لقاء بين ترامب وزيلينسكي الاثنين المقبل بالبيت الأبيض    وقفات ومسيرات تضامنية مع غزة بعدد من المدن المغربية    رحلات طيران أرخص: جوجل تطلق أداة ذكاء اصطناعي للعثور على أفضل العروض    المنتخب المغربي للمحليين يلعب آخر أوراقه أمام "فهود الكونغو" في "الشان"    بطولة كأس أمم إفريقيا للمحليين (الجولة5/المجموعة2) .. مدغشقر تتأهل لربع النهائي بفوزها على بوركينا فاسو (2-1)    شكوك تحوم حول مستقبل نايف أكرد مع ويستهام    الطالبي يتألق في أول ظهور بالبريميرليغ ويقود سندرلاند لانتصار هام على وست هام    اكتشاف جيولوجي مذهل.. المغرب يكشف عن أقدم ديناصور من فصيلة "التورياسورات" بإفريقيا    يونس الكعبي: مباراة الكونغو الديمقراطية مواجهة يتعين الفوز بها    هل يدخل قيس سعيّد في "معركة كسر العظم" مع الاتحاد العام التونسي للشغل؟!    السباح المغربي حسن بركة يحقق إنجاز السباحة حول محيط جزيرة مانهاتن في نيويورك    استقرار أسعار المحروقات في المغرب    هل يقود لفتيت حكومة 2026؟‬    معركة غزة تدخل مرحلة جديدة .. "القسّام" تواجه أشرس هجوم إسرائيلي    الجزائر تعلن سحب الحافلات القديمة    بركة .. أول مغربي يسبح حول مانهاتن    "حق تقرير المصير" في السويداء .. شعار يُغري إسرائيل ويمزق سوريا    أطباء القطاع الحر يطالبون الصيادلة بإثبات مزاعم التواطؤ مع شركات الأدوية    وكالة الغابات تصدر خرائط للمناطق الحساسة المعرضة لخطر اندلاع الحرائق    أغلب الأمريكيين يعتبرون الكحول مضرا بالصحة    دراسة: عشاق القهوة في مزاج أفضل بعد الفنجان الأول بالصباح    فتح الله ولعلو: المغرب والصين تقاسما شرف المساهمة في انتصار الحلفاء            بورصة البيضاء .. أقوى ارتفاعات وانخفاضات الأسبوع        مريدو "البودشيشية" يؤكدون استمرار منير القادري على رأس الزاوية    برنامج "نخرجو ليها ديريكت" يناقش تحديات الدخول السياسي والاجتماعي المقبل    طنجة تتصدر الوجهات السياحية المغربية بارتفاع 24% في ليالي المبيت    اتلاف كمية من الفطائر (السفنج) الموجة للبيع في الشواطئ لغياب معايير الصحة    تغيرات متوقعة في طقس السبت بعدد من مناطق المملكة    الحرارة المفرطة تفاقم أزمة المياه بالمغرب.. حوض ملوية في وضع حرج    صفقتان لتأهيل مطاري تطوان والحسيمة استعدادًا لكأس العالم 2030    بوليف: التحويلات المالية لمغاربة العالم ينبغي ترشيد استثمارها ويجب إشراك الجالية في الانتخابات التشريعية    حموني: سنة 2026 ستكون "بيضاء" على مستوى إصلاح أنظمة التقاعد والمقاصة    منظمة الصحة العالمية تحذر من استمرار تدهور الوضع العالمي للكوليرا    ابتكار أول لسان اصطناعي قادر على استشعار وتمييز النكهات في البيئات السائلة    ملتقى الثقافة والفنون والرياضة يكرم أبناء الجالية المغربية بمسرح محمد الخامس بالرباط    كيف أنسى ذلك اليوم وأنا السبعيني الذي عايش ثلاثة ملوك    غاب عن جل الأحزاب    في بلاغة الغياب وحضور التزييف: تأملات في بيان حزب الأصالة والمعاصرة بالعرائش !    