التشريع الجنائي في جانبه المسطري الاجرائي وجانبه القضائي الموضوعي، يُعد أحد المواضيع السياسية والفقهية والحقوقية الصعبة بالمغرب وبغيره من دول العالمنظرالطبيعة المادة كأداة قوة وردع بيد الدولة ووقع كبير على الافراد والمجتمع، و هي بطبيعتها كمنطومة تفرض المراجعات و الاصلاحات المتوالية بتوالي الاحداث والمستجدات وتشعب العلاقات، زادتها العَوْلمة والتقدم التكنولوجي والعلمي تعقيدا، واتسعت الحاجيات الإنسانية والمجتمعية الى قراءات جديدة للتشريع الجنائيبحلول جائحة CIVID19 و ظهور مستويات متطورة للجريمة في صور متعددة ابانت عن العجز الذي توقفت امامه الهيئات الأممية الدبلوماسية والسياسيةوالأمنية بتنسيقياتها وبمؤتمراتها وبتعاونها وباستخباراتها، والدول وسلطاتها بالعالم وبالمغرب- وهو ما يهمنا -وهيوجها لوجه امام مخاوف ومخاطر الجريمة و اكتساحها مجالات جديدة،بدءا من الجريمة البسيطة التي تجمع فردبأخر إلى الجريمة المنظمة والجريمة السبيريالية التيوصفتها رئيسة المكتب التنفيذي للانتربول سابقاMireille Ballestrazzi بانها اخطر جرائم القرن 21، او الجرائم المالية والتكنولوجية وغيرها، ثم ظهور أنواع الجريمة المنظمة عبر الوطنية من عصابات الاتجار بالبشر او تبييض الاموالاوما يسمهالخبراء ب La criminalité en col blanc، وأخيرا العجز في استيعابفلسفة العقوبة ، طبيعتها ، أبعادها، مستقبلها، نجاعتها، تداعياتهتا….الخ، من هنا ليس من باب النضج السياسي و القانوني ان يتعامل مسؤول مع موضوع النطام الجنائي الذي يشترك فيه المجتمع مع الدولة، بمعيار المنفعة و الربح وبمنطق الفوز على الخصم باي ثمن حتى وان كان الثمن يرهن مصالح الوطن ومستقبل المجتمع. وفي خضم واقع يصعب معه السماح بالارتجال السياسي والتشريعي واللعب بموضوع حساس وخطير مثل موضوع المنطومة الجنائية، و في غيابالوعي بضرورة وباهمية خلق التعبئة الجماعية حول مشروع كبير شامل يرقى فوق السباق الحزبي و السياسوي، يخرج وزير حقوق الانسان دون موعد ولا مقدمات، ويقوم بنشر مذكرةيوم 27 ابريل،سبق و ان قدمها و هو وزير للعدل قبل خمس سنوات في سنة 2016، والتي حَينَها الوزير محمد اوجار، وقال بانها تقديم لمشروع رقم 10.16 القاضي بتعديل بعض مواد القانون الجنائي، و يدعوو يحرض البرلمان من على الموقع الالكتروتي لحزب العدالة والتنميةوموقع المندوبية الوزارية لحقوق الانسان، الى التصويت عليه في هذه الدورة وقبل نهايتها ، و ذلك ضدًا على ارادة المهنيين والقانونيين و ربما ضدا على ارادة وزير العدل الممارس الذي صرح عبر التلفزيون بانه مع مشروع متكامل للقانون الجنائي والمسطرة الجنائية ردا على الاختلافات التي طفحت وسط لجنة العدل والتشريع في السنة الماضية منذ ان احيل المشروع رقم 10.16علة لحنة التشريع (( وللتذكير فالمشروع يتضمن تغيير و تتميم 17 مادة – تتميم 34 مادة – نسخ وتعويض 28 مادة – نسخ 3 فصول 527، 532، 533، و المادة 52 من قانون دخول الأجانب واقامتهم بالمغرب )). ولذلك يطرح السؤال ما الدافع السياسي والانتخابي و