة لمغرم ب - ضريبة المكوس.
فمن حيث المداخيل المتعلقة بميزانية الدولة نجدها متنوعة؛ فهناك المداخيل الشرعية، وتضع الأعشار فداء لأسرى نظام المواريث وهي الأموال التي يُجهل صاحبها، أما المغارم فهي غير محدودة مع إضافة أموال المصادرات التي غالبا ما تلجأ إليها السلطة إثر عزل القواد نتيجة ممارستهم التعسفية وابتزازهم لقبائلهم مما يعجل بتدخل السلطة لجعل حد لطغيانهم كما نجد هناك أيضا أموال الوقف والأحباس ...
أما المصاريف فتكمن في رواتب الجيش والموظفين، النفقات العسكرية وتضم إصلاح بعض البنايات وتنفيذ بعض المشاريع ...
ما يشد الانتباه في ميزانية الدولة هو أن المغارم مثلت أهم المداخيل، وتعتمد أساسا على الموارد الداخلية ويخضع لها السكان عامة مع بعض الاستثناءات التي قد تتصل بالزوايا، قبائل الجيش، الشرفاء...
إن نظام الضرائب هذا قد أثار استياء لدى السكان؛ وهو ما تشير إليه بعض المعلومات التاريخية، حيث "تُعبر في أساسها عن استنكار عام للتصرف ككل، سواء على مستوى المدينة أو القبائل في البادية المغربية".
وإدخال العناصر التي كانت معفية من تأدية الضرائب يتجلى لنا عمقها وقساوتها بالنسبة لبقية السكان الذين ستنصب عليهم، ولما كانت المداخيل الشرعية عاجزة عن تغطية ميزانية الدولة التي لم تكن تخضع لأي مقدار مما يصعب معه تحديدها، أمام حجم المطالب التي تطالب بها الدولة السكان وأمام انعدام رواتب منتظمة لموظفي المخزن يمكننا أن نعرف مدى الابتزاز الذي يتعرض له المواطنون.
لقد كان على موظفي المخزن الساهرين على تحصيل الضرائب أن يأخذوا منها قسطا لأنفسهم والقسط الآخر يرسل إلى صناديق الدولة، فمما لا شك فيه هو أن تكلفة الضريبة كان يتحملها أساسا سكان القرى.
لقد كان من جراء هذا السلوك أن عمق وعجل في الوقت نفسه بإفقار الفلاحين القرويين وترسيخ بؤسهم فقد كان "منصب قائد أو عامل وسيلة للإثراء السريع حتى يحظى بحياة تليق بممثل المخزن؛ ولكن أيضا الاستمرار في تقديم الهدايا للسلطان التي تجلب حوله الانتباه، فتعجل في ترقيته أو على الأقل تحتفظ له ببعض البقايا – فإن المخزن يقدر خاصة سلوك الإخلاص هذا وكذا سلوك الاعتراف.
نخلص من كل ما سبق إلى أن الجزء الأكبر من هذه الضرائب كان منصبا على المناطق الأكثر فقرا- وغالبا ما كانت تخضع في اقتطاعها لمدى الاقتراب من المخزن والعلاقة الطيبة المحدودة معه كإعفاء، الأرستقراطية كلها (شرفاء، أصحاب الزوايا، تجار، قبائل الجيش...بل قد تستفيد منها أحيانا.
ويعبر عن هذا السلوك الضريبي في القرن التاسع عشر الوزير فضول غرنيط قائلا: "يجب نزع ريش المساهم كما ينزع ريش دجاجة، إذا ما تركناه يغتني فإنه يتمرد".
مما جعل بعض الفلاحين، كما يروي الوزير غرنيط، يصفون هذه المأساة الضريبي: "إن هذه الضريبة أبدية، لأنه لا بداية لها ولا نهاية".
نخلص مما سبق إلى نتيجة مهمة، وهي أن جهاز الدولة في علاقته برعاياه هو مجرد جهاز استغلال ضريبي، جهاز مستبد ومستغل لمجهود القبائل البدوية؛ مما ساهم في تعميق هذا السلوك على المستوى الداخلي هو فقدان المغرب لسيطرته على الطرق التجارية (ذهب السودان...)، مما فرض عليه أن يتجه نحو الموارد المحلية، نظرا لأن الأراضي ظلت خاضعة لاستغلال عتيق جدا لا توفر الحاجات الذاتية للأفراد، إضافة إلى انعدام أي مشروع من جهة المخزن، يستهدف تنمية هذه المناطق الفقيرة أصلا، فرغم النوع التي عرفته ملكية الأراضي: ملكية فردية، جماعية، أراضي الوقف، أراضي المخزن...
كل هذا لم يحمل الدولة على استثمار هذا النوع لصالح التنمية الفلاحية بالبادية، حيث ظلت مهمتها تنحصر أساسا في كيفية الحصول على المحصول؛ مما نجم عن ذلك تجريد الفلاح من ثمار مجهوده، الفردي المحدود أدى إلى خلق تعارض عميق بين القوى المنتجة وبين المستغل لها أو الذي تجسده الدولة عبر ممثليها ووكلائه الشرعيين – كل هذه العوامل أرغمت الفلاح عن أن يبحث جديا عن تدابير وقائية تحميه من كابوس المخزن... وتهربا من هذه الضريبة لجأ أهل الذمة من اليهود إلى البحث عن كل وسيلة لتحقيق هذه المطالب المالية اللامحدودة. ولهذه الغاية انتحلوا وثيقة تاريخية حاولوا بواسطتها إثبات التخفيف الضريبي عنهم منذ بداية الإسلام، إلا أنه تم اكتشاف تزويرها فتضاعف الخطب عليهم.
لقد كان هذا كفيلا لإثبات مدى قساوة هذه الضرائب، وبالتالي بإمكاننا أن نتنبأ بردود الفعل الصادرة عن الخاضعين – سواء أتعلق الأمر بالبادية أو المدينة. وقد تجلت آثار هذه السياسة الضريبية في المقاومات العنيفة والتي كان جُند السلطان وموظفوه يتعرضون لها، بالإضافة إلى القواد الذين كانوا مُعرضين دائما من قبل القبائل إلى العزل أو الطرد وتعيينه بآخر بتراض بين السلطان والقبيلة – يتوسمون فيه صفات التواضع والاستقامة.
من بين الضرائب التي أثارت ردود فعل عنيفة وخطيرة جدا هي الضريبة الجديدة وتتعلق بضريبة المكس. وهذه الضريبة لم تكن مضبوطة من حيث مقدارها، كما أنها لم تكن محددة، ومما زاد في تعميق خطورتها هو تفويضها إلى العمل والقواد "دون مراعاة لوضعية الأقاليم الاقتصادية والاجتماعية".
بالإضافة إلى ضريبة أخرى ظلت منذ عهد السعديين حتى القرن التاسع عشر، وهي الضريبة التي عُرفت ب"النايبة". وتتعلق بضريبة المجهود الحربي الذي تقوم به الدولة في مجموع التراب الوطني، والتي غالبا ما كان جبيُها يتم بتغطية عسكرية.
لقد كان الهدف المرتجى من وراء هذه الضرائب المستحدثة هو الرفع من قيمة المداخيل بالنسبة للدولة؛ مما سيثار بصددها نقاش حاد من قبل العلماء وهذ ما حدث بصدد المكس.
لقد كان المخزن في أمس الحاجة إلى المال - إلا أن رجال الدين سيعتبرون هذه الضريبة غير المباشرة غير عادلة؛ لأنها تشمل فقط جزءا من السكان، لا سيما الجزء الأكثر فقرا، مما يبين عمق الحرج الذي أصاب الجسم المغربي – الأكثر حيوية وفعالية في الاقتصاد الوطني.
لقد كان على رجال الدين أن يبينوا للخاضعين بأن هذه الضريبة لا تتعلق بالمكس، وأنها ضرورية للأمة وما دامت "تستجيب لمصاريف لم تكن منتظرة، فهي إذن مؤقتة", إلا أنه منذ 1860 لم يعد بإمكان العلماء أن يقدموا أي تبرير لها؛ ذلك أن المخزن نفسه أصبح يعترف صراحة بأنه يستحدث ضريبة مبررا إياها بأنه لا يلجأ إليها إلا اضطرارا.
