الدمناتي: مسيرة FDT بطنجة ناجحة والاتحاد الاشتراكي سيظل دائما في صفوف النضال مدافعا عن حقوق الشغيلة    تيزنيت: الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب ينظم تظاهرته بمناسبة فاتح ماي 2025 ( صور )    عندما يهاجم بنكيران الشعب.. هل زلّ لسانه أم كشف ما في داخله؟    وزراء خارجية "البريكس" وشركاؤهم يجتمعون في ريو دي جانيرو    كأس إفريقيا لأقل من 20 سنة.. المنتخب المغربي يدشن مشاركته بفوز صعب على كينيا    في عيد الشغل.. أمين عام حزب سياسي يتهم نقابات بالبيع والشراء مع الحكومة    صادرات الفوسفاط بقيمة 20,3 مليار درهم عند متم مارس 2025    تنفيذ قانون المالية لسنة 2025.. فائض خزينة بقيمة 5,9 مليار درهم عند متم مارس    "كان" الشباب: المنتخب المغربي ينتصر على كينيا ويشارك الصدارة مع نيجيريا قبل المباراة المرتقبة بينهما    أمطار طوفانية تغمر زاكورة.. وسيول كادت تودي بأرواح لولا تدخل المواطنين    الشرطة الإسبانية تعتقل زوجين بسبب احتجاز أطفالهما في المنزل ومنعهم من الدراسة    كلية الناظور تحتضن ندوة وطنية حول موضوع الصحة النفسية لدى الشباب    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    فرنسا.. ضبط 9 أطنان من الحشيش بعد سطو مسلح على شاحنة مغربية قرب ليون (فيديو)    فوائد القهوة لكبار السن.. دراسة تكشف علاقتها بصحة العضلات والوقاية من السقوط    نشرة إنذارية: زخات رعدية وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    كرة القدم.. برشلونة يعلن غياب مدافعه كوندي بسبب الإصابة    توقيف لص من ذوي السوابق لانتشاله القبعات بشوارع طنجة    لماذا أصبحت BYD حديث كل المغاربة؟    عمر هلال يبرز بمانيلا المبادرات الملكية الاستراتيجية لفائدة البلدان النامية    موخاريق: الحكومة مسؤولة عن غلاء الأسعار .. ونرفض "قانون الإضراب"    رحيل أكبر معمرة في العالم.. الراهبة البرازيلية إينا كانابارو لوكاس توفيت عن 116 عاما    المركزيات النقابية تحتفي بعيد الشغل    "تكريم لامرأة شجاعة".. ماحي بينبين يروي المسار الاستثنائي لوالدته في روايته الأخيرة    باحثة إسرائيلية تكتب: لايجب أن نلوم الألمان على صمتهم على الهلوكوست.. نحن أيضا نقف متفرجين على الإبادة في غزة    اتحاد إنجلترا يبعد "التحول الجنسي" عن كرة القدم النسائية    المغرب يجذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 9.16 مليار درهم في ثلاثة أشهر    تقرير: المغرب بين ثلاثي الصدارة الإفريقية في مكافحة التهريب.. ورتبته 53 عالميا    الحكومة تطلق خطة وطنية لمحاربة تلف الخضر والفواكه بعد الجني    تراجع طفيف تشهده أسعار المحروقات بالمغرب    أمل تيزنيت يرد على اتهامات الرشاد البرنوصي: "بلاغات مشبوهة وسيناريوهات خيالية"    المملكة المتحدة.. الإشادة بالتزام المغرب لفائدة الاستقرار والتنمية في منطقة الساحل خلال نقاش بتشاتام هاوس    معرض باريس.. تدشين جناح المغرب، ضيف شرف دورة 2025    عادل سايح: روح الفريق هل التي حسمت النتيجة في النهاية    العثور على جثة مهاجر جزائري قضى غرقاً أثناء محاولته العبور إلى سبتة    تسارع نمو القروض البنكية ب3,9 في المائة في مارس وفق نشرة الإحصائيات النقدية لبنك المغرب    الإسباني لوبيتيغي يدرب منتخب قطر    السكوري بمناسبة فاتح ماي: الحكومة