أعاد مجموعة من المؤرخين من المغرب وخارجه إعادة تركيب صورة مدينة طنجة في العصر الوسيط في مجالات مختلفة، سياسية، وعسكرية، واجتماعية، كما سلطوا الضوء على جوانب اعتبرت “غامضة” في تاريخ هذه المدينة المغربية . جاء ذلك خلال ندوة نظمها “المركز الثقافي أحمد بوكماخ” تحت عنوان “طنجة خلال العصر الوسيط”، شاركت فيها أسماء علمية من المغرب والعراق وموريتانيا، والجزائر، واحتضنها أحد فنادق طنجة نهاية الأسبوع، 19 و20 و 21 أبريل الجاري. تجميع للأفكار ل8 قرون وفي كلمة افتتاحية، اعتبر امحمد جبرون الكاتب العام للمركز الثقافي بوكماخ، أن الندوة هي محاولة جادة لجمع شتات الأفكار والأخبار حول طنجة على مدى ثمانية قرون، مضيفا أن المداخلات ستحاول إعادة تركيب الصورة، وتسليط الضوء على العديد من الجوانب التي بقيت غامضة. وقال جبرون المشرف العلمي على الندوة، إن طنجة البلاد والمدينة احتلت مكانة مرموقة في تاريخ المغرب الوسيط، مشيرا إلى أنها كانت مسرحا لأحداث عظيمة غيرت مجرى تاريخ المغرب، ولعل أبرز هذه الأحداث حسب جبرون هي الفتح الإسلامي للمغرب والأندلس، ثورة الخوارج على ولاة بني أمية سنة 122ه. ورغم أهمية طنجة التاريخية، ودورها المركزي في أحداث المغرب الوسيط، يقول جبرون، فإن ما وصلنا من أخبارها في ثنايا المصادر لا يعكس هذه الأهمية، مرجعا الأمر إلى ضعف التدوين التاريخي في المغرب الوسيط، ونشأته المتأخرة التي تزامنت مع تراجع مكانة طنجة وإشعاعها السياسي . المصادر الجديدة من جانبه دعا الباحث محمد مزين إلى خلق هيئة علمية، بتنسيق مع الجمعية المغربية للبحث التاريخي، لدفع الباحثين إلى التنقيب عن مصادر جديدة وطرح إشكاليات أعمق تسمح بفتح الآفاق أمام المؤرخين . واعتبر في مداخلة تمهيدية، أن اللقاء سيكون لبنة من اللبنات الأولى لبناء مشروع يهتم بتاريخ المدينة في العالم الإسلامي انطلاقا من تاريخ مدينة طنجة . طنجة بين المغرب والأندلس محمد بكور أستاذ في التاريخ، ركز في عرضه على أهم الأحداث التي عرفتها طنجة، سواء تلك التي أثرت عليها أو التي ساهمت في صنعها. وأشار الباحث إلى أن المعطيات التاريخية لا تسعف في تقديم صورة واضحة عن تاريخ طنجة خلال تلك الفترة، مضيفا أن الباحث يجد نفسه في كثير من الأحيان أمام فترات تغطيها عتمة شديدة تحجب عنا أخبار المدينة وحوادثها. وسجل بكور أن طنجة كانت أهم مدينة بالمغرب عندم قدوم العرب، حيث اتخذها هؤلاء عاصمة لولايتهم، مشيرا إلى أن طنجة لم تفقد دورها القيادي بالمغرب إلأ بعد بناء فاس واتخاذها عاصمة للإمارة الإدريسية. وحسب المتدخل فإن طنجة شكلت مجالا للصراع بين المغرب والأندلس، معتبرا أن هذا الصراع اشتد بين الخلافة الأموية بالأندلس وبين خصومها بالمغرب، من الأدارسة والزناتيين خلال القرن الرابع الهجري، ثم بين إمارة ابن الأحمر والدولة المرينية في فترة ضعفها خلال القرن الثامن الهجري. وأكد الباحث على أن طنجة لم تكن دائما في موقع المتأثر بالأحداث الخارجية، بل إنها في كثير من الأحيان ساهمت في صنعها. الباحث في التاريخ لم يفته التأكيد على أن طنجة في الفترة الانتقالية بين الموحدين والمرينين، استطاعت تأسيس إمارة مستقلة على يد القائد الأندلس ابن الأمين الذي استمر في حكم المدينة أزيد من عشرين سنة . معركة الزلاقة الباحث عبد السلام ولد يحي فقد ركز في مداخلته على دور طنجة في الديناميكية التي أحدثها المجال المرابطي، حيث حاول رصد التغييرات التي أحدثها ضم الملثمين لهذه المدينة على أكثر من مستوى . وسجل المتدخل، أن طنجة لعبت في العصر المرابطي أدوار مزدوجة، بحكم موقعها الجغرافي الرابط بين ثلاث مجالات مختلفة، بعد أن أصبحت ولأول مرة تحت سلطة واحدة، الأمر الذي سمح بنوع من التكامل بين مكوناتها ومقدراتها البشرية والاقتصادية. على المستوى السياسي، يؤكد الباحث على أن طنجة كان ثقلها الكبير في الميزان المرابطي، باعتبارها مركز السيطرة على العدوة الأندلسية، كما ساهمت نخبتها في بلورة المشهد الثقافي العام عبر فقهائها وشعرائها، وضيوفها الأفارقة والأندلسيين، وهو ما اعتبره عبد السلام ولد يحي وعي الدولة المرابطية بهذه الخصوصية وتعاملوا مع طنجة على أساسها . في ذات السياق، أكدت فطيمة الكنوني أستاذة باحثة في التاريخ، أن طنجة أسهمت كثيرا في الحركة العلمية والأدبية بالمغرب والأندلس، خاصة في فترة حكم الأمير يوسف ابن تاشفين . وأشارت الباحثة إلى دور طنجة في إمداد الجيوش المغربية الذاهبة إلى الأندلس للجهاد والدفاع عن بلاد المسلمين، ذلك الجهاد الذي تكلل بالنصر الكبير في معركة الزلاقة . تاريخ طنجة بدورها أبرزت صباح عويناتي الأستاذة بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمراكش، دور مدينة طنجة في العصر الموحدي، مركزة على جواب من تاريخ المجال والإنسان . وخلصت المتحدثة إلى مدينة طنجة احتلت بفضل موقعها الاستراتيجي مكانة هامة في عبور الموحدين وجيوشهم إلى بلاد الأندلس، مشيرة إلى أنها عانت من منافسة قوية لمراكز حضرية خاصة سبتة التي حظيت باهتمام الخلفاء وشدت إليها أقلام الأدباء والمؤرخين . وأكدت الباحثة على أن كتابة تاريخ المدينة خلال هذه المرحلة يستوجب استقصاء مصادر أخرى خاصة كتب التراجم والنوازل بالإضافة إلى البحث الأركيولوجي الذي قد يعزز ما ورد بهذه المصادر . طنجة خلال السيطرة البرتغالية الباحث الجزائري فارس كعوان الأستاذ بجامعة سطيف 2 بالجزائر، خلص في مداخلته إلى أن كتاب “تاريخ طنجة خلال السيطرة البرتغالية”، يمثل مصدرا لا غنى عنه لدراسة التحولات التي عرفتها مدينة طنجة، رغم النظرة المتعصبة للمؤلف “فرناندو دي مينزش”. وأرجع الباحث الأمر، إلى المكانة الاجتماعية للمؤلف، وقربه من مراكز صنع القرار في البلاط البرتغالي، حيث أهله لأن يسجل ملاحظات تاريخية ذات قيمة كبيرة اعتمادا على وثائق الأرشيف الرسمي وعلى عدد من الشهادات المعاصرة. ابن بطوطة اعتبرت الباحثة هدى المجاطي، أن ابن بطوطة في جميع مقارناته بين أحوال العيش في البلدان التي زارها، وبين بلده المغرب، كان ينظر إلى أحوال بلاده طنجة في المقام الأول، وبها كان يقيس ويقارن. وقالت المتدخلة، أن مجتمع طنجة وإن كان لا يحضر في الرحلة إلا بشكل غير مباشر، فإنه في بعض المواضيع يكون القصد إليه صريحا، كإشارة ابن بطوطة إلى وباء الطاعون الذي ضرب مدن المغرب والأندلس سنة 749ه ومنها مدينة طنجة، وكان من ضحاياه والدته، مضيفة، أن ابن بطوطة كان يمثل المجتمع الطنجي عند الأقوام التي حل بين ظهرانيها. طنجة خلال العصر الوسيط اعتبر محمد جبرون الأستاذ بالمركز الجهوي لمهن التكوين بطنجة، مدينة طنجة طيلة العصر الوسيط وإلى الاحتلال البرتغالي سنة 1471م، مزدهرة ومتطورة، مضيفا أنه لم ينل من تطورها إلا ظهور مدن وعواصم كبرى أمثال فاس ومراكش والرباط. وأشار المتحدث إلى أن طنجة كانوا يعيشون عيشة هنية، وحالة من الرفاه واليسر، مشيرا إلى شهادة ابن الخطيب في منتصف القرن الثامن الهجري، حيث قال عنها إنها “مدينة ميسورة ..ديارها نبيهة”. وأبرز جبرون، أن المجتمع الطنجي تميز خلال العصر الوسيط بخصائص، ذكر منها، خاصية النماء والتطور، وخاصية الانفتاح والتعايش. في مداخلة له تحت عنوان ” الدور العسكري لطنجة خلال العصر الوسيط”، وصف عمر لمغيبشي الأستاذ بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، الدور العسكري الذي لعبته طنجة في تاريخ المغرب خلال الحملة المسيحية عليه بالمتميز، مشيرا إلى أنها كانت بالفعل “مقبرة للنبلاء البرتغاليين”. وأضاف، إذا كانت الكتابات العربية لا تسعفنا في تكوين صورة واضحة، فإن نظيرتها الأجنبية، تمكننا من معرفة العديد من التفاصيل الهامة والدقيقة بخصوص هذه الحملات. وأكد الباحث على أن اندحار الجيش البرتغالي وهو يحاول احتلال طنجة عام 7341م، كاد أن ينهي بشكل شبه كلي رغبة البرتغاليين في احتلال المغرب، مشيرا إلى أن تأخر الحملة البرتغالية على طنجة يثبت صلابة المقاومة، ولعل توجهها لاحتلال مدن أخرى بالمغرب وخارجه دليل على ذلك . وزاد الباحث، أن الحديث عن دور طنجة العسكري واسهامات رجالها، يدعونا إلى إعادة كتابة تاريخها، فالحقيقة يضيف الجامعي، أن طنجة أوقفت المد الصليبي على أراضيها، ومن تأخير احتلال المغرب . طنجة والصراع بين البرتغال والمغرب على هذا المستوى أبرز إدريس بوهليلة الأستاذ بكلية الآداب بتطوان، في مداخلته بعض النماذج من الحملات الصليبية البرتغالية على مدينة طنجة في الثلاثينات والستينات من القرن 15 الميلادي، وقال عنها، إنها تحتاج إلى المزيد من البحث والتنقيب لإماطة اللثام عن كثير من قضاياها. واعتبر المتحدث أن طنجة قبل الإسلام كانت بوابة الغزاة الآتين من الغرب، وأصبحت بعد الإسلام بوابة المغرب ومعه الإسلام كله إلى الغرب، ومن هنا يضيف الباحث تبرز أهمية التاريخ السياسي والنضالي لطنجة، فضلا عن أهمية تاريخها الحضاري، ودورها في التقاء وتلاقح ثقافات المجتمعات المتوسطية والعالمية بصفة عامة. يشار إلى أن مدخلات الأساتذة المتدخلين طيلة الأيام الثلاثة، قد تم جمعها في كتاب وضع له عنوان “طنجة في العصر الوسيط، المجال، المجتمع، الثقافة والسلطة”، من طرف لجنة تتكون من الأساتذة : رشيد العفاقي، امحمد جبرون، محمد بكور، وخالد طحطح.