في مملكة المغرب نتفنن في عزل المنفلت من السلطة الحرّ. منذ اللحظة التالية لإطلاق عمل الراب "عاش الشعب" تحركت الألسن تلهج متكهنة بأسى وأسف غريب تجزم باعتقال الشباب الذين أبدعوا العمل. عزل الشباب الثلاثة احتمال كبير أن تكون فيه يدٌ وجهت النقاش خفية، احتواء للموضوع، لكن العزل كنتيجة هو الأهم، ويتعلق بنا نحن الشعب خصوصا. مجموعة كبيرة من مواطنينا لم تر في "عاش الشعب" سوى فكرة رمي مخرجيها وراء القضبان الحديدية معتقلينَ سدى كأن لا معنى لما قدموه. هنا من تلقاء إرادتنا كشعب دون حماية يُطل العزل الذي يجعل اتجاه حراس النظام العام نحو الاعتقال والتوقيف يسيرا وسهلا بل وحتى مستساغا لدى الرأي العام. يحدث مرارا أننا نسلم أنفسنا على طبق بحسن نية دون أن نكون قد ارتكبنا ما يوجب! "عاش الشعب" كرغبة في المشاركة السياسية؟ المشاركة السياسية "البوليتيكية" تعني هنا القدرة والقوة على رفع وتحسين مستوى عيشنا عبر نشر آرائنا التي نعبر عنها حول واقع البطالة ومسببيها وأسبابها، وآرائنا حول الإحساس بالحرية والعاملين على منعنا منها، ورأينا في "الطريقة التي يتم حكمنا بها"، ورؤيتنا للمستفدين من ثروتنا الطبيعية وغير الطبيعية، علاوة على مختلف الظواهر السلبية التي نعيش فيها ونشاهدها حولنا وأمامنا وخلفنا. هذه الآراء تزعجُ من أنتج هذا الخصاص. المشاركة السياسية تعني أيضا التصويتُ خلال الانتخابات بشكل ينتجُ عنه مجموعة من النواب الذين ينوبون فعلا وحقا عنا فيما يخص انتزاع حقوقنا والحديث باسم مصالحنا واقتراح ما يفيدنا، إذ يمكن أن يكون أي كان نائبا (طبعا عليه أن يكون موهوبا ومن الذين يعانون معنا على نحو ما). من الواضح بالتالي أن "عاش الشعب" تدخل في الخانة الأولى للمشاركة السياسية-البوليتيكية الخاصة بالتعبير عن الرأي والموقف. إن مبدعي هذا العمل المتميز ليسوا ثوريين، وعليكم ألا تحملوهم ما لا يصح، لكنهم قطعا يعتقدون أن عملهم، المتوسل بالرأي والكلمة والموقف، من شأنه تغيير الواقع على الأقل عبر تحرير النقاش العمومي من القيود المفروضة في ظل تواطُؤ الجميع. الأيام الصعبة التي نبحر فوق أمواجها العاتية منذ عقدين يجب أن تؤكد لنا جميعا حتمية عدم الخطأ في التشخيص. بالوصول إلى هذه المراحل المتقدمة من الوهن الخطأ في التشخيص يكلف عقودا أخرى. التجارب التاريخية التي تدل على ذلك متعددة. "عاش الشعب" ليست شكلا جديدا من الأشكال الاحتجاجية ذات الطبيعة الراديكالية. نحن جيل جديد من الشباب غرضُنا ليس الاحتجاج. استُنفدت حججنا والبراهين وامتلأت بنا ساحات الحج وشوارع التجمع دون جدوى. الشباب الآن لا يطلب الإنصات من أحد. لقد بدأ يتكلم بصوت عال بكل الأحوال. من ناحية لغة الأكاديميا نحن هنا نتحدث عن فرضية اختراق وتثوير المؤسسات المحافظة، واستعادتها لصالحنا نحن أغلبية الشعب المقصي، ونتحدث أيضا عن تمثيلية حقيقية قائمة على برامج مادية بحتة. توجد نافذة فرصة سياسية أمامنا. من هذا المنطلق، عمل شباب فاس الثلاثة قد يجوز وصفه بالتاريخي، يحدد ما قبل وما بعد العمل، ويمكن اعتباره مقدمة لكل هذا المخاض القادم مدفوعا بأمواج الانتقال الجيلي الشبابي المقبلِ خلال السنوات الأتية. ومن بين حلول هذه المشكلة نحن لا نرى سوى ديمقراطية حقة، راديكالية إن شئنا، تقيم الكرامة والحرية وتوزيع الثروة، لاسيما أن اليأس وصل إلى حدوده القصوى، وهو ما تعكسه عبارات "عاش الشعب": " مابقا لي علاش نخاف"، " كحلتو الدنيا فعيني حياة بلا هدف"، " عطيونا حقنا فهاذ البلاد ولا جمعونا وعدمونا"… التحولات السياسية هي تحولات مادية بالأساس. شباب فاس الثلاثة لم يكسروا جدار الخوف. وطأة الواقع هي التي تحدثت من خلالهم. الوعي الشعبي الشاب تغير بفعل ثقل الواقع؛ البطالة وانعدام الآفاق والفرص، اليأس والإحباط، المخدرات والجريمة وتجربة السجن، ضعف التمدرس، حياة الملل والروتين البطيء القاتل، الإدمان، الفاقة والإقصاء والألم، إشفاق الأمهات والعائلة والجيران؛ هذه كلها معطيات واقعية مادية موجودة استطاع الشباب الثلاثة تسييسها بشكل لم يحصل من قبل. وما عادت تعدُّ قضاءً وقدرا وكسلا. "عاش الشعب" رفض مستعلن لكل هذا الواقع. "عاش الشعب" تقابل أيضا الرأس الرمزي للنظام. "عاش الشعب" مقابل "عاش الملك". في العمل يوجد تدقيق لافت لهذا الشعب. من هو هذا الشعب تحديدا؟ هو الأم الذي مات أولادها في البحر، هو الأب المكافح، والمواطن المقهور، الدرويش المحكور، الموجز المضروب، المتعاقد المنبوذ، والموظف المخنوق، إضافة إلى "الحر لي مور لكرية مشدود" كدلالة على معتقلي حراك الريف. وفي مواجهة هذه الذات السياسية الممنوعة من تحققها الكامل وحقوقها توجد ذات أخرى "عدوة": "شكون لي كلا فينا المال؟"، شكون طاحن الفوسفاط؟"، "شكون طاحن البلاد طحين وكيقلب على الثروة؟"… لزعر، ولكناوي، وولد لكرية، رسموا معالم خطاب سياسي واضح المعالم ومباشر (على الهامش، كلمة سياسة وسياسي مشتقة من ساس يسوس ذات الإحالة القطيعية سنعود إلى تدقيقها مستقبلا). أقول إن هذا الوضوح لا نعثر عليه حتى عند الأحزاب السياسية المغربية. إنه خطاب سياسي أي صدامي يتوجه مباشرة إلى الرأس الرمزي للنظام. الخطاب الواضح في "عاش الشعب" يظهر كأنه تسريع بداية انحسار ما يمكن تسميته بمساحة الحضور الرمزي للملك، مقابل انبثاق مساحة الشعب، والتي بدأت تزحف بشدة تحت تأثير التحولات التكنولاجية والإعلامية (أيضا في هذا السياق من الممكن تفسير تغيير الصورة الرسمية للملك كمحاولة لتعزيز مساحة حضوره الدائم). إن النجاح في تقليص مساحة الحضور الرمزي للملك هو أبرز مساهمة لهذا العمل ويُظهره كإبداع تاريخي بامتياز. "عاش الشعب" أول الغيث. البشائر الأولى لاحت مع حراك الريف وحملة المقاطعة. هناك إرادة شعبية تتبلور، مدفوعة بالشباب الذي يشب ويشتد عوده، تلوح في البداية كرغبة يشوبها قدر من الاضطراب، ثم تصير فيما بعد إرادة واضحة ومتامسكة، لتنتهي كحقيقة مجسدة على أرض الواقع. هذا ما يقوله التاريخ.