عادل شهير يوقع أحدث أعماله بتوقيع فني مغربي خالص    أوجار: مأساة "ليشبون مارو" رسالة إنسانية والمغرب والصين شريكان من أجل السلام العالمي    تطوان تحتضن انطلاقة الدورة الثالثة عشرة من مهرجان أصوات نسائية    سفارة الصين بالرباط تحتفي بالذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء بعرض وثائقي صيني    صحيفة أرجنتينية تسلط الضوء على عراقة فن التبوريدة في المغرب    مشروع قانون يثير الجدل بالمغرب بسبب تجريم إطعام الحيوانات الضالة    النقابات تستعد لجولة حاسمة من المفاوضات حول إصلاح نظام التقاعد    راب ستورمي وحاري في "رابأفريكا"    كيوسك السبت | البطاطس المغربية تعود بقوة إلى الأسواق الدولية في 2025    دورة سينسيناتي لكرة المضرب: الكازاخستانية ريباكينا تتأهل لنصف النهاية على حساب بسابالينكا    موسم مولاي عبد الله... تكدّس، غياب تنمية، وأزمة كرامة بشرية    القصر الكبير: التنسيقية الجمعوية المحلية تدق ناقوس الخطر حول الوضع البيئي المقلق بالمدينة    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأمير المجاهد عقبة بن نافع فاتح بلاد المغرب
نشر في هوية بريس يوم 30 - 06 - 2013


المشاهدات: 3٬256
مقدمة
لقد أيّد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا، واختارهم من بين خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة، هؤلاء الرجال الأبطال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليين من أجل نصرة الدين، فلم يبق لهم همة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس، إنهم رجال آثروا مرضات الله عز وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، فودعوا الراحة والدعة والسكون وهجروا الفراش والسلامة وتركوا الديار والأهل والأحباب، وصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفقاءهم، فلا عجب إذا أن تنتهي حياتهم في أخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين وهذا في أدغال أفريقيا وذاك في أحراش الهند، وكلهم راض بهذه الحياة وهذه النهاية، طالما توجت حياته بأسمى ما يريد : الشهادة في سبيل الله، وهذه قصة واحد من أئمة هؤلاء الأبطال.
* عقبة بن نافع
هو عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهرى، ولد قبل الهجرة بسنة، وكان أبوه قد أسلم قديماً، لذلك فقد ولد عقبة ونشأ في بيئة إسلامية خالصة، وهو صحابي بالمولد، لأنه ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمت بصلة قرابة للصحابي الجليل "عمرو بن العاص" من ناحية الأم، وقيل أنهما ابني خالة.
ولقد برز اسم "عقبة بن نافع" مبكراًعلى ساحة أحداث حركة الفتح الإسلامي التي بدأت تتسع بقوة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث اشترك هو وأبوه "نافع" في الجيش الذي توجه لفتح مصر بقيادة "عمرو بن العاص" رضي الله عنه، ولقد توسم فيه "عمرو" أنه سيكون له شأن كبير ودور في حركة الفتح الإسلامي على الجبهة الغربية، لذلك أسند إليه مهمة صعبة وهى قيادة دورية استطلاعية لدراسة إمكانية فتح الشمال الأفريقي، ومعلوم عند العسكريين أن سلاح الاستطلاع هو أخطر وأهم سلاح في أي جيش، لأنه هو الذي يحدد طريقة الهجوم بين الشجاعة والقوة والذكاء الشديد وحسن التصرف في المواقف الصعبة، وكلها خصال توفرت في "عقبة" وأدركها "عمرو" فيه، لذلك عندما عاد "عمرو" إلى مصر بعد فتح تونس، جعل "عقبة بن نافع" والياً عليها على الرغم من وجود العديد من القادة الأكفاء والصحابة الكبار، مما يدل على نجابة هذا البطل الشاب.
أرسل "عمرو بن العاص" والى مصر البطل الشاب "عقبة بن نافع" إلى بلاد النوبة لفتحها، فلاقى هناك مقاومة شرسة من النوبيين، ولكنه مهد السبيل أمام من جاء بعده لفتح البلاد، ثم أسند إليه "عمرو" مهمة في غاية الخطورة، وهي تأمين الحدود الغربية والجنوبية لمصر ضد هجمات الروم وحلفائهم البربر، فقاد "عقبة" كتيبة قتالية على أعلى مستوى قتالي للتصدي لأي هجوم مباغت على المسلمين وتعاقبت عدة ولاة على مصر بعد "عمرو بن العاص" منهم عبد الله بن أبى السرح ومحمد بن أبى بكر ومعاوية بن حديج وغيرهم، كلهم أقر "عقبة بن نافع" في منصبه كقائد لحامية "برقة".
عقبة قائد الفتح الشمالى
ظل "عقبة" في منصبه الخطير كقائد للحامية الإسلامية "ببرقة" خلال عهدي عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب رضي الله عنهما، ونأى بنفسه عن أحداث الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وجعل شغله الشاغل الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام بين قبائل البربر ورد عادية الروم، فلما استقرت الأمور وأصبح معاوية رضي الله عنه خليفة للمسلمين، أصبح "معاوية بن حديج" والياً على مصر، وكان أول قرار أخذه هو إرسال عقبة بن نافع إلى الشمال الأفريقي لبداية حملة جهادية قوية وجديدة لمواصلة الفتح الإسلامي الذي توقفت حركته أثناء الفتنة وذلك سنة 49 هجرية.
كانت هناك عدة بلاد قد خلعت طاعة المسلمين بعد اشتعال الفتنة بين المسلمين، منها "ودان" و"أفريقية" و"جرمة" و"قصور خاوار"، فانطلق الأسد العنيف عقبة ورجاله الأشداء على هذه القرى الغادر أهلها وأدبهم أشد تأديب، فقطع أذن ملك "ودان" وأصبع ملك "قصور كوار" حتى لا تسول لهم أنفسهم محاربة المسلمين مرة أخرى (مع العلم أن هذا الأمر لا يجوز شرعاً لأنه مثّله ولكن عقبة اجتهد في تأديبهم بما يردعهم عن المعاودة للخلاف).
بعد أن طهر عقبة المنطقة الممتدة من حدود مصر الغربية إلى بلاد أفريقية "تونس" من الأعداء والمخالفين، أقدم عقبة على التغلغل في الصحراء بقوات قليلة وخفيفة لشن حرب عصابات خاطفة في أرض الصحراء الواسعة ضد القوات الرومية النظامية الكبيرة التي لا تستطيع مجاراة المسلمين في حرب الصاعقة الصحراوية، واستطاع عقبة وجنوده أن يطهروا منطقة الشمال الأفريقي من الحاميات الرومية المختلفة ومن جيوب المقاومة البربرية المتناثرة.
تأسيس مدينة القيروان
لم يكن عقبة بن نافع قائداً عسكرياً محضاً فقط، بل كان صاحب عقلية مبدعة وفكر استراتيجي فذ وهو يصح أن يطلق عليه خبير بشئون المغرب والشمال الأفريقي، ومن خلال حملاته الجهادية المستمرة على الشمال الأفريقي، أدرك أهمية بناء مدينة إسلامية في هذه البقاع وذلك لعدة أسباب من أهمها-:
1- تثبيت أقدام المسلمين والدعوة الإسلامية هناك وذلك أن عقبة قد لاحظ أمراً هاماً أن أهل الشمال الأفريقي إذا جاءهم المسلمون يظهرون الإسلام وإذا انصرفوا عنهم رجعوا مرة أخرى إلى الكفر، فكان بناء مدينة إسلامية خير علاج لهذه الظاهرة الناجمة عن غياب قاعدة إسلامية ثابتة للإسلام لنشر الهدى والنور وسط ظلمات البربر.
2- ضرورة تكوين قاعدة حربية ثابتة في مواجهة التهديدات الرومية المتوقعة بعد فتح الشمال الأفريقي.
