للمرة الثالثة على التوالي، في ظرف 7 سنوات، مد جلالة الملك يده إلى الجزائر، من أجل فعل مشترك، يجد مبررات وجوده في التاريخ كما في الجغرافيا، في الاقتصاد كما في اللغة والعقيدة. وقد أثبت ملك المغرب، أن إصراره هو إصرار العاقلين، في وقت تبدو القوة، المفترضة أو الحقيقية، لا تقدم النصيحة الجيدة للطرف الآخر، إلى حد الساعة على الأقل. كانت اليد الممدودة في المرة الأولى سنة 2018، بعد أن وقف ملك المغرب على كلفة هذا اللامغربnon maghreb ، ثم عندما استشعر أن هناك «مخططا» للجنون قد يدفع نحو علاقات القطيعة والعداء المسلح، ولعل التاريخ سيحفظ أن الملك، وقتها، قدم عرضه المغاربي الشامل على الجزائر، في سياق مناسب للمغرب وليس في حالة عجز أو ضعف. وقتها كانت الدعوة ترتكز على ما يلي: أولا كان الخطاب قد بدأ بالقضية المغاربية، وفي سياقها التثمين العالي للطموح والوضوح إلى رسم معالم السياسة الخارجية، خصص الخطاب ثلثه للموضوع: عاد إلى التاريخ المشترك، ثم إلى فكرة محورية احتضنها مغرب محمد الخامس في 1958، وهي مؤتمر طنجة، الذي تصادف مع ذكراه الستين، ثم قام الملك بتقييم جريء وواضح يخص «الوضع غير الطبيعي وغير المقبول»حاليا، وأعلن ما يلي: – الإعلان عن ثبات المطلب، منذ توليه العرش، بفتح الحدود بين البلدين. الإعلان عن الاستعداد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة. اقتراح إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، يتم الاتفاق على تحديد مستوى التمثيلية بها، وشكلها وطبيعتها. الانفتاح على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر. تحديد مهمة هذه الآلية في الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية. بطبيعة الحال، يتضح أن العرض الملكي كان عرضا متكاملا، لا من حيث آليات العمل ولا من حيث جدول أعمالها ولا من حيث التمثيلية فيها، أما من حيث موضوع المهمة فقد سحبه الملك على كل قضايا الخلاف: الصحراء بطبيعة الحال، المسألة الحدودية العالقة منذ 1972، وغيرها من تأمين الحدود وقضايا التهريب، وكلها مذكورة في الخطاب. ما زلنا نذكر بأن الجواب الجزائري، هو أنه نحا نحو إيران، والتنسيق معها من أجل الاستقواء، نذكر من بعدها المناورات العسكرية العديدة وارتفاع درجات التهديد… في المقابل، كان المغرب في وضع متقدم عما سبق، داخل القارة، ونحن هنا نشير إلى عودته إلى الاتحاد الإفريقي، الذي كانت الجزائر قد وضعت له عراقيل كثيرة رفقة وصيفتها جنوب إفريقيا. وهو ما أشار إليه ملك البلاد في نفس الخطاب، كما أشار إلى التعاون مع الأممالمتحدة حول الحق الترابي المغربي. وفي هاته الحالة يمكن أن نربط مستويات الخطاب(اليد الممدودة، العودة إلى العائلة المؤسساتية، إفريقيا، والتعاون مع الأممالمتحدة) بتماهي المغرب مع الشرعيات الثلاث: المغاربية بتاريخها وأوضاعها وعقلانيتها، المؤسساتية قاريا بالعودة إلى مكانه، ثم الدولية بالتزام بما يجمع عليه العالم داخل الأممالمتحدة..