كتب الجابري سلسة مقالات وكتب عن مشكل التعليم بالمغرب، أضواء موجهة لاستخلاص تجربة التعليم ما بعد الاستقلال بالتشخيص والسرد للمعطيات التي نتجت عن سياسة التعليم في المرحلة الاستعمارية بنتائجها، والشرخ الطبقي بين مكونات المجتمع المغربي من خلال فئة محظوظة تمكنت من ولوج التعليم، وفئة أخرى ظلت على الهامش نتيجة للسياسة التمييزية للإستعمار الفرنسي. كانت رغبة المغاربة خلال بداية الاستقلال كبيرة في التعميم والشمولية بناء على المبادئ الأربعة التي ذكرها الجابري في كتاب " أضواء على مشكل التعليم بالمغرب " وتابع الجابري تشخيص أزمة التعليم بكتاب " التعليم بالمغرب العربي " في دراسة تحليلية ونقدية للعملية التعليمية وسياسات التعليم الخاصة بكل من المغرب والجزائر وتونس، مبديا رغبته في إنهاء التبعية للآخر، وولوج القرن الحادي والعشرون بنفس جديد يعيد الاعتبار للذات، ويكرس مبدأ الاستقلالية والانفتاح ، وكعادة الجابري في الكتابة أنه يمزج بين التاريخ وما تعنيه البدايات ومرحلة التأسيس، ويطرح القضية من زوايا معرفية، ويعززها بتمثلات في المرامي والأهداف، وبعد ذلك يحاول تذكير الكل بالصعوبات والعوائق التي تعترض الفعل، والآمال التي تنير الطريق في تحقيق نظام تربوي يستجيب للعصر وتحديات المستقبل . التعليم الذي أقامته الحماية الفرنسية في المغرب كان نخبويا وطبقيا بامتياز ، بين تعليم عصري وآخر تقليدي، وبقيت الأغلبية الساحقة من أبناء المغاربة بدون تعليم طوال فترة الحماية لأسباب تتعلق بالمغاربة وخوفهم من التعليم الفرنسي، واعتبار هذا النوع من المدرسة والإقبال عليها نوع من الخيانة في حق الوطن، ومن يلج إليها يعتبر من الأعيان وخادما للاستعمار، مما رسخ فكرة العداء لهذا النوع من المدارس ، إذن المشكلة حسب الجابري هي نتاج تبعية للنظام التعليمي الخاص بالحماية أو على الأقل لم يستطع المغرب الحسم مع سياسات التعليم وتكوين الأطر، وتعميم المدرسة وإشاعتها في كل مكان، ويعزى السبب الآخر للموارد المالية في بناء المدارس والاكتفاء الذاتي من الأطر ، وجاءت السياسة التعليمية بعد الاستقلال بالمبادئ الأربعة وهي: التعميم والتوحيد والتعريب والمغربة ، هنا يفصل الجابري في المبادئ الأربعة ويعترف أن قضية التعليم شائكة، وهناك بالفعل أزمة ، ولم تعد هذه المبادئ شعارات قابلة للتغيير في أي لحظة إذا تثب عدم جدارتها في العبور بالمغرب نحو الأفضل، يتم تغييرها وتجريب سياسة أفضل منها، بل العكس كما يقول الجابري لأنها أصبحت قضية وطنية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية ، نوع من السيادة . فالتعميم يشمل ليونة الولوج لكل الفئات في ترسيخ التعليم ومحاربة الأمية، والتوحيد يعني تمكين المغاربة من نظام توجيه واحد، وهذا الأمر يتعلق بالمضمون الذي يجب أن يعطى للمغاربة، يعني أن المدرسة المغربية واحدة بنظامها المتنوع، من الابتدائي إلى الثانوي والجامعي، والشروط في التوحيد، تقتضي توحيد البرامج والمقررات، وتعريب المواد من القضايا الأساسية في استقلالية التعليم، مع الحرص على تكوين الشخصية المغربية التي تستمد عناصرها من الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، والتعريب يتطلب أدوات عملية وأطر، لكن تدريس العلوم بقيت بالفرنسية، والسبب أن أغلب الأطر لهم تكوين بالفرنسية وهم يجهلون العربية أو يكادون، وهذا التعريب يتوقف كذلك على مغربة الأطر، وهذا الشرط لا يتحقق إلا باستقلالية كبيرة للقرارات السياسية، وبالسياسة التعليمية المتوازنة، الجابري هنا يحلل ويشخص أزمة التعليم بعد مرور أزيد من 17 سنة على الاستقلال، حيث بقي التعليم أسير سياسات ارتجالية، واختيارات وتجارب تراوح ذاتها بين النظري والعملي ، بين الواقعي والمأمول تحقيقه من