إذا كان المغرب قد عُرف عبر تاريخه بعمارته الدينية وبكثرة مساجده وزواياه وأضرحته في المدن والقرى على حدّ سواء، فأعتقد أن الجامع الأعظم بالقصر الكبير، محور هذه المساهمة، يشكلُ نموذجا يكتسي أهمية خاصة، ليس فقط من حيث طبيعته المعمارية والهندسية الفريدتين على غرار باقي مساجد المغرب، وإنما لأهميته في الجهاد ضد الوجود الأجنبي، خاصة في معركة وادي المخازن الشهيرة والفاصلة خلال القرن السادس عشر، حيث لعب دورا مهما في إذكاء حماس المجاهدين وتكريس خيار مواجهة الجيش البرتغالي، علاوة على دوره خلال فترة الاحتلال الإسباني لشمال المغرب، حيث انطلقت منه مظاهرة ضد هذا المحتل سنة 1956م. وجدير بالذكر والدراسة تلك القصص التي نُسجت حول تأسيسه فتضاربت الروايات حول تاريخه وتاريخ تأسيس المدينة (القصر الكبير) التي يقع فيها، إضافة إلى الأساطير التي تداولتها الذاكرة المحلية حول الجامع، لدرجة أن البعض اعتبره كومة من الألغاز التي ظلت تطرح الكثير من الأسئلة حول كل ركن من أركانه . الجامع بين التاريخ والبحث الأثري: يقع المسجد على مساحة تقدر بحوالي 2600م، ويمكن القول إن هندسته لا تختلف كثيرا عن هندسة المساجد والجوامع المغربية الكبرى في العصر الوسيط، وخاصة جامع القرويين الشهير بفاس، وذلك من حيث شكله المربع، وهندسته الإسلامية العتيقة من الداخل والخارج. فعلى سبيل المثال، نجد أعمدته وبلاطاته توازي القبلة على غرار مساجد أخرى في المغرب والأندلس في نفس الفترة، وخاصة مسجد الأندلس بفاس، لكن يبقى الاختلاف بالأساس حول تأسيسه الذي يحمل الكثير من الأسئلة، بل وتتضارب في هذا الصدد المعطيات والترجيحات أحيانا بين الباحثين. أورد الأستاذ محمد بوخلفة في كتابه الموسوم ب “الطريق لمعرفة القصر الكبير” الصادر سنة 1972، أن الجامع بُني في العصر الوسيط وبخاصة في مرحلة يعقوب المنصور الموحدي خلال بداية القرن الحادي عشر الهجري قبل توسيعه في العهد المريني، بخلاف بعض الباحثين الذين يرجعون بناءه إلى أواخر عهد الأدارسة في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، في الفترة التي كانت فيه المدينة تابعة لنفوذ الأدارسة، اعتمادا على النصوص التاريخية والجغرافية التي أشارت إليه خاصة في كتاب أبي عبيد الله البكري الموسوم ب ” المغرب في ذكر بلاد إفريقيا والمغرب ص 110. وكذا في كتاب “المسالك والممالك”بكونه حاضرة سوق كتامةإحدى قواعد إدريس بن القاسم بن إبراهيم الموجودة على نهر والكس، والتي لها سوق عامر وجامع”. ونظرا لشح المصادر الوسيطية التي تطرقت لمدينة القصر الكبير باستثناء إشارات خاطفة حول أشغال البناء والإضافات غير الموثقة يصعب الفصل في تاريخ تأسيسه الحقيقي في ظل غياب بحث أثري يهم كل الجامع. لقد كان شارل تيسو CharlesTissotأول من حدد موقع المدينة الرومانية التي يجهل عنها كل شيء باستثناء اسمها الذي يعني القلعة الجديدة أي أوبيدومنوفوم بالرومانية، ويرجح البعض أنها قد تكون في مكان مدينة القصر الكبير الحالية، أو تحت أنقاض المدينة ومبانيها الحديثة، وذلك لوجود نقيشتين، واحدة باللغة اللاتينية والأخرى باللغة الإغريقية، وشكك في هذه المطابقة لويس شاتلان سنة 1944 معوضا القصر بمدينة قديمة أخرى تسمى بابا جوليا. لكن في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، قدمت