ملتزمة بصرف الشطر الثاني من الزيادة في الأجور    أغاثا كريستي تعود للحياة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي    دول ترسل طائرات إطفاء إلى إسرائيل    الإعلان في "ميتا" يحقق نتائج أرباح ربعية فوق التوقعات    فيدرالية اليسار الديمقراطي تدعو الحكومة إلى تحسين الأجور بما يتناسب والارتفاع المضطرد للأسعار    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    أكاديمية المملكة تشيد بريادة الملك محمد السادس في الدفاع عن القدس    الدار البيضاء ترحب بشعراء 4 قارات    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين العلمانية والعلمانوية
نشر في هسبريس يوم 07 - 06 - 2013


في الحاجة إلى منهجية النقد المزدوج
يعتبر مفهوم العلمانية من بين المفاهيم الفكرية الحديثة التي أثارت نقاشات حادة و خلافية في الفكر العربي، ما بين مدافع عن المفهوم باعتباره الخيار الوحيد أمام الثقافة العربية للخروج من سيطرة النص الديني، و ما بين معارض يعتبر أن الإسلام دين و دنيا/دولة. و لذلك، فهو يختلف جوهريا عن المسيحية التي ولدت تجربة العلمانية.
لكن، النقاش انزاح في أحيان كثيرة عن المقاربة العلمية، كما هو شأن جميع النقاشات الفكرية التي عرفتها الثقافة العربية، و تحول إلى صراع غذته، أكثر، الإيديولوجياتالمتصارعة، بحيث اتخذ مفهوم العلمانية، في المفهوم اليساروي/الليبرالوي، صفة معاداة الدين باعتباره أفيون الشعوب، و باعتباره يمثل مرحلة سابقة من مراحل تطور البشرية، و بذلك تحولت العلمانية إلى إيديولوجية ذات بعد مذهبي أكثر مما هي منهج في الفصل بين السلطتين الروحية و المادية من دون معاداة بينهما، مع المحافظة على استقلالية كل سلطة عن الأخرى. و هذا، ما فتح الباب أمام رد فعل الحركات الإسلامية، التي اعتبرت العلمانية خطرا على الإسلام و ربطتها بالكفر و الإلحاد ! و لذلك، خاضت حربا شرسة ضدها، بل و ركبت هذه الحرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية مكنتها من احتلال مكانة التيارين اليساري و العلماني القومي؛ بعد انهيار مشروعهما السياسي و الثقافي لأنه لم ينجح في تحقيق الانسجام مع بنية المجتمعات العربية.
و هنا، لا بد من إثارة مجموعة من الأسئلة التي تطرح نفسها، بقوة، على الباحث من قبيل: هل العلمانية بمفهومها العلمي تعادي الدين و تسعى إلى استئصاله؟ هل يمكن اعتبار التجارب العلمانوية الفرنسية و الشيوعية و الأتاتوركية، التجسيد الوحيد الممكن لمفهوم العلمانية؟ أم إن هناك مقاربات أخرى للمفهوم ؟
قبل أن نخوض في نقاشنا حول مفهوم العلمانية و حول حضوره في الثقافة العربية، لابد من التوقف أولا عند الدلالات التي يحملها المفهوم. "فحسب الإيتمولوجيا فإن كلمة laïcos اليونانية؛ تعني الشعب ككل ما عدا رجال الدين، و في لاتينية القرن الثالث عشر نجد أن كلمة laïcus تعني الحياة المدنية أو النظامية ". (1) و باعتماد الدلالتين معا، لا نقف على ما يرتبط بنفي البعد الديني بل نلمس توجها نحو الفصل بين البعدين المادي و الروحي ليرتبط كل مكون بوظيفته الخاصة، كما يحيل مفهوم العلمانية بطريقة مباشرة على الحياة المدنية و النظامية. و لعل هذه الدلالات، لتؤكد بالملموس على أن مفهوم العلمانية ليس إيديولوجية معادية للمكون الديني، بل إن وظيفتها هي حصر هذا المكون ضمن مجاله الخاص.
و هذه الدلالات، هي ما يغيب عن علمانية النموذج الفرنسي، التي يطلق عليها الأستاذ محمد أركون مصطلح العلمانوية laïcisme باعتبارها تجربة ارتبطت بالثورة على الإكليروس، الذين كانوا يوظفون سلطة الكنيسة لفرض هيمنتهم على الدولة و المجتمع، و لذلك كان رد الفعل ضد الدين عنيفا، بحيث تم تهميشه في الحياة المدني، عبر قرارات صارمة فرضتها الدولة على المواطنين و على المؤسسات .
و بالإضافة إلى التجربة الفرنسية، اتخذ مفهوم العلمانية بعدا إيديولوجيا في الأدبيات الماركسية التي نهلت منها مجموع دول المعسكر الشرقي، من الاتحاد السوفييتي إلى أوروبا الشرقية إلى أمريكا اللاتينية، و بعض الأحزاب الشيوعية العربية. و قد تم التعامل مع العلمانية في هذه الأدبيات باعتبارها نفيا للمكون الديني؛ الذي اعتبر بلغة ماركسية مصكوكة أفيون الشعوب الذي يخدرها و يمنعها من النضال ضد الاستغلال و العبودية ! كما حضرت العلمانية في التجربة الإسلامية بشكل لا يختلف عن سابقيه، فقد عمل أتاتورك في تركيا على تجسيد العلمانوية الفرنسية، باعتبارها معاداة للدين و بذلك، فرض على المجتمع التركي إيديولوجية تتناقض مع مرجعيته الثقافية و هذا ما أدى، على المدى القريب بله البعيد، إلى نتائج معاكسة تماما لطموحات أب الأتراك .
و لذلك، نجد الأستاذ محمد أركون يؤكد، على أن تجربة تركيا العلمانوية قد ذهبت بعيدا في جرأتها لكنها، لم تكن في الواقع إلا (كاريكاتيرا) للعلمنة، رافقته بعض التطرفات، كما حدث في فرنسا سابقا لكن، الشعب التركي لم يستجب لهذه التجربة التي دوخته مما يفسر العودة الدينية العنيفة" . (2)
من خلال عرضنا لهذه الأشكال الأيديولوجية، التي حضرت من خلالها العلمانية باعتبارها ثورة ضد المكون الديني (العلمانوية laïcisme )، يمكن أن نفهم، بوضوح، عمق الظاهرة الدينية التي لا يمكن مقاربتها من منظور إيديولوجي ضيق، بل تتطلب مجهودا فكريا يرتبط بتاريخ الأديان المقارن، بالإضافة إلى الأنطروبولوجيا الثقافية و سوسيولوجيا الدين ... و كلها تخصصات علمية تسعى إلى مقاربة الدين كظاهرة تتطلب مقاربة علمية، لا تقل قيمة عن مقاربة مختلف الظواهر الإنسانية الأخرى. و لعل ما يؤكد هذه الرؤية، هو الفشل الذريع الذي منيت به هذه التجارب العلمانوية، سواء في التجربة الفرنسية، أو في التجربة الأتاتوركية، أو في الإيديولوجية اليسارية الشيوعية ... حيث كانت النتيجة دائما انفجار المكبوت الديني بشكل أعنف لا يمكن مقاومته .
و لعل أبرز مثال على ذلك هو ما يقع في تركيا الآن، حيث يوضع التراث العلمانوي الأتاتوركي في مهب الريح، و يتحدث المراقبون، اليوم، عن ظاهرة ثقافية جديدة يتزعمها حزب العدالة و التنمية، الذي يسيطر على السلطتين التشريعية و التنفيذية في الدولة التركية، و يقود ثورة صامتة ضد الأتاتوركية. و يقدم هذا النموذج دروسا عميقة لبعض النخب العربية المؤدلجة، التي تقود حربا دونكشوطية ضد الدين الإسلامي، من منظور سياسوي يفتقد أبسط شروط التفكير العلمي الحديث، بحيث لا تنتج إلا خطابات فارغة من أي مضمون علمي.
