يشرفني أن أكون عاشقة للغة الضاد، متيمة بجمال مبانيها وبمحاسن معانيها، مفتتنة بصدفات بحارها ودرر محيطاتها التي اكتشفتها مبكرا مع هدايا والدي رحمه الله، فأول هدية تلقيتها منه عند نجاحي في امتحان شهادة الدروس الابتدائية كانت المجموعة الكاملة لحكايات "ألف ليلة وليلة" بأجزائها الأربعة، وبعض قصص وروايات يوسف السباعي، أنا، ابنة العشر سنوات آنذاك، وكنت حينها قد أكملت قراءة مجموعات متعددة من قصص الأطفال. لأرتمي بعد ذلك في عوالم الروايات التاريخية مع جورجي زيدان، الواقعية مع نجيب محفوظ والرومانسية مع إحسان عبد القدوس... تكونت لغتي، تبلورت شخصيتي وأزهرت أحلامي بين تعابيرها وحكاياها، فاشتد شغفي بها وانبهاري بآفاقها الرحبة، الممتدة والمتمنعة أحيانا حتى على فقهائها وعلمائها، وكم كنت أبتسم مزهوة بعصيان معشوقتي، وأنا أقرأ العبارة التي كان يردد "سيبويه" متحسرا على انفلات كلمة "حتى" من قبضة معارفه اللغوية، معترفا بعجزه عن فك شيفرتها، فأسمع صدى عبارته مدويا: "أموت وفي نفسي شيء من حتى"، التي تظهر أحيانا كحرف جر، وتعمل حينا آخر كأداة نصب، وتأتي أيضا بمعنى "كي"، أما العبارة المتداولة بين النحويين فهي: "أكلت السمكة حتى رأسها" بمعنى: أكلت السمكة ورأسها، فهي تمر من عدة أحوال: حرف جر، حرف عطف، أداة نصب وابتدائية لا محل لها من الإعراب. على منواله، وعلى بساطة إمكانياتي اللغوية والفكرية اتجرأ على قول: " أحيا وأموت وفي نفسي أشياء من لعل". لعل في معجم المعاني الجامع، كما في المعجم الوسيط هي حرف ناسخ مشبه بالفعل، من أخوات إن، ينصب الاسم ويرفع الخبر ويفيد التوقع، الترجي وترقب شيء محبوب، لهذا باستعمالها أترقب الكثير في وطني، وأنتظر مفعولا سحريا لها قد يصنع معجزة في زمن ليس بزمن المعجزات. فلعلني أستفيق يوما ولا تصدمني وسائل الإعلام بفضائحها الارتزاقية أو بأخبارها المفجعة عن ازدراد المحيطات لأجساد شبابنا الذين اختاروا قوارب الموت معتقدين أنها طوق نجاتهم من لهيب واقع ما عادوا قادرين على تحمله. أو عن التهام الآبار لأطياف أطفالنا الذين عبثت بهم أيادي الإهمال واستنزاف المافيات لثروات البلاد، بما فيها المياه الجوفية. أو عن اختفاءات في غياهب المجهول لأناس فقدوا صبرهم، توازنهم، رشدهم وعقولهم وإن كان الفيلسوف "باسكال" يؤكد أن "الإنسان يفقد كل شيء إلا عقله" إذ يفقد انسجامه مع الواقع وتختل توازناته بفعل المشاكل والضغوطات لكنه لا يفقد عقله كملكة، والدليل على ذلك هو إمكانية استرجاعه بعلاج ناجع، أناس يحاولون تغيير مصائرهم بعيدا عن أسرهم وأحيانا عن أوطانهم. لعلني أفاجأ يوما بإعلام رصين، يتحلى بالشروط الأخلاقية، يلتزم بقواعد المهنة ويحترم ذكاء وكرامة المتلقي، فلا يعبث بمشاعره، عواطفه وأحلامه وهو يبث أخبارا مزيفة أو كاذبة أو يروج لمنتوجات رديئة تستهدف ثقافة المواطن، ذوقه، فكره وقيمه. الإعلام اليوم هو صانع القيم، فلا الأسرة ولا المدرسة ولا المسجد قادرون على بناء وتوجيه المنظومة الأخلاقية مثل قدرته، هو من يتحمل مسؤولية التأسيس والنقد، البناء والهدم. فلعل هذه السلطة الرابعة (الإعلام) تستقيم وتتقي الله في العباد والبلاد. ولعل السلطات الثلاث سابقاتها: التنفيذية، التشريعية والقضائية في وطني تعتدل في مقامها ومرامها. لعل الدولة تضرب بيد من حديد على الانتهازيين، المرتشين وبائعي الذمم. لعل حربا تشهر على صناع الموت من تجار المخدرات وعلى المضاربين في قوت المواطنين. لعل طبول الديمقراطية الحقة تقرع. لعل شهية خدام الدولة من كبار المسؤولين، وخدام الشعب من المنتخبين للغنائم والمكاسب تضعف، لعلهم يرتدعون عن النهب والسلب والسطو على الأرزاق. لعل الثروات المفقودة تظهر، ليكون مآلها توزيعا يضمن العدالة الاجتماعية كحق من حقوق الشعب ويطفئ لهيب الأسعار المشتعلة التي أجهزت على قدرته الشرائية. لعل محرار ارتفاع الأسعار يتعطل. لعل أوضاعنا لا تحوجنا للمطالبة برحيل رؤساء حكومات خيبوا الظن. لعل فلول الظالمين تندحر وأعداد المقهورين تتراجع. لعل الفقر والجهل والأمية إلى زوال. لعل ضمائر ذوي النفوذ تصحو وجشع المفسدين يخبو. لعل اللغة السليمة تسعف البرلمانيات، والنوم يهجر ويجافي أعين البرلمانيين. لعل دموعنا تطاوعنا، بعد هول الصدمة، لبكاء "ريان"، ومن خلاله نبكي أطفال الشوارع، الكهوف وخطوط السكك الحديدية... لعلنا نصحو على أمل ونغفو على أمن وسلام. لعل الكتاب ينبعث، ولعل أمة اقرأ تعود للقراءة من جديد. لعل السماء تمطر، ولعل الغيث ينهمر. لعل ولعل ولعل... ماذا عساي أقول أيضا؟ أقول: "لعل القادم أفضل.."، مصداقا لقوله تعالى "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا"، صدق الله العظيم.