ريع فقط أم لغز؟ أعتقد أنه لا يوجد مغربي راشد – غني أو فقير- لم يتمن ،يوما، أن يحصل على "كريمة"؛أو على الأقل لم يغبط أحدا من معارفه الحاصلين عليها؛بكيفية معلومة أو مجهولة. إذا كان هذا هكذا،فنحن أمام حالة ،نفسية أكثر منها ريعية، ملغزة ؛أو على الأقل غريبة: حالة تستعصي على التصنيف؛بحيث لا يمكن أن تعتبر ريعية فقط ؛لوجود أثرياء ،ضربوا أكباد الإبل من أجل الحصول على كريمات ؛ولو من ذوات الريع الهزيل. لو كانت ريعية فقط لتأتى للحكومة الحالية وضع حد لها ؛ولو بأثر غير رجعي من قبيل :"إلا ما قد سلف". لقد استباح الوزير الرباح "الطابو"،أو الغرفة السوداء، التي ظلت موصدة في وزارته ؛وكشف عن فئة من الحائزين على هذا "الشيء" الملغز الذي تهفوا إليه نفوس المغاربة؛ فهل تصرفه الشجاع، هذا ،مقدمة لحل اللغز أم زيادة في تمنيعه؟ الكثير من المشاهير ،الذين وردوا في اللائحة ،أدلوا بكون ما ضبطوا، متلبسين به،من شرف، "باروك" ملكي يفتخرون به. لعل هؤلاء الآن ،وفي قرارة نفوسهم،مرتاحون أيما ارتياح ،ومفتخرون أيما افتخار ،وقد علم القاصي والداني بحظوتهم الملكية؛التي لم يكن يعرفها إلا أقرباؤهم. لقد وصل الأمر بأحدهم إلى القول :"اديو فلوسها وخليوها لي"(خذوا دخلها واتركوها لي). انه يحبها حب الشاعر الذي قال عن حبيبته: "أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري". وأتذكر هنا ما سبق أن برر به بعض لصوص الأواني الملكية فعلتهم ؛بكونهم أتيح لهم حضور استضافات ملكية ،عامة، فعز عليهم أن يغادروا الموائد ؛ دون "باروك" –من الكريستال- يفتخرون به؛خصوصا وعليه من الحروف ما يؤكد مصدره السامي. لا حظوا كيف تصبح السرقة الواضحة،بل الوقحة، موضوع افتخار ؛لارتباط المسروق بجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله؛فكيف سيكون حال الذين متعهم الملك نفسه بإكراميات؟ إذن كفانا تبسيطا للمسألة ؛باعتبارها قضية ريع فقط ؛يمكن أن نضع له حدا،بمجرد إجراءات إدارية وإعلامية. وتتعقد مسألة" الكريمات" أكثر؛حينما ينظر إليها- إضافة إلى كونها ملكية المصدر- على أنها من سليل الدوحة النبوية الشريفة. هنا نجد أنفسنا في عمق الخطاب الشرعي ،المؤسس على نصوص قرآنية وحد يثية: خطاب يحض على التودد لآل البيت المطهرين؛وتقديمهم ،والأخذ عنهم : لا فرق هنا بين أن يكون ما يؤخذ عنهم معنويا يهتدى به؛ أو ماديا ملموسا يتبرك به. وكما كان المغاربة، ولا يزالون، يسعدون بالأخذ عن الأشراف ؛كانوا لا يبخلون عليهم باستضافتهم؛ودفعهم إلى الاستقرار بين ظهرانيهم بتزويجهم ،وتمليكهم الأراضي الخصبة؛وتشييد الزوايا والمزارات الخاصة بهم،في حياتهم وبعد مماتهم. إن اشتهار المغاربة بحب آل البيت معلوم ؛و قد كان هذا الحب وراء تأسيس الدول الشريفة ؛بدءا من الأدارسة ووصولا إلى العلويين. لا يجب أن نغفل هذا البعد ؛ونحن نبحث عن حل جذري