1- التجربة الإسلامية التركية.. من العلمانوية الأتاتوركية و السلفية النصية إلى العلمانية المحافظة
يحضر الإسلام السياسي/الحركي، مجسدا في حزب العدالة و التنمية، كقائد لمجموع التحولات الحاصلة داخل المجتمع التركي، سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا، فمنذ وصوله إلى الحكم بأغلبية ساحقة سنة 2002؛ دشن الحزب لمرحلة جديدة في تاريخ تركيا تقوم على محورين أساسيين:
- يرتبط المحور الأول بالمنحى الفكري و الثقافي العام، حيث يعمل الحزب على محاولة تصفية الإرث العلمانوي الاتاتوركي، الذي فرض على المجتمع التركي نموذجا ثقافيا لا يستجيب لانتمائه الحضاري الإسلامي، و في نفس الآن لا يستجيب لأبسط مقومات الفصل العلمي بين السلطتين الروحية و المادية. و لذلك، فقد كان صورة مشوهة من العلمانوية الفرنسية، التي قامت على أساس استئصال كل الامتدادات الروحية في المجتمع الفرنسي، و نظرا لهذا الطابع الإيديولوجي الفج للعلمانوية الأتاتوركية، فقد أدت تركيا الثمن غاليا من استقرارها السياسي و الاجتماعي و الثقافي ... كما أدت ثمنا أغلى من عمقها الاستراتيجي، بتعبير أحمد داود أوغلو، وما يبدو واضحا لحدود الآن، فإن حزب العدالة و التنمية من خلال نخبه الأكاديمية المؤهلة قد نجح، إلى حد بعيد، في إعادة تشكيل النسق الاجتماعي و الثقافي في تركيا، و تقود هذا التحول كبرى الجامعات و مؤسسات المجتمع المدني، كما تقوده النخبة المثقفة عبر الصحافة و مختلف الأندية الثقافية.
- يرتبط المحور الثاني بالمنحى السياسي، و في هذا المنحى يقود حزب العدالة و التنمية صراعا مريرا ضد المؤسسة العسكرية، التي حكمت تركيا طوال عقود تحت القبضة الحديدية، كما أنها كانت طوال فترات حكمها حامية للتراث العلمانوي الأتاتوركي في السياسة و الثقافة؛ و في الامتداد الاجتماعي ... و سنت لذلك قوانين خاصة، تمنحها مشروعية التدخل لحماية القيم الأتاتوركية. و على هذا المستوى، تقود النخب السياسية الإسلامية صراعا دستوريا بهدف الحد من السلطات اللامحدودة، التي خولها الدستور للمؤسسة العسكرية.
و سواء على المستوى الثقافي أو على المستوى السياسي، فإن حزب العدالة و التنمية، بتأسيسه لهذا النموذج الإسلامي الجديد، يكون قد نجح، إلى أبعد الحدود، في التقريب بين نموذجين متناقضين فكريا و سياسيا في الفكر الإسلامي:
- يقوم النموذج الأول، على التأويل السلفي للنصوص الدينية محاولا تقييد الواقع المتحرك بالنص الثابت. و هذا النموذج تجسده الكثير من الحركات السلفية في العالم العربي، و التي تعتبر إما امتدادا للنموذج السلفي الوهابي، أو امتدادا لنموذج الإخوان المسلمين (3)
- و يقوم النموذج الثاني، على أساس علمانوي (4) يرفض كل ما يمت بصلة إلى مجال الدين. و هذا النموذج إما يحضر بامتدادات يسارية/ماركسية، و إما يحضر بامتدادات ليبرالوية ترتبط بالنموذج الفرنسي، الذي كرس الصراع و العداء بين المكون الروحي (الدين) و المكون المادي (الدولة) .
