تكللت تلك السنة أيضا بنجاح باهر، و انتقلت لمستوى المتوسط الثاني، و للبناية القديمة العالية، ذلك المستوى الذي طالما سمعت عن صعوباته و عن قساوة و صرامة معلميه و عن قاعدة التكرار فيه ، فلا أحد يسلم من تكرار السنة مرة أو مرتين و أحيانا أكثر. في صباح أول يوم من شهر أكتوبر حملت نفسي و محفظتي و توجهت إلى المدرسة، قصدت البناية القديمة و صعدت الدرج الواسع المزين بدرابزين خشبي فخم إلى الطابق العلوي و دخلت الفصل لأجد وجوها كثيرة غريبة عني كانت للتلاميذ المكررين للسنة والذين كانوا كبارا في السن بالنسبة لي أنا ادإبنة العشر سنوات أنذاك. أخذت مكاني و انتابني إحساس غريب إذ شعرت منذ الوهلة الأولى أنها سنة ليست كسابقاتها ، و فعلا صدق حدسي، تعرفت خلالها و لأول مرة في حياتي على معنى المعاناة و الخوف و القلق ، فكانت سنة سوداء قاتم لونها و ذلك بسبب ادأستاذ اللغة العربية الذي مذ رأيته لاحظت اختلافا جذريا على مستوى الشكل و الهندام بينه و بين سابقيه ممن درسوني مثل الأستاذان الجليلان: العبراق و الشلي. كان رجلا ممتلىء الجسم، قوي البنية، معتدل القامة، يضع طاقية بيضاء على رأسه و يرتدي ثيابا تشبه الثياب التقليدية و كان فظا غليظا، الشيء الذي حال نفسيا بيني و بينه و بالتالي لم أتعلم منه شيئا تلك السنة و كل ما اكتسبته وحصلته كان من مراجعة والدي رحمه الله معي و من مجهودي الشخصي إذ اقتنيت أنذاك مؤلف ” أهيء إمتحاني” لإمتحان الشهادة الإبتدائية و بدأت اشتغل على التمارين وحلولها. كان معلمنا و منذ الحصص الأولى ينهج روتينا يوميا لا يتغير يستهله بسب و شتم مدموازيل ميمي معلمة اللغة الفرنسية ذات الأصول اليهودية، و ذلك لأنها كانت تلزم التلاميذ بالوقوف عند دخولها او عند زيارة أحدهم للقسم، و كان يحاول تقليدها فيردد بعصبية ملحوظة كلمة: دبو، دبو يعني: debout. و إلى اليوم لم أفهم سبب اعتراضه على أبسط سلوكيات الإحترام المفروض تلقينها للتلاميذ في تعاملهم مع أساتذتهم خاصة و مع الكبار سنا أو قدرا على العموم. وبعدها يلقي علينا خطبة عصماء تتضمن تمجيده و بيعته لداعية إسلامي كان قد بدأ نجمه يسطع في المدينة و لا ينتهي إلا مع آذان العصر ، فيخرجنا إلى باحة واسعة كانت تتوسط الأقسام حيث نفرش حصيرا، نصطف صفا للذكور يليه صف الإناث ثم يقيم الصلاة. تنتهي بعدها الحصة المسائية و نعود أدراجنا لبيوتنا. خلال السنوات الثلاث السابقة لتلك كنت يوميا و أنا في طريقي إلى المدرسة رفقة صديقاتي أعرج على ضريح مولاي علي بوغالب لنشرب الماء من النافورة الجميلة التي كانت تتوسط البهو الفسيح، و ذلك باستعمال أكواب كانت في الأصل علب حليب نستلي المركز ، أفرغت من محتواها و تم ربطها مع النافورة بخيط تم تثبيته في ثقب أحدث بها خوفا عليها من النهب او الإتلاف. لكن تلك السنة بتنا نعرج على الضريح من أجل الوضوء استعدادا للصلاة. ، وأكثر ما كان يثير انتباهي في الضريح و في القبة التي كانت تتوسطه مشهد الساعات الحائطية الكثيرة التي كانت تزين حيطانه والتي كانت تحملني مباشرة إلى الساعات المثبتة على حيطان منزلنا ، فاقتناء الساعات القديمة و الأثرية كان من هوايات والدي رحمه الله و قد احتضن منزلنا آنذاك عددا منها و كان يزورنا بين الحين والآخر رجل طاعن في السن، كان يدعى اوميكا omega.