الحزبي لوزير حقوق الانسان فيان يُغامر مغامرة خاسرةويتجاوز النقاشاتالطويلة والمتعدده التي ابانت عن ضعف المسودة كلها آنذاكويمْحِي الاسهامات التي كشفت ثغرات المشروع وسلبياته و قدمت بالمقابل مقترحات عميقة ربما لم يرتح لها الوزير أيديولوجيا وحقوقيا، والتي بلورتهامؤسسات وطنية مثل المجلس الوطني لحقوق الانسان، ومنظمات مهنية وهيئات للمحامين وللقضاة و منظمات المجتمع المدني نسائية وحقوقية وشبابية و غيرها، والتي شارك فيها أيضا جامعيون متخصصون ورجال فكر وثقافة وفرق برلمانية بندوات نظمت داخل قبة البرلمان، …ويتجاهلالرؤية المجتمعية لهذه الكفاءاتالتي اكدت انها ترفض تقزيم وترقيع الإصلاح و تقترحالمراجعة الشاملة تجمع النص المسطري بالنص العقابي الموضوعي والذي يتكون من اكثر من 700 مادة حاليا، و من دون ان يستحضر الوزير السياق الذي سبق ان طرحت فيه المسودة بعد الدستور الجديد وبعد عمل الهيئة العليا لاصلاح العدالة. وماذا يريده الوزير حقيقة وهو ينطلق بالسرعة القصوى نحو البرلمان ويدعووباي ثمن من نوابهو نائباته وهم اليوم منكبات و منكبون على معالجة ما هو مرتبط باطلاق مسلسل الانتخابات التي لها اولوية قصوى على غيرها من الأمور بالنسبة اليهم، لمناقسة والتصويت على المشروع 10.16و هو يعلم بان باهميته وأبعاده تلزمه و تلزم الحكومة بالتعاملبالهدوء والتريث وتوسيع النقاش والاستماع للآراء من داخل ومن خارج قبة البرلمان؟ وما الدافع ان ياتي وزير حقوق الانسان، وخارج دهاليز الحكومة ومجلسها و يتطرق كعضو في الحكومةلموضوعكبير ودقيق يرجع الاختصاص للحديث فيه لوزير العدل الممارس وهو السيد بنعبد القادر، وياتي بخرجة اعلامية مقصودة المرمي وهيزرع الرجة السياسية في اجواء لا تتناسب سياسيا وبرلمانيا لعرض ولمناقشة المشروع المقتضبو نهاية ولاية البرلمان و الحكومة أتية بعد أسابيع معدودة وقليلة، ويعلم ان مناقشة نص استراتيجي ومهيكل له ابعاد خطيرة على المجتمع مثل مشروع تعديل في مستوى النظام الجنائي لن ينال اي انتباه حقيقي ولا حظا وافرا من نقاشات رفيعة المستوى و لن يصوت عليه اكثر من عشرين او ثلاثين عضوا على شاكلة عدد المصوتين على قانون المالية… لوزير حقوق الانسان من دون شك وفي هذه الظروف، حسابات وراء نشر التقديم على موقع حزبه وموقع المندوبية الوزارية لحقوق الانسانووراء الدعوة لمناقشته بالبرلمان، يمكن ان يكون من بينهارغبته كسب نفطة سياسية على حساب صورة ومهمة وزير العدل الحالي المعين في أكتوبر 2019 ليقول له انه لم يستطع القيام باي مسعى لاخراج المشروعو عجز في تحمل محفظة الوزارة، لكنهمن جهة أخرى يريد انيُحسَب له ولحزبه هذه الخطوة في الأيام او الأسابيع الأخيرة من استوزاره، ليمرر المشروع امام اغلبية يتقدمها حزبه بالبرلمان حتى ينتزع تعديلاتتخدم ميوله السياسي ولو انها لا تعكس مصلحة المغرب ومستقبل المجتمع، وليبقى مشروعه كما أراده ودافع عنه حاملا العديد من السلبيات التي لا تستجيب للتطور في مجال العدالة الجنائية، ولا ينسجم ويتلاءم مع ما اتي به الدستور من خلال