3- أن تكون هذه المدينة دار عزة ومنعة للمسلمين الفاتحين، ذلك لأنهم تفرقوا في البلاد كحاميات على المدن المفتوحة، وهذا التفرق قد يورث الضعف والوهن مع مرور الوقت خاصة لو دهم عدو كبير العدد هذه البلاد.
لهذه الأسباب وغيرها قرر "عقبة بن نافع" بناء مدينة القيروان في القرن الشمالي لإفريقية في مكان تتوافر فيه شروط الأمن الدعوي والحركي للمسلمين بحيث تكون دار عزة ومنعة وقاعدة حربية أمامية في القتال، ومنارة دعوية علمية لنشر الإسلام، وانطبقت كل الشروط المطلوب توافرها في منطقة أحراش مليئة بالوحوش والحيات، فقال له رجاله: "إنك أمرتنا بالبناء في شعاب وغياض لا ترام، ونحن نخاف من السباع والحيّات وغير ذلك من دواب الأرض"، وكان في عسكره خمسة عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقال "إني داع فأمّنوا"، وبالفعل دعا الله عز وجل طويلاً والصحابة والناس يأمّنون، ثم قال عقبة مخاطباً سكان الوادي: "أيتها الحيّات والسباع، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتحلوا عنا فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه".
فحدثت بعدها كرامة هائلة حيث خرجت السباع من الأحراش تحمل أشبالها والذئب يحمل جروه، والحيّات تحمل أولادها، في مشهد لا يرى مثله في التاريخ، فنادى عقبة في الناس: "كفوا عنهم حتى يرتحلوا عنا" وهكذا يصل الإيمان والثقة بالله عز وجل لهذا المستوى الفائق من اليقين بنصرة الله عز وجل وتأييده ومدده، فهذا هو البطل المجاهد يصل به الإيمان والكرامة لئن يتكلم مع الحيوانات البهائم التي لا تعقل ولا تفهم، فيطيعونه ويسمعون أوامره، وهكذا يصبح الكون كله ومن فيه مسخراً لخدمة المجاهدين وغايتهم السامية.
استمر بناء مدينة القيروان قرابة الخمس سنوات، حتى أصبحت القيروان درة المغرب، وشيّد "عقبة" بها جامعاً كبيراً أصبح منارة العلم وقبلة طلاب العلم والشريعة من كل مكان، وملتقى للدعاة والعلماء والمجاهدين، وأصبح جامع القيروان أول جامعة إسلامية على مستوى العالم وذلك قبل الأزهر بعدة قرون.
المجاهد المخلص
بعدما انتهى عقبة بن نافع من بناء القيروان ومسجدها الجامع، جاءه الأمر الخليفي بالتنحّي عن ولاية إفريقية، وتولية رجل من جنود عقبة اسمه "أبو المهاجر دينار"، وهو رجل مشهور بالكفاءة وحسن القيادة.
فما كان رد فعل القائد المظفر الذي فتح معظم الشمال الأفريقي وحقق بطولات فائقة عندما جاءه خبر العزل؟ هل تمرّد؟ هل امتنع أو حتى تذمر؟
كلا والله.. إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فلا المناصب تبهرهم ولا الدنيا تفتنهم ولا الأحقاد تعرف إلى قلوبهم طريقاً، إنهم خالصين مخلصين لا يريدون إلا وجه الله عز وجل، امتثل عقبة فوراً للأمر وانتظم في سلك الجندية.
استطاع أبو المهاجر القائد الجديد أن يحقق عدة مكاسب إستراتيجية في الشمال الأفريقي على حساب التواجد الرومي بهذه المناطق، واستطاع أيضاً، يستميل زعيم قبائل البربر "كسيلة بن لمزم" وكان كسيلة شديد التأثير على قومه، قوى الشخصية،محبوباً في قومه، مطاعاً منهم، وكان نصرانياً متمسكاً بدينه وكان نجاح أبى المهاجر في إقناعه بالإسلام مكسباً كبيراً للإسلام والمسلمين، ولكن القائد المحنك عقبة صاحب النظرة الثاقبة الخبيرة بطبائع البربر، لم يطمئن لإسلام "كسيلة" خاصة وأنه قد أسلم بعد وقوعه في أسر المسلمين وبعدما ذاق حر سيوفهم، وقد صدق هذا الحدس فيما بعد كما سنعلم.