والرسالة واضحة أنه في وضع مريح إلا في ما يتعلق بالعلاقة الثنائية. وكان الملك قد مد اليد مجددا إلى الجزائر في خطاب العرش في يوليوز 2021، ففي الفترة الفاصلة ما بين التاريخين، عرفت المنطقة حدثين مهمين للغاية: الأول إغلاق معبر الكركارات الحدودي من طرف الانفصاليين بدعم جزائري، في أكتوبر 2020، وهو ما دفعه إلى التدخل لتطهير المكان، في نونبر الموالي، عبر إقامة حزام أمني لتأمين تنقل الأشخاص ونقل السلع، اعتبرته البوليساريو والجزائر خرقا لوقف إطلاق النار… ثم الحدث الأبرز هو اعتراف أمريكا بسيادة المغرب على الصحراء في دجنبر من نفس السنة 2020 . وفي نفس السنة، بل في نفس الشهر، يوليوز 2021، كان عمر هلال، في سياق السجال الأممي مع مبعوث الجزائر، قد دعا إلى «حق تقرير المصير» لسكان منطقة القبائل في الجزائر! مما جعل الأجواء تزداد توترا، وتحولات العواصم المعنية بالمنطقة تضع احتمالات الحرب في وارد تفكيرها! في خطاب العرش 2021، استفاض جلالة الملك في توضيح مقترح اليد الممدودة، على قاعدة « توطيد الأمن والاستقرار، في محيطه الإفريقي والأورو-متوسطي، وخاصة في جواره المغاربي». . وفي تفصيل المنطوق الملكي، كانت دعوة الطمأنة واضحة من خلال تأكيد الملك «لأشقائنا في الجزائر، بأن الشر والمشاكل لن تأتيكم أبدا من المغرب، كما لن يأتيکم منه أي خطر أو تهديد؛ لأن ما يمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا.» مضيفا بأن « أمن الجزائر واستقرارها، وطمأنينة شعبها، من أمن المغرب واستقراره.».. وختم الدعوة بمخاطبة الرئيس تبون نفسه مباشرة حيث قال: «لذا، أدعو فخامة الرئيس الجزائري، للعمل سويا، في أقرب وقت يراه مناسبا، على تطوير العلاقات الأخوية، التي بناها شعبانا، عبر سنوات من الكفاح المشترك…». بطبيعة الحال، كانت الدعوة، وقتها، ترسم ما سبقها حول آليات العمل ومضامين الحوار والنقط العالقة وما إلى ذلك. وهنا لا بد مع ذلك أن نذكر بأن الخطاب كان قد تأخر عن موعده المعتاد بقرابة 48 ساعة. وهو ما جعل المؤرخ عبد الله العروي، بالتحديد، يربط بين هذا التأخير والمساعي التي كان المبعوث الأمريكي وقتها جوشوا هاريس يقوم بها لتقريب وجهات النظر، بل لتفادي التصعيد الذي وردت مقدماته في ما تقدم ذكره. وكان الجواب الجزائري وقتها سريعا: في غشت قامت الجزائر بقطع علاقاتها مع المغرب. المغرب يعرب عن أسفه لقرار الجزائر. ثم قام الرئيس، الذي توجه إليه الملك شخصيا، بإعلان عدم تجديد عقد استغلال خط أنابيب الغاز الذي يزود إسبانيا بالغاز الجزائري مروراً بالمغرب، لتستقر الأوضاع في منطقة التوتر، وإن كانت دعوة الملك قد أوقفت السيناريوهات التي تخيف المحيط الأوروبي والأمريكي على حد سواء. ولعل ما كان يخيف أوروبا، والتي تدخلت ولا شك بوسائلها، هو أن تصبح الجزائر مثل ليبيا مصدرا لهجرات بلا حدود، وأيضا معبرا للجنوب القاري إلى أوروبا التي تعاني من موجات الهجرة القادمة من الشرق، مع ما يفتحه دلك أيضا من ممرات للمنظمات الإرهابية والجريمة المنظمة الأخرى. وعلى كل، جاء الخطاب هذه المرة بنبرة واضحة أيضا … في خطاب العرش لهاته السنة، أعاد الملك السنة المحمودة ذاتها، مع اختلافات في السياق كذلك. أولا، الدعوة جاءت في آخر الخطاب الملكي، بعد الوقوف على المنجزات، وأيضا على ما يجب القيام به في تصليب الديموقراطية وتقويم الاعوجاجات التي تشوب العدالة الاجتماعية والمالية.. وكانت الدعوة قد وقفت عند :»الانفتاح على محيطنا الجهوي، وخاصة جوارنا المباشر، في علاقتنا بالشعب الجزائري الشقيق.». وهنا نجد أن المخاطَب كان هو الشعب أكثر من غيره مما سبق من تحديد المخاطَب في شخص الرئيس. ثانيا، أن الدعوة تكررت من أجل « حوار حول القضايا العالقة». ثالثا، التمسك بالمغرب الكبير القائم على مرتكزين هما المغرب والجزائر. وهذه الدعوة، كسابقاتها، أعقبها، من بعدُ، تعداد لمكاسب المغرب الجديدة، التي كانت بمثابة تقديم لدعوة «إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف». يتبع…