لقد كانت ضريبة المكس موجهة أساسا إلى امتيازات أهل المدن عبارة عن "حقوق الأبواب كانت تُؤدى عند دخول البضائع إلى المدن، وكان الذين يتحملونها هم التجار والصناع والمستهلكون من أهل المدن على العموم".
أما طريقة جبيها فلم تكن مباشرة من قبل الدولة، بل كان "يوجد في كل مدينة من كان يؤخذ من عند أناس كانوا يكترون حق جمعه من عند الدولة وذلك بواسطة المزايدة العلنية".
لقد ترتب عن هذا الأسلوب نتائج وخيمة – حيث وُضع السكان تحت رحمة هؤلاء المكترين مما جعلهم يهملون بؤس الفئات الفقيرة، إلا أن ردود الفعل الشعبية كانت عنيفة جدا، إذ إنه ما أن توفي (السلطان) حتى امتنع أهل فاس عن مبايعة ولده الحسن مشترطين عليه إلغاء ضريبة المكس هذه – إلا أنه لم يستجب لهذا الطلب؛ مما أدى إلى قيام "فتنة بالمدينة، ولم يدخل مولاي الحسن إلى فاس إلا بقوة الحراب والمدافع، وقاد رجال حرفة الدباغة هذه الفتنة وباركها السراج عامل المدينة".
وعلى الرغم من محاولات استجلاب علماء الدين إليه بقصد تقديم تبرير لهذه الضريبة، فإن مناوراته باءت بالفشل؛ مما زاد في تعميق عزلة المخزن تجاه "رعاياه"، وكان هذا بمثابة إعلان عن طلاق بين المصلحة الدينية والمصلحة المخزنية، بين السياسة والشرع مما جعل السلطان يبحث عن ضريبة أخرى تكون أكثر "عدالة" من حيث شمولها وتعميمها على كافة السكان وجدها في "الترتيب"؛ وهي ضريبة فلاحية تكون خاضعة لمراقبة جهاز متخصص، إلا أنها قبل ظهورها كان رجال الدين من العلماء قد نبهوا إلى عدم مطابقتها للشريعة، لأنها في نظرهم لا يمكنها أن تُعوض أية ضريبة شرعية، لا الخراج ولا الزكاة، وبعد عشرين سنة حاول عبد العزيز استعادة نفس التجربة إلا أنها مُنيت بفشل ذريع أدى إلى خراب السلطة.
لقد كانت السياسة المالية تتميز بقساوتها وضراوتها، حيث أصابت في العمق كل السكان حضريين وقرويين دون أدنى مراعاة لوضعية الخاضعين ولمستوى الإنتاج؛ مما كانت له آثار عميقة على الجزء الواسع من الشرائح الاجتماعية، خاصة الفقيرة منها. وقد ساهم في ضراوتها كونها لم تكن مضبوطة ولا خاضعة لأي مقياس؛ مما جعلها مرتبطة بأهواء السلطان. لقد أصبحت تُقدر ليس بمدى ما يمكن للسكان أن يتحملوه، وإنما بقدر ما تتطلبه الدولة من حاجيات، بالإضافة إلى أن المستجلبين لهذه الضرائب – في غياب جهاز إداري دقيق يتحمل هذه المهمة - جعل أيضا نخبة من موظفي المخزن – قوادا وعمالا يغتنون على حساب استنزاف المستنزفين أصلا.
لقد قادت هذه السياسة الضريبية السيئة إلى تعميق الهوة، وتكسير تلك الرابطة العميقة التي كانت تربط بين السلطان ورعاياه؛ فإفلاس الفلاحين وقلق أهل المدن كان هو النتيجة الحتمية لهذه السياسة الضريبية – كل هذا دفع العلماء أن يصطفوا إلى جانب المتضررين، نجم عنه انفصال السياسة عن الدين مما جعلهما متعارضين – فكان لا بد لهذه الوضعية من أن تُتوج بفقدان الثقة في المخزن الذي أظهر عن عجزه، ولم يتمكن من تجاوزه – بلغ ذروته وهشاشته في انفجار البيعة (عبارة للعروي)
الحلقة السابعة: المخزن والعلاقات التحكيمية..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.