إن الصراع القائم بين هذين النموذجين، في الفكر الإسلامي منذ انفتاحه على الغرب إبان مرحلة القرن التاسع عشر، لا يتجسد حزبيا، فقط، بل يتجاوز ذلك لخلق نفس الصراع و التناقض على مستوى المجتمع ككل. فقد انقسم المجتمع على نفسه، منذ الانفتاح المتحقق على الغرب، إلى تيارين متصارعين لكل تيار أجندته و رهاناته الخاصة التي يسعى إلى فرضها على الجميع . إنه الصراع بين ما هو أصيل (سلفي غالبا) و معاصر ( يساري-ليبرالي غالبا) .
لكن، النموذج الذي يؤسس له حزب العدالة و التنمية في تركيا، يسعى إلى ردم هذه الهوة القائمة بين النموذجين، و يقدم الدليل في كل مرة على أن الصراع الحاصل في الفكر الإسلامي بين النموذجين، طوال قرن من الزمن، لا يتجاوز الطابع النفسي، بحيث ترسخ لكل طرف عداء نفسي، غير مبرر، للطرف الآخر يمنعه من مد جسور الحوار و التواصل الفكري نحوه .
ومن هذا المنظور، فإن كل ما قيل و ما كتب حول مسألة رفض الإسلام للحداثة، بما تجسده من ديمقراطية سياسية و ليبرالية فكرية و حرية سوق اقتصادية... كل ما قيل وكتب حول الرفض الإسلامي للحداثة يوضع الآن، مع التجربة الإسلامية الجديدة في تركيا، على محك النقد التفكيكي الصارم الذي لا يدع مجالا لتدخل النزعات الإيديولوجية الفجة .
إن قادة و منظري الحزب الإسلامي التركي يستثمرون كل منجزات الحداثة (سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا) من أجل ترسيخ النموذج الإسلامي في تركيا، و هم يقودون عملية بناء هادئة لنموذج علماني أصيل، يقوم على أساس الفصل بين السلطتين الروحية و المادية فصلا علميا يتناقض مع النموذج العلمانوي الأتاتوركي ذي النزعات الإيديولوجية الفرنسية. و هم بذلك لا يؤسسون فقط لمرحلة جديدة في تركيا، و لكنهم يؤسسون لمرحلة جديدة في العالم الإسلامي ككل، مرحلة تقوم على أساس التصالح بين الأصيل و المعاصر، بين الدين و الدولة، بين الإسلام و الحداثة بتعبير أشمل .
و لتجسيد هذه الرؤية، فكريا و سياسيا و اجتماعيا، فقد تبنى مؤسسو الحزب آلية "الديمقراطية المحافظة " و هي نظام سياسي و اجتماعي توفيقي تنسجم فيه الحداثة و التراث من جانب، و القيم الإنسانية و العقلانية من جانب ثان، فهي تقبل الجديد و لا ترفض القديم و المحلي، و تحترم الآخر و تؤمن بخصوصية الذات، و ترفض الخطاب السياسي القائم على الثنائيات التي تفرض رؤية سياسية أو عرقية أو إيديولوجية أو دينية ... واحدة تلغي ما سواها، و تؤكد أن الدولة يجب أن يتوقف دورها عند تسيير الأمور، من خلال الحد من التناقض عبر التوفيق بين مختلف الاتجاهات، بتحقيق التفاعل الإيجابي في المجتمع بما يساهم في إيجاد بيئة يتعايش فيها الجميع دون استقطاب. و تتعدى ديمقراطية الحزب الانتخابات و نزاهتها، و البرلمانات و قدسيتها، إلى تنشيط دور المجتمع المدني و احترام الحريات، و ضمان الحق في الاختلاف و المشاركة، و توزيع و استقلال السلطات، و هي المبادئ العامة للديمقراطية المحافظة، و التي يسعى الحزب إلى تحقيقها في الحياة السياسية التركية. (5)
و تتأطر هذه الديمقراطية المحافظة، التي يسعى الحزب الإسلامي إلى ترسيخها في الدولة و في المجتمع التركي، من خلال رؤية علمانية (محافظة) تسعى إلى التوفيق بين حضور الدين في الدولة و في الحياة العامة من جهة، و من جهة أخرى إلى تقنين هذا الحضور من منظور مؤسساتي واضح يقوم على أساس نموذج سياسي تركي أصيل، تجسد منذ الإمبراطورية العثمانية يؤمن بان " الدولة تسبق الدين بخطوة " (6). و هذا هو ما يجسده قادة الحزب، سواء على مستوى التنظير، أو على مستوى الممارسة. الدين هو شيء مهم بالنسبة لي على المستوى الفردي –يؤكد أردوغان- لكنه لن يكون كذلك في الفضاء العام الاجتماعي و السياسي، حيث يجب أن تتنافس البرامج و الأفكار و الخطط، و يكون الاختيار بينها و التصويت عليها، عبر العملية الديمقراطية (7) و من هذا المنظور، يرفض (أردوغان) مفهوم (الحزب الإسلامي) مفضلا أن يكون الحزب (سياسيا) و ذلك، لأن تسمية الحزب بالإسلامي في دولة أغلبية ساكنتها من المسلمين، يكون قوة انقسام في المجتمع بينما الدين هو قوة توحيد .