عدة أبحاث أثرية عن الجامع أحدها للأستاذ أحمد أشعبان في بحثه لنيل دبلوم الدراسات العليا في موسم 1988/87 والموسوم ب ” أبحاث تاريخية وأثرية حول مدينة القصر الكبير”، والذي أبرز أن المواد التي تم اكتشافها أثناء الترميم بالجامع يرجع انتماؤها لمركز حضري أو عسكري آخر، تم نقلها وإعادة استعمالها في الجامع، لكن الأستاذ محمد أخريف الذي أشرف سنة 1987 على عملية ترميم الجامع الأعظم من طرف المجلس البلدي للمدينة بموافقة وزارة الأوقاف، كان له ولعمله نتائج ومواقف أخرى بعد اكتشاف نقيشة ثالثة يرجح أنها أرّخت لبناء أوبيدومنوفوم سنة 291م، إذ بعد إعادة قراءتها، ظهر أنها تؤرخ لبناء أبيدوم نوفوم في العصر الروماني، وبعد قراءة النقيشة الأولى التي كان يعتقد أنها تؤرخ لبناء الصومعة سنة 45م، تبيّن أن قراءتها كانت خاطئة لأنها نقيشة مقبرية تؤرخ لوفاة جندي روماني عاش 35 سنة وعمل في الخدمة العسكرية 17 سنة، إضافة إلى أحجار وقطع نقدية رومانية، زيادة على اكتشاف النقيشة الإغريقية التي اعتُقد سابقا بأنها فقدت؛ واعتمادا على هذه المعطيات والأبحاث الميدانية، بنى الأستاذ أخريف رأيه الذي يشيرُ إلى أنّ موقع المدينة الحالية يوجد فوق المدينة الرومانية. ويلخص أيضا الأستاذ الباحث أحمد سراج هذه المسألة قائلا: ” كل هذه الشهادات أثبتت لنا أهمية الموقع في الفترة القديمة، وأكدت لنا أم موقع أوبيدوم نوفوم يوجد تحت مدينة القصر الكبير الحالية نتيجة الرواسب المتتالية لفيضانات اللكوس والتي تسببت في تغطية بنايات المدينة خلال قرون ما قبل الإسلام.” الجامع والمطفية: الأسطورة والتاريخ القديم بالإضافة إلى الهندسة المعمارية الفريدة التي يتميز بها الجامع من داخله، والمواد القديمة التي عثر عليها، وأهمية مطفيته التي لها أهمية متميزة ومتفردة في المغرب من حيث طبيعتها وهندستها وأدوارها، والتي تختلف عن مثيلتها التي أنشأها الاحتلال البرتغالي في مدينة الجديدة، تبرز بقوة مسألة الأسطورة التي ينسجها سكان المدينة عن هذا الجامع والتي ورثتها ذهنيتهم منذ قرون طويلة، ويمكنُ إرجاعُ ذلك لمسألة غياب وثائق ونصوص تاريخية واضحة حول المطفية، وإلى انعدام الكتابات التاريخية منذ قرون عديدة. هناك من أورد أن المطفية كان لها دور في العهد الروماني باعتبارها خزانا للحبوب، أو أنها كانت معبدا للشمس عند الرومان قبل بنائه في العصر الإسلامي لارتباط الجامع وتاريخه بالتاريخ القديم، وخاصة الروماني، بخلاف ما اعتقدهُ الأستاذ أخريف الذي يرى أنها خزان بني لأجل تجميع المياه في الفترة الإسلامية (خلال العهد المريني على الأرجح)، نظرا لوجود” قادوس بقطر 15 سم خارج من المطفية من قعرها،متجه نحو بئر اكتشف صدفة بجانب المطفية على بعد 10.50، وهو عامل يزيل احتمال كونه مكانا لخزن الحبوب، أو كونه مكانا للعبادة”. شكّلت هذه التصورات المرتبطة بالعبادة والآلهة لدى الرومان أرضية خصبة لبروز الكثير من السجال حول حقيقة الجامع وحول تاريخه بين النخبة و الباحثين بالأساس وذلك منذ مدة طويلة، حيث نُسجت الكثير من الحكايات والأساطير عن الجامع والمطفية في المخيلة الشعبية بل وحتى في المخيلة النخبوية. ورُوجت منذ التاريخ البعيد أقاويل من قبيل أن المسجد يوجد فوق كنسية قديمة، وزاد