نسبة الى هذه الماركة العالمية من الساعات نظرا لخبرته الواسعة في الإهتمام و والإعتناء بها و لا يغادر إلا و أصوات الساعات تصدح بإيقاعات متنوعة. كان جيدا و مثاليا أن نتعلم حينها الإلتزام بفريضة الصلاة رغم أنها لم تكن مدرجة ضمن مواد اللغة العربية المقررة إلا كجزء من درس نظري، لكن معاناتي بدأت مع إلزام المعلم لنا نحن الإناث بارتداء الحجاب، حينها لم أفهم أي شيء سوى أنه ينبغي علي أن أضع منديلا على رأسي. ذهبت إلى المنزل و كعادتي أخبرت والدي بالأمر، أطرق برأسه للأرض و فكر مليا قبل أن يجيبني برفض قاطع للفكرة، ومن لهجته الصارمة أدركت ان الأمر لا يتحمل المساومة ، فلا هي لا كما عودني أنا و إخوتي. و عشت شهورا بين المطرقة و السندان. مطرقة معلم يقيم و يقدر التلميذات من خلال قطعة قماش، خاصة و أننا حينها كنا نجهل تماما مفهوم أو مقصد الحجاب نظرا لصغر سننا و للظرفية التاريخية آنذاك بالنسبة لمجتمع يعيد بناء ذاته بعد اندحار الإستعمار و تأثير مخلفاته. و سندان والدي الذي رفض و بقوة انصياعي لأوامر المعلم بهذا الخصوص، علما بأن موقف والدي أنذاك لم يكن رفضا للحجاب فهو خريج جامعة القرويين و إنما اعتراضا مبدئيا على ممارسة المعلم الدعوة داخل الفصل الدراسي هذا بالاضافة إلى أنني حينها لم اكن ملزمة شرعا بارتداءه إذ كنت بالكاد أبلغ العاشرة. عند ذاك تحدد موقف المعلم مني و منذ البداية و كان التهميش هو عقابي، فانزويت في مقعدي و بت أتابع بخوف و بوجل ما يدور حولي ، انطفأت شعلتي المتوهجة و خبا نشاطي وحيويتي و تراجعت نسبيا نتائجي بالنسبة لمواد اللغة العربية. لكنني اكتشفت حينها بعض آليات التفكير مثل: التساؤل و المقارنة و بدأت تراود ذهني الفتي أسئلة من قببل: لماذا يتعارض والدي مع المعلم في الرأي؟ من منهما المصيب و من المخطىء؟ ما قيمة المنديل؟ ولماذا يحدث هذا؟ لم أتوصل إلى أي إجابات مقنعة لكن حيرتي هدتني لما ينبغي فعله و هو الاعتكاف على دروسي، فمضت السنة بطيئة جدا و مملة جدا توقفت خلالها عن اللعب تماما أثناء فترات الإستراحة في المدرسة كما امتنعت عنه في ساحة مولاي المهدي مع صديقات الحي، فمشكلة المنديل بعثرت طفولتي و حملتني قهرا للتفكير في عالم الكبار لكن بانتهاء السنة الدراسية انتهى هذا الموضوع و نسيته تماما ولم يعد لواجهة تفكيري إلا و أنا في البكالوريا حين ارتدت صديقة مقربة مني الحجاب وكانت أول فتاة في الثانوية من جيلنا تقدم على ذلك الشيء الذي أثار حينها استغراب الجميع لدرجة أن الكثيرات من زميلاتنا كن يعتقدن أنها حلقت شعرها و يحاولن التأكد من ذلك و هذا لجهلهن بمفهوم الحجاب، أما أنا فكانت لى معه ذكرى وشمت طفولتي عند حلول شهر مارس من تلك السنة و عشية يوم مشمس………. يتبع……