كلها مؤشرات تؤكد بالملموس أننا بصدد ظاهرة سياسية غير مسبوقة في العالم الإسلامي، حيث تم اعتماد روح العلمانية، التي تقتضي الفصل بين السلطتين الروحية و المادية من دون خلط بينهما. فلكل سلطة مجال تدخلها الخاص. و لعل هذا، هو ما يمثل روح الإصلاح الديني في أوربا، حيث تم انتزاع السلطة المادية من قبضة الكنيسة، و تم تفويضها للشعب الذي أصبح يختار ممثليه عبر صناديق الاقتراع، و من ثم أصبح الشعب يمارس السلطة عبر ممثليه بدلا من ممارسة الكنيسة للسلطتين الروحية و المادية، بادعاء التفويض الإلهي.
إن هذا النموذج، الذي يجسده حزب العدالة و التنمية في تركيا، والذي يقوم على أساس (ديمقراطية محافظة) تفضي إلى (علمانية محافظة)، هو نموذج أصيل في الفكر الإسلامي قبل إعادة صياغته من طرف السلطة السياسية لخدمة مصالحها فالعلمانية، التي هي أساس الدولة المدنية، تمتلك في التاريخ الإسلامي مشروعية تاريخية كبيرة، تنهل من معين النص الديني المؤسس، قبل أن ترتبط بالممارسة العملية، و لعل هذا؛ هو ما سعى تراث عصر النهضة الفكري إلى ترسيخه، و خصوصا مع المفكر النهضوي و الشيخ الجليل (علي عبد الرزق) في كتابه (الإسلام و أصول الحكم)؛ الذي دحض فيه بالدليل و الحجة الدينية، نموذج الخلافة (الدولة الدينية) و اعتبرها منتوجا تاريخيا؛ كغيره من منتوجات الفكر و السياسة . ( يتبع)
*****
- الهوامش:
1- محمد أركون – تاريخية الفكر العربي الإسلامي – ترجمة: هاشم صالح – المركز الثقافي العربي – ط: 2 – 1996 – ص: 291
2- نفس المرجع – ص: 278
3- لمكر الصدف؛ فقد التقى النموذجان معا في ساحة الجهاد الأفغاني؛ و شكلا معا الفكر القاعدي (أسامة بلادن- أيمن الظواهري)
4- أطلق الأستاذ محمد أركون اسم العلمانوية Laïcisme/ على النموذجين الإيديولوجيين الفرنسي و التركي –أنظر كتابه: تاريخية الفكر العربي الإسلامي – ترجمة: هاشم صالح – المركز الثقافي العربي – ط: 2 – 1996
5- كمال السعيد حبيب- الإسلاميون الأتراك من الهامش إلى المركز-ضمن كتاب: تركيا بين تحديات الداخل و رهانات الخارج - الدار العربية للعلوم- ط: 1 – 2009 ص: 116 .
6- مصطفى محمد – الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا (ألمانيا الغربية – ط:1- 1984 ) ص: 171.
7- نفس المرجع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.