رغبة الوزير الاحتفاظ على عقوبة الإعدام بل إضافة أربع مواد وأربع جديدةمعاقبعلى جرائمها بالإعدام، والابقاء على كل ما يضعف المكانة القانونية للنساء ولمراكزهن داخل المنطومة الجنائيةسواء تعلق الامر بالعنف او بالعنف الزوجي ، اوبقضية الإجهاض، او بالعلاقات الرضائية…، بل يريد الوزير تمريرالمشروع بحمولته الايديولوجيته المحافظة الاسلاموية المتعارضة مع الراي الغالب في المجتمع الذي لا يريد منطومة متخلفة لا تتنتسب و لا تعترف بفلسفة وقيم حقوق الانسان التي تدافع عنها الحركة المدنية والحقوقية والمهنية المغربية و يدافع عليها علماء السياسة الجنائية في العالم مثل الخبيرة الأستاذة بكوليج دو فرانس والعضوة في اكاديمية العلوم الأخلاقية و السياسية التي تاسست منذ القرن الثامن عشر ،والسيدةMIREILLE DELMAS-MARTY، والتي تعتبر نظرياتها اليوم الارضية الصلبة التي يمكن على أساسها بناء عدالة جنائية حديثة بالعالم و بمغرب القرن الواحد والعشرين. إن وزير حقوق الانسان يدرك غالبابان نص مشروع تعديل القانون الجنائي رقم 10.16،أصبح اليوم متجاوزاويحتاج بدوره لاعادة النظر حتى ولو كانت له فائدة هامشية، وذلك امام المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية بسبب ما فرضته جائحةCOVID 19 والعجز في بنيات الدولة والسلطةالذي اثر و غيرَ العلاقات داخل المجتمع وغير علاقات الدولة نفسها مع المواطن، واظهرت الجائحة الوبائية جائحات أخرى اقتصادية وقضائية وسياسية وصحية وغيرها….، وطفحتداخل المجتمع جرائم جديدة أتت بعد فرض حالة الطوارئ والحصار قبل اكثر من سنة وما أدت إليه من هفوات و انحرافات فيمجال التعاطي مع السياسة الجنائية والتعاطي مع مضمون وفلسفة الدعوى العمومية اجريما وعقاباومع مفهوم الحرية ومفهوم الاعتقال ومفهوم المحاكمة العادلة، ودعوة وزير حقوق الانسان اليوم امام هذه المعضلات تتغافل عن عِلم معطيات استراتيجية اجرى لابد من تقديرهاوفي مقدمتهاتقارير السلطة القضائية في مجال القضاء والعدالة وتقارير رئاسة النيابة العامة وتقارير الرئيس المنتدب للسلطة القضائيةوالتوجهات التي فصَحت عنها الجلسات الرسمية لافتتاح السنوات القضائية الى اليوم،وتقارير المؤسسات الدولية المتخصصة في ظاهرة الجريمة وفي ترتيب الدول في مجال مؤشرات الامن والوقاية من الجريمة، وأخير تناسي الوزير وهو يرافع من اجل تمرير مشروعه، الدروس التي تعنيها قرارات العفو الملكي عن المحكومين بالاعدام، وعن النساء ضحايا المتابعات التعسفية مثل قضية الصحفية هاجر الريسوني ومن معها والتي لابد من استيعابها في مجال معالجة قضايا مهمةكالإجهاض والعلاقات الرضائية وغيرهما… ان خطوة ودعوة وزير حقوق الانسان التي دعى اليها،خطوة وراءها تحقيق مطامح شخصية له ولحزبه نابعة من مناورة انتخابية استباقية ومبكرة لا علاقة لها بنية استكمال الإصلاحات ورفع وثيرتها، لانه يدركانه لما لم يستطع تقديم مشروع المسطرة الجنائية ومسودة القانون الجنائي التي طرحهما وهو وزير للعدل سنة 2016، و يعرف انه عجز عن اقناع مكونات البