هوة فارقة شاسعة، أو تناقض التناقض لو ربط بشعارات مظلة الدولة التي ما تفتأ تقدم للرعايا دروسا شفوية في المواطنة. أحمد وعلي تلميذان ألقيا بمحفظتيهما في صائفة كلها ظلام، وخرجا ملثمين بجهل الأسرة والعائلة، وهما يمتهنان التسول على جنبات الطريق. يسمونها أغلب المارة جهلا، لكن أسميها أنا وعيا آخر، ليس دفاعا عن التسول، ولكن لارتباط استدراج الصغيرين للمارة بعرباتهم الفاخرة من أجل التوقف ومدهم ببعض الدريهمات بحيلة إصلاح الطريق. يستمران في "تسولهما الذكي" منذ الصباح وحتى الغروب محاولين ما أمكن أن ترأف بهما قلوب هي درجات في التجاوب والإحسان والشفقة، درجات في المكر والخداع والتشفي والحوقلة. المضحك في حكاية أحمد وعلي هو ملازمتهما لمعوالين (البالا)، وهما يقومان بنقل الأتربة من خارج الطريق المعي إلى حفر تفغر أفواهها وسط هذا المعي المشتت، ينهمكان في العملية وبمجرد ما يسمعان أزيز عربة قادمة إلا ويقفان مستقيمين ويديهما إلى الأمام منبسطتان منفتحتان أملا في درهم أو درهمين، أو قليل أو كثير، أو حتى بسكويت يمدها إليهما من يمتطي الحديد اللعين المتفاوت في القيمة وقيمة جيوب راكبيه. اقتربنا نحو علي وأحمد فبادرت بالسؤال، هل تدرسان؟ أجابا معا: نعم في القسم الثالث، وماذا تفعلان هنا؟ ... نقوم بإصلاح الطريق... كانت لكنتهما الأمازيغية تدل على براءتهما... قبح الله هذا الزمن الذي تمتطي صهوته الحمير في كل المجالات، ولا من يرعوي أو يضع في حسبانه جياع المغرب العميق المنسيين إلا في فترات عطلهم التي يقصد فيها هؤلاء "الألبة" الضايات والعيون ومنتزهات الجبال للاصطياف، وازدراء الأهالي بنظرات الاحتقار. ما أثارني فعلا وأنا أتنقل بين منعرجات الطريق المعي اقترانها بنفوذ جماعتين قرويتين كانتا غنيتين إلى حد قريب، وها هما اليوم تنالان وسام الإذلال من مجلسيهما غير المهتمين. وما قام به أحمد وعلي دلالة على وضع النسيان الذي تقبع فيه الجماعتان معا، الجماعتان اللتان تزخران بمؤهلات طبيعية وثروات لو استغلت دون عشوائية لَبَان فضلها عليهما ولَمَا فاتهما إلى خارج نفوذهما. ما قام به أحمد وعلي هو استغلال الوضع القائم لمعالجة وضع قائم ولو بالتسول، بمعنى تمرير رسالة إلى المسؤولين مفادها أن طرقات المنطقة في حاجة إلى إصلاح، وفي الآن نفسه أن وضع الأهالي وقاطني المجال وضع فيه فقر وإدقاع. علي وأحمد نموذجان يتسولان بتلك الطريقة، لكن هما صورة لواقع طفولة منسية بالأعالي، وإن اختلفت طريقة التسول واستجداء المارة، حيث يمكن أن تجد وأنت على جنبات الطريق أطفالا آخرين يحاولون أن ينالوا دريهمات وهم يرقصون رقصة "أحيدوس" ويوظفون الثقافة المحلية من أجل نيل قليل من العناية، أو بعبارة أخرى تسويق وجه الثقافة البئيس لمعالجة وضع بئيس. هذه الثقافة كان الأجدر أن تسوق بطريقة أحسن لو تم تأهيل العنصر البشري، ليس من أجل التسول، لكن من أجل فرض ذاته في مغرب المفارقات. ملحوظة: هدفنا تشخيص الواقع ومحاولة معالجته، وليس نقل صورة سلبية.