احتمال هذا الرأي بعد ظهور النقيشة الرومانية المكتوبة باللاتينية والإغريقية كما سبق الذكر، وربطها السكان كذلك بالكثير من الأساطير والحكايات من قبيل أنها ربما تعود لمعبد مسيحي. كما ظهرت خلال التاريخ المعاصر أسطورة تربطُ وجود المطفية بنهر اللوكوس القريب منها على بعد كلم واحد، والذي نسجت حوله أيضا أساطير كثيرة من خلال أسطورة إغريقية حول “هسبريديس” حدائق التفاح الذهبي التي يؤرخ لبعض هذه المنطقة بنهر لوكوس القريب من الجامع، فاعتقد سكان القصر الكبير لسنوات طويلة بأن النهر يتصل بالجامع من خلال قناة أرضية على بعد كيلوميتر واحد، وظلت الاستفهامات دائما تطرح نفسها عن نقطة الاتصال الغامضة عبر النهر التي أطلقوا عليها إسم المحراب على غرار المحراب الذي يلتقي فيه النهر بالمسجد، وهذا ما فسروه بكثرة المياه وتدفقها في المطفية، خاصة خلال فصل الشتاء. ومن بين الأساطير التي لم تبرح الذهنية المحلية حول المطفية ولسنوات طويلة، الاعتقاد بأنها تحوي ضفادع عملاقة وأسماك كبيرة وغريبة تحيط بكل المياه تحت الأرض في المطفية، وبأن الضفادع التي تنتشر أيام الفيضانات بالمنطقة ليست إلا نسلا منحدرا من الضفادع العملاقة التي توجد تحت الأرض. وارتباطا بهذه الأسطورة، نُسجت أسطورة مماثلة تقول بوجود أرواح شريرة مخيفة بالمطفية ، وبأن اتصالها بنهر لوكوس يرجعُ أساسا لازدياد عدد الغرقى في النهر خلال فصل الصيف حيث يصيرُ النهر قبلة الشباب لأجل الاستجمام والترويح عن النّفس من قيض المدينة. ولم تسلم حتى أبنية المسجد من الحكايات والأساطير، ذلك أن الجامع يزخرُ بثلاث سوارٍ ينبعث منا بعض الضوء ليلا، ما جعل البعض يعتقد أن سارية من السواري الثلاث تشع بنور الله، وبأن الله هو من يبارك المكان، ودليل ذلك الضوء المنبعث من السارية والراجع أساسا إلى المواد التي تتشكل منها. خاتمة: تتعدد الخلاصات والنتائج التي توصّل إليها الباحثون والأركيولوجيون حول الجامع الأعظم ، والتي تختلف باختلاف كل تصور على حدة، سواء بالاعتماد على النصوص التاريخية، أو على نتائج الأبحاث الأثرية، لتبقى الآراء حول تاريخ الجامع متأرجحة بين من يلحقها بالحقبة الرومانية من خلال الوجود الروماني في بعض المناطق المغربية بعد سنة 285م، ومن يرجعها إلى مراحل أخرى تعود للحقبة الإسلامية، سواء الإدريسية أو الموحدية أو المرينية، غير أن الأبحاث التاريخية والأثرية تبقى مفتوحة مستقبلا، ذلك أن البحث ما زال جار من خلال ما تقوم به جمعية البحث التاريخي في القصر الكبير والعديد من الباحثين المحليين والدوليين. وبعيدا عن البحث في تاريخ الجامع الذي بدأ في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، كان للأسطورة حضور دائم عبر مختلف الحقب التي مرّ منها الجامع، فكانت المادة المهيمنة على اهتمامات الساكنة منذ قرون عديدة، بل وظلت تتطوّر وتتلون داخل الذهنية المحلية، وهو ما يمكن أن نرجعه إلى تراجع العقل العربي المسلم عن محاربة الخرافة والجهل، خاصة خلال الفترات التي عرفت دخول الغزاة والمستعمرين، كما يمكن ربط ذلك أيضا بتراجع دور الجوامع والمساجد في تدريس العلوم وتشجيعها، وهذا ما سيكون له الأثر الأكبر في تراجع إسهامات العرب والمسلمين في البناء الحضاري والفكري، بعد مرحلة الأندلس الذهبية.