1) ليلة الخميس ما قبل الماضي، كنت في حفل موسيقي للعزف على البيانو. أغلب الذين حضروا الحفل تظهر عليهم "آثار النعمة"، هواتف محمولة من آخر طراز، وروائح عطور من النوع الراقي، وملابس من ماركات عالمية، رغم أن هؤلاء لم يكونوا من عليّة القوم، بل من الطبقة الأعلى قليلا من الطبقة المتوسطة. الذي يحدث للإنسان عندما يخالط طبقة اجتماعية أرقى من الطبقة التي ينتمي إليها، هو أن رغبة جامحة تتملكه في أن يرتقي درجات السّلّم الاجتماعي، ليعيش بدوره حياة أفضل وأرقى، وإذا كان مسؤولا عموميا بلا ضمير، في بلد ينعدم فيه القانون مثل المغرب، فليس هناك أيّ شك في أنه "غادي يديرْ شرع يدّو في المال العام"! 2) لا أريد أن يَفهم من كلامي على أنّ جميع المسؤولين العموميين عندنا يختلسون المال العامّ، فهناك طبعا مسؤولون شرفاء لديهم ضمائر حيّة، ولا يمكن أن نجمع الكلّ في سلة واحدة، ولكنّ ما صرّح به رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، عبد السلام أبودرار، عندما قال قبل أيام بأن رقعة الفساد تتجه نحو التوسع والامتداد في مختلف مجالات تدبير الشأن العام بالمغرب، يؤكّد أن اختلاس المال العام، واختلاس أموال الناس عبر تلقي الرشاوى، عملة رائجة في المؤسسات العمومية المغربية، وهذا في نظري شيء طبيعي، ما دام أننا لا نملك قوانين تخيف هؤلاء المختلسين والمرتشين، أو نملكها لكنها تظل مجرد بنود على صفحات القانون الجنائي، كما لو أنّ الدولة تشجع هؤلاء على الاستمرار في الاختلاس والسرقة والنهب بطريقة غير مباشرة! 3) لكن لماذا يختلس هؤلاء المختلسون المال العامّ ويسرقونه، ولماذا يقبض المرتشون الرشاوى من أجل القيام بعمل يفترض أن يقوموا به طالما أنهم يتلقون عن ذلك أجورا وتعويضات شهرية؟ السبب هو أنّ الإنسان بطبعه طمّاع، وكلما ارتقى درجة في السلّم الاجتماعي يسعى إلى الارتقاء إلى درجة أعلى وأفضل، من كانت لديه شقة وسيارة عادية يسعى إلى امتلاك فيلا وسيارات فارهة وخدَما في البيت و و .. وعندما يتحقق حلمه تظهر أحلام أخرى، وبما أن الأجر الشهري الذي يتلقاه قد لا يسعفه في تحقيق أحلامه كلها، فمن الطبيعي أن تمتدّ يده إلى المال العام إنْ وجد إليه سبيلا، أو إلى جيوب المواطنين عبر تلقي الرشاوي. قد تكون البداية باختلاسات ورشاوى صغيرة، وكلما كبرت الأحلام يكبر حجم الاختلاس، وحجم الرشاوى، ومْن هادي، كما يقول المثل، للﮕارو! 4) هناك من يقول بأنّ الوازع الأخلاقي كفيل بالحدّ من هذه الأمور الشنيعة، وهذا صحيح إلى حدّ ما، لكنه ليس كافيا بالمرّة، فالإنسان، حتى ولو كانت أخلاقه عالية، قد تأتي عليه لحظات يضعف فيها أمام فتنة المال وإغراءات الحياة، وأنا أصلا لا يهمني كمواطن أن يكون أي مسؤول عمومي يتمتع بأخلاق عالية، بل يهمني أن يكون لدينا قانون يحمي المال العام، ويضرب على أيدي مختلسيه بقوة. فحتى في البلدان الغربية المتقدمة والديمقراطية، والتي ننظر إلى مسؤوليها على أنهم نزيهون، تحدث اختلاسات للمال العام، صحيح أنها قليلة بالمقارنة مع ما يحدث عندنا، لكنّ الذي يجب علينا إدراكه هو أن الذي يمنع مسؤولي تلك البلدان المتقدمة من الاقتراب من المال العام هو أنهم يخافون من القانون الصارم بالدرجة الأولى، وليس لأنهم يتمتعون بأخلاق عالية. فهناك في تلك البلدان يوجد مغاربة كثر يسيّرون بلديات مدن كبيرة، ويوجدون في الحكومات والبرلمانات، ومع ذلك لا يختلسون المال العام كما يحدث عندنا، رغم أنهم أيضا مغاربة. ولو قُدر لمسؤولي تلك البلدان الديمقراطية المتقدمة أن يأتوا إلى المغرب ويسيروا مؤسساته العمومية، لاختلسوا ونهبوا هم أيضا، ما دام أن القانون المغربي ليس صارما بما فيه الكفاية، ولصاروا مثل المسؤولين المغاربة تماما، ما دام أن من عاشر قوما أربعين يوما، غادي يولّي بحالهم! [email protected]