لما يتعلق ب"الكريمات" كتجل من تجليات اقتصاد الريع. من التشريف الملكي إلى آلية دولتية: كل الحكومات السابقة ساهمت،راضية أو مضطرة -بدرجة أو بأخرى-في ترسيخ ثنائية" الكريمة والعقاب"؛ولم يحدث أن ثار وزير ضد هذا الوضع ثورة الوزير الرباح-على الكريمة فقط- حتى لانقول حكومة بن كيران. وحتى هذه الثورة ،تظل محدودة ؛بل مردودة على صاحبها ،تصريحا أو تلميحا، من طرف أعضاء في الحكومة؛يظهر بعضهم أنه يفهم في "المخزن" أكثر من الوزراء الخلص لابن كيران . إن احتكارا لدولة للعقاب/العنف يظل مطلوبا ؛حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية ؛إذ عليه تتأسس هيبتها ،حتى تكون قادرة فعلا على تحقيق الأمن للمواطنين ،فيما يخص أبدانهم،معتقداتهم ،أموالهم، كرامتهم، وقيمهم... أما المحاباة-ومنها هذه الإكراميات- في تدبير مرافق الدولة،من طرف الحكومات ؛وصولا إلى احتكارها،وحمل المواطنين على قبولها كواقع لا يرتفع، فلا أثر له إلا في طبائع الاستبداد،القديمة و الحديثة ؛التي تشرعن نفسها باستمالة شرائح من المواطنين بكل الأساليب الممكنة ،حتى يسلس لها القياد؛وهي أساليب موغلة في تاريخنا المغربي ،و العربي والإسلامي؛كما هي موغلة في تاريخ كل الأمم. وتضل "الكريمة" الحكومية –حتى وهي دون التشريف الملكي ،قيمة- تتضمن،إضافة إلى ريعها، عطف ورضا المخزن عن المستفيد. ماذا وراء الأكمة؟ إن مرجعية"المؤلفة قلوبهم" ،من عتاة الكفار النافذين في قبائلهم ،تقوم شاهدا على مدى تغلغل هذا النهج حتى في الاشتغال الدعوي النبوي ؛ولعل صرخة عمر بن الخطاب ،في وجه أحد هؤلاء ؛وقد جاء طالبا ل"كريمة" من "كريمات" ذلك العصر؛التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمتعه بها : إن الله قد أعز الإسلام وأغنانا عنك( في رواية عن المعني بالأمر:فجثم على صدري كالناقة وصرخ) خير دليل على خروج نهج المحاباة عن الثابت المسلم به- دينيا- ودخوله إطار التكتيكي المؤقت. لكن تواصل هذا النهج في التاريخ الإسلامي ؛خصوصا وقد جعله معاوية بن أبي سفيان آلية من آليات اشتغال الملك العضوض ؛ معززا بالفهم المغرض لكل النصوص الشرعية ،التي تشرعن الفيء ،الغنيمة ،الخراج ؛وبكل الأعراف الاستبدادية التي رسخت احتكار أولياء الأمر لثروة الدولة ،يتصرفون فيها على هواهم؛ رسخ سلوكيات دولتية جرت مجرى الثابت الذي لا يتصور تحوله؛والذي أسس عليه ،وعلى غيره، الكثير من المفكرين الغربيين ،بالخصوص،مقولة استحالة تحقق الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية؛باعتبار الديمقراطية مناقضة لفكر القبيلة والغنيمة.. من يقوض كل هذا المعمار الثقافي؟ نعم انه ثقافي أيضا ،متجذر في مخيالنا ؛وإلا ما كان للجميع أن يسكت عنه ؛إن لم يتمناه كل واحد لنفسه أيضا؛ ،إلى أن بعثه الحراك الشبابي المغربي من مرقده-على خلفية من الحراك العربي العام - وشهر به ؛بل وطالب برأسه ؛باعتباره فسادا يجب أن يجتث . ومن هنا فلا معنى لتنزيل الدستور الجديد – وهو حراكي أيضا-إن لم يكن في اتجاه خلخلة ثقافة الريع؛وكل الممارسات المخزنية ،التي تمتح من طبائع الاستبداد ،حتى تتحقق كل المقولات التي تدفع بنا صوب الحداثة الحقيقية : "المفهوم الجديد للسلطة" "الملكية المواطنة" ،"تكافؤ الفرص بين الجميع" ،"شفافية التدبير"،"الحق في المعلومة" "من أين لك هذا""الحكومة الرشيدة" " المحاسبة"... إن مما يدفئ الصدر ،في هذه الأيام الباردة،أن نسمع تزكيات ملكية لرئيس الحكومة ؛في كل ماله صلة بتنزيل الدستور الجديد ؛وعدم الاكتراث بقوة اللوبيات ؛بل ورفع جلالته الحرج حتى إزاء مراسلات يمكن أن تصدر عن الديوان الملكي.وهذا يتضمن أمرا ساميا ألا يصدر عن أية جهة-مهما علت- أمر يعرقل التنزيل. من حق المغاربة أن يعرفوا من يستفيد من ماذا؟ كم هو عظيم هذا الفتح ،الذي بدأت بشائره تلوح في الأفق ؛ولا هجرة صوب الريع بعده. يبقى أن يتم التفكير في وضع آلية رسمية للمكافأة الشفافة- وليس المحاباة-لما لها من دور في التحفيز على انخراط كل المواطنين –حسب مواقعهم ومؤهلاتهم- في الدينامية التنموية للوطن؛بكل تجلياتها واشتغالاتها. ويبقى أيضا أن ترسم آلية لمحاربة الهشاشة الاجتماعية ؛بعيدة كل البعد عن "الكريمات" التي استغلت أبشغ استغلال؛حتى استسهل بعض الجشعين استغلال العطف الملكي؛ بتكوين ملفات احتياج كلها بهتان. إن قطاع النقل يجب أن يهيكل ،وفق دفاتر تحملات دقيقة وصارمة؛ ويسري هذا على كل المرافق الاقتصادية ؛برا وبحرا ؛وحتى جبلا ؛لكي لا يكتسب درهم مغربي إلا من الأوجه المشروعة. أخيرا :الجريمة والعقاب لدوستويفسكي: نموذج رائع من الأدب الروسي ،بل العالمي ؛الذي اشتغل على النوازع الإنسانية في مجتمع آخذ في التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية:المجتمع الروسي في ستينيات القرن التاسع عشر. البطل " راسكولينوف" طالب جامعي موهوب،متمرد على الأخلاق، أناخه الفقر والحرمان ؛واستبد به طموح إلى التفوق والشهرة؛ ولو بارتكاب جريمة :يقتل ،فعلا، مرابية خبيثة وشرهة للمال،وأختها. ينال عقابا شديدا يوصله إلى الجنون والعزلة القاسية ؛ثم التفكير في الانتحار ؛وينتهي راضيا بمصيره. إن شخصيات الرواية فئتان:فئة الشعب "المضغوط الذي يطحنه الفقر والحرمان" وفئة " أصحاب المال الذين تعطيهم ثروتهم حق الإساءة إلى المحتاجين" ؛ومنها "المرابية العجوز الشريرة". لم توح لي هذه الرواية بالعنوان فقط ؛بل استحضرت خريجين جامعيين في وضعية"راسكولينوف"وصلوا إلى حد قتل النفس حرقا؛وقد أمر الله ألا تقتل . وا أسفاه أن يحدث هذا ؛ولا يوجد من الأثرياء، أصحاب "لكريمات" الكبيرة ،من يلقيها من بين يديه ؛وكأنها جمرة حارقة؛عساها تساهم في وضع حد لليأس الشبابي. [email protected] Ramdane3.ahlablog.com