نتائج، هناك تناقضات بين الكم والكيف، أزمة التعليم لم تكن وليدة اليوم بإشكالات أفقية وعمودية بل نتاج تاريخ وتراكمات، من مخططات بعد الاستقلال للتعميم ومغربة الأطر، وتناقضات المجتمع الجديد الذي عرف هجرة واسعة، وتمدين سريع، واختلال بين العرض والطلب، ثنائية الانفصال والاتصال في سياسة الإصلاح عند استثمار المكتسبات والانجازات وسياسة البتر والقطع مع تراكمات التجارب السابقة من دون خلفيات، انعكست هذه المعطيات كذلك على المدرسة ورهانات الإصلاح. تأملات في عمق الأزمة بالتحليل والتشخيص يصب في خانة الإقلاع والإستقلالية الذاتية، وإيقاظ فكرة أن التعليم أمل المغاربة للمستقبل البعيد ، هذا الأمل عند الجابري غير منفصل عن سياقات وطموحات الشعب المغربي في استقلالية القرار، والعناية برجل التعليم، لا أن يتحول لمصدر قلق وإزعاج لأصحاب القرارات، رجل التعليم قطب العملية التعليمية، والبرامج والمقررات والمناهج في صلب النقد، ويكفي التأمل في تجارب الأمس، من تجريب أشكال البيداغوجيا، وأنماط من التربية حتى ندرك أنها غير نافعة أو على الأقل قليلة المردودية في بناء العقول، وتهذيب الإنسان وإعداد النخب المناسبة في القيادة والتدبير . المشكلة هنا بنيوية ومركبة لأن التعليم غير منفصل عن الإصلاح الشامل للمنظومة وللحياة السياسية والثقافية، يعني إدراك الجابري للواقع من منطلق إقامة ديمقراطية حقيقية تنبع من صلب إرادة الشعب والنخبة، ومن صلب الحداثة، وما تتضمنه من بناء للدولة والفرد، وتكريس فلسفة حقوق الإنسان، ومنح هامش أوسع للحريات المدنية، يعني ببساطة السعي الكامل نحو دولة مدنية بمضامينها الشاملة، والتفكير من داخل الثقافة مع شرط الانفتاح على تجارب الأمم، لأن مشكل التعليم في حيثياته العامة، من الحماية وما بعد الاستقلال، ظل ثابتا في الاختيارات، ودخل التعليم في عالم المزايدات السياسية والإصلاحات المبتورة والقطعية ، والجابري في إلقاء أضواء على سياسة التعليم والمشاركة في صياغة مقررات مادة الفلسفة أدرك أن المشكلة فكرية، فحاول أن يتلمس جذورها استنادا على المقاربة الابستيمولوجية، لعل أصحاب القرار يدركون بالفعل صلب المشكلة، وتقديم حلول ناجعة للمستقبل حتى لا تستفحل الاعطاب وينتهي الأمل بالأزمة المزمنة، لان التعليم عصب بناء المجتمع السليم عبر بناء الذات في بعدها المعرفي والأخلاقي ، وكعادته يفتش الجابري في بنية ما يحمله العقل من أفكار وتمثلات وترسبات عالقة، عقل جامد لم يستوعب الصدمات، ونموه ظل بعيدا عن الصراع بأشكاله، كما تبلور في الغرب جراء ثورات سياسية وعلمية ، من هنا عاد الجابري للتراث والعودة أكثر لابن رشد لأجل حداثة من قلب التفكير في قيمنا . يلتمس الجابري من ابن رشد آليات التفكير بلغة العصر، ويسلط التأملات على الراهن وأزمة التفكير، ويترك الأمر للفاعل السياسي، وذوي القرارات دون الركون للماضي أو الخنوع لليومي، أو جلد الذات والتقليل من قدرتها على بناء مجتمع سليم، ومدرسة بالمواصفات المنشودة ، قراءة في مرامي التعليم وغايات المدرسة لا تجعل من الجابري منظرا للسياسة التعليمية والصوت المهيمن على القرار، بل هناك صناع القرار ومهندسي النظام التربوي يلتقطون أفكاره النيرة لإعادة تصويب القرار بما يخدم مصلحة الوطن، ويلقي الكرة في مرمى النخب المغربية لبناء الإنسان والمجتمع معا ، تلك الأهداف التي أعلن عنها ميثاق التربية والتكوين، ومن قبل الكتاب الأبيض، وما يتعلق بالمخطط الاستعجالي، وتوصيات المجلس الأعلى للتعليم في نسخته الجديدة، مضمونها بناء المشروع الفردي والمشروع المجتمعي، يعني التقابل المتين والمندمج بين بناء الفرد وإصلاح المجتمع من خلال مدرسة مفعمة بالحياة والحيوية، في إيقاعها تتجلى الحياة المدرسية وإيقاع التعلم، والنمو الوجداني وتلقين السلوك الحسن للمتعلم، وما يتعلق بمرونة التعلم بناء على بيداغوجيا فعالة . الجابري في مواقفه من التعليم رصد اختلالات الفكر ونفد نحو بنية العقل حتى يكشف عن المحددات والمكونات في بنية العقل الأخلاقي والسياسي وتكوين المعرفة ، يبحث عن الحداثة المفقودة من داخل التراث، ويطوع الأفكار حتى تتناسب ومنطق القيم، ويريد أن يبعث في الذات روحها المفقودة، عندما يعود للوراء في استلهام التراث الرشدي، وفي قراءة المنسي من القول، والتذكير بقدرة الذات على النهوض بعيدا عن تركة الاستعمار، وبناء على الانفتاح ، كتابات الجابري عبارة عن تأملات في التاريخي واليومي والمستقبلي، لا بد من استقلالية الذات، وتصويب القرار نحو بناء الإنسان والمجتمع معا، لذلك نجده حاضرا في البرامج الخاصة بمادة الفلسفة، وفي الكتابات الخاصة عن الدولة، ورهانات الانتقال الديمقراطي، وما يتعلق بفلسفة حقوق الإنسان والغوص في بنية العقل العربي للعثور على مكامن الخلل والكشف عن الأزمات التي عصفت بالفكر حتى أصبحنا نجتر الماضي بكل خيباته وانتكاساته، وبالتالي ليست المدرسة المغربية إلا نتاج لهذا الوضع الذي أفرز معطيات جديدة نتيجة تراكمات الماضي القريب والبعيد . رحل الجابري وترك وراءه أفكارا ومواقف عن واقعنا التعليمي، وعن الأزمة التي زادت بعد التسعينيات من القرن الماضي ولم يكن هناك فصل تام بين التعليم في صيغته الماضية المحمل برواسب الرؤية الاستعمارية، وطموحات النخبة المغربية، وبين واقعه الآني الذي ازدادت مشاكله بزيادة الإقبال على المدرسة والرهان عليها في التنمية ، لعل الجابري كان يبحث عن نقطة شديدة كمنطلق للربط بين الاجتماعي والسياسي، وإقامة العلاقة بين التربية والمجتمع، وكل ماراه بالفعل من أزمات ومشاكل في التعليم كانت تندرج ضمن رؤى الفاعلين وأصحاب القرار من رجل التعليم، ومن الإصلاح بصفة عامة، ولا نقول أن الجابري كانت بيده كل الحلول السحرية لأجل تجاوز الأزمة وحل معضلة التعليم ، حال المفكر النقدي والفيلسوف المتأمل بناء النموذج الممكن والأصلح للناس في حياتهم العامة ، إنه يشخص ويحلل ويقدم وصفات للفاعل في ميدان التربية والتعليم، والفاعل في مجال صناعة القرار السياسي، ويرغب بتحكيم العقل وسلطة المعرفة، الآن وبعد رحيله دخل التعليم في نفق مظلم أو على الأقل لاحت أزمته وتراكمت حتى باتت الحلول استعجالية، والمواقف متضاربة في إصلاحات ارتجالية، مما أدخل المدرسة المغربية في شرخ طبقي جديد ساهمت في تقويض فكرة المدرسة للجميع ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. والأخطر سياسة التعليم في صيغته التعاقدية، وعفوية البرامج والمناهج والمقررات، والتنوع في الطرائق والكتب المدرسية، والشرخ الكبير بين المدرسة الخصوصية والمدرسة العمومية، ومشاكل أخرى تتعلق بالعرض والجودة والتكوين، ومشاكل مضافة لتلك التي حللها الجابري حتى دخلنا في الأزمة المزمنة، ولم يعد التعليم يحتمل مزيدا من التدخلات والإصلاحات الارتجالية، ولا يحتاج التعليم في التدبير لسياسة الإملاء ونسخ البرامج والمناهج من دول أخرى، ولا تدبير السياسات التعليمية بناء على الخصاص والحاجة . فمن الواضح أن مشاكل التعليم واقعية، ولا يمكن حلها إلا بنهج إستراتيجية محلية تروم التدرج وتحديد الأهداف البعيدة المدى، وتوسيع أفق الحوار والنقاش من قبل الكل، ولا أمل في الإصلاح للمنظومة التربوية إلا بتعميم الديمقراطية والتنمية، وعدم الخوف من رجل التعليم أو تحويل مسار الإصلاح من أهدافه النبيلة نحو أهداف إيديولوجية. حاجة التعليم للمفكر ضرورية من طينة محمد عابد الجابري خصوصا ونحن نعاين اليوم تدني مستوى التربية والتكوين، واستفحال ظاهرة العنف والجهل نتيجة أسباب منها اختلال في وظيفة المدرسة.