عودة الأسد
لم يمض كثيراً من الوقت حتى عاد الأسد الضاري عقبة بن نافع إلى قيادة الجهاد ببلاد المغرب وانتقل أبو المهاجر في صفوف الجنود مجاهداً مخلصاً، وهكذا نرى خير الأمة ينتقل الواحد منهم من الرئاسة إلى عامة الجند بمنتهى اليسر والسهولة، بلا مشاكل أو اعتراض، وبلا أحقاد وأضغان، وذلك لأن الكل يبتغى مرضات الله ولا يريد شيئاً من عرض الدنيا الزائل.
قرر عقبة بن نافع استئناف مسيرة الفتح الإسلامي من حيث انتهى أبو المهاجر، وكانت مدينة "طنجة" هي أخر محطات الفتح أيام أبي المهاجر، وهنا أشار أبو المهاجر على عقبة ألا يدخل مدينة طنجة لأن "كسيلة" زعيم البربر قد أسلم، ولكن عقبة كان يشك في نوايا وصحة إسلام كسيلة، فقرر الانطلاق لمواصلة الجهاد مروراً بطنجة وما حولها، خاصة وأن للروم حاميات كثيرة في المغرب الأوسط.
الإعصار المدمر
انطلق عقبة وجنوده من مدينة القيروان، لا يقف لهم أحد ولا يدافعهم أي جيش، فالجميع يفرون من أمامهم، وكلما اجتمع العدو في مكان، انقض عقبة ورجاله عليهم كالصاعقة المحرقة ففتح مدينة "باغاية"، ثم نزل على مدينة "تلمسان"، وهي من أكبر المدن في المغرب الأوسط، وبها جيش ضخم من الروم وكفار البربر، وهناك دارت معركة شديدة استبسل فيها الروم والبربر في القتال وكان يوماً عصيباً على المسلمين، حتى أنزل الله عز وجل نصره على المؤمنين، واضطر الأعداء للتراجع حتى منطقة "الزاب".
سأل عقبة عن أعظم مدينة في الزاب فقيل له "أربة"، وهي دار ملكهم وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية عامرة، ففتحها عقبة، والروم يفرون من أمامه كالفئران المذعورة، ورحل عقبة بعدها إلى مدينة "ثاهرت" فأرسلت الحامية الرومية استغاثة لقبائل البربر الوثنية فانضموا إليهم فقام عقبة في جيشه خطيباً بارعاً بعبارات فائقة تلخص رسالة المجاهد في سبيل الله فقال: "أيها الناس إن أشرفكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه، بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان على قتال من كفر بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرفكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم فيدار غربة وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشروا فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم لا يسلمكم فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل قد جعل بأسه على القوم المجرمين".
وبهذه الكلمات الموجزة استثار عقبة حمية رجاله، وأعطى درساً بليغاً للأجيال من بعده عن حقيقة دعوة المجاهد.
التقى المسلمون بأعدائهم وقاتلوهم قتالاً شديداً، وكانت نتيجته معروفة بعدما وصلت معنويات المسلمين لقمم الجبال، وانتصر المسلمون كما هي عادتهم، وسار عقبة حتى نزل على "طنجة" فلقيه أحد قادة الروم واسمه "جوليان" فخضع لعقبة ودخل له الجزية، فسأله عقبة عن مسألة فتح الأندلس فقال له "جوليان" أتترك كفار البربر خلفك وترمى بنفسك في بحبوحة الهلاك مع الفرنج؟ فقال عقبة وأين كفار البربر؟ فقال في بلاد السوس وهم أهل نجدة وبأس فقال عقبة وما دينهم؟ قال ليس لهم دين فهم على المجوسية.
فتوجه إليهم عقبة كالإعصار الكاسح الذي يدمر كل شيء بإذن الله، واخترق هذه البلاد كلها هازماً لكل قبائل البربر حتى وصل بخيله إلى المحيط الأطلنطى فاخترق عقبة بفرسه ماء المحيط ثم قال بقلب المؤمن الصادق الغيور الذي بذل واستفرغ كل جهده وحياته لخدمة الإسلام: "يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك، اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد دونك".
وبهذه النفوس الصادقة والقلوب المؤمنة والعزائم الفائقة انتشر الإسلام في ربوع الأرض.
استشهاد البطل
حقق عقبة غايته من حركة الفتح الإسلامي بالشمال الإفريقي، فلقد أخضع قبائل البربر وأوقع بها بأساً شديداً، حتى وصل إلى أقصى بلاد المغرب واقتحم المحيط بفرسه، وبعدها قرر عقبة العودة إلى القيروان، فلما وصل إلى طنجة أذن لمن معه من الصحابة أن يتفرقوا ويقدموا القيروان أفواجاً ثقة منه بما نال من عدوه، ومال عقبة مع ثلاثمائة من أصحابه إلى مدينة "تهوذة"، فلما رآه الروم في قلة من أصحابه طمعوا فيه، وأغلقوا باب الصحن وشتموه وهو يدعوهم إلى الإسلام وعندها أظهر "كسيلة" مكنون صدره الذي كان منطوياً على الكفر والغدر والحسد، واستغل قلة جند عقبة واتفق مع الروم على الغدر بعقبة وأرسل إلى إخوانه البربر الوثنيين وجمع جموعاً كثيرة للهجوم على عقبة ومن معه.
كان أبو المهاجر في ركب عقبة ولكن عقبة قد غضب منه فقيده، فلما رأى أبو مهاجر هجوم كسيلة ومن معه، أنشد أبيات أبي محجن الثقفي المشهورة:
وأترك مشدوداً على وثاقيا — كفى حزناً أن ترتدي الخيل بالقنا
مصارع دوني قد تصم المناديا — إذا قمت عنأأاني الحديد وأغلقن
ففك عقبة وثاقة وقال له: "الحق بالقيروان وقم بأمر المسلمين وأنا أغتنم الشهادة"، فقال أبو المهاجر: "وأنا أيضا أريد الشهادة".
وكسر عقبة والمسلمين أجفان سيوفهم واقتتلوا مع البربر حتى استشهد عقبة وكل من معه في أرض الزاب بتهوذة وذلك سنة 63 هجرية.
كان عقبة بن نافع رضي الله عنه مثالاً في العبادة والأخلاق والورع والشجاعة والحزم والعقلية العسكرية الإستراتيجية الفذة، والقدرة الفائقة على القيادة بورع وإيمان وتقوى وتوكل تام على الله عز وجل فأحبه رجاله وأحبه أمراء المؤمنين، وكان مستجاب الدعوة، ميمون النقيبة، مظفر الراية، فلم يهزم في معركة قط، طبق في حروبه أحدث الأساليب العسكرية والجديدة في تكتيكات القتال مثل مبدأ المباغتة وتحشيد القوات وإقامة الحاميات وتأمين خطوط المواصلات واستخدام سلاح الاستطلاع.
ونستطيع أن نقول بمنتهى الحيادية أن البطل عقبة بن نافع قد حقق أعمالاً عسكرية باهرة بلغت حد الروعة والكمال وأنجز في وقت قليل ما لا يصدقه عقل عند دراسته من الناحية العسكرية البحتة، وترك باستشهاده أثراً كبيراً في نفوس البربر وأصبح من يومها يلقّب ب "سيدي عقبة".
المصادر
1- تاريخ الرسل والملوك.
2- الكامل في التاريخ.
3- البداية والنهاية.
4- سير أعلام النبلاء.
5- تاريخ الخلفاء.
6- أطلس تاريخ الإسلام.
7- قادة فتح بلاد المغرب العربي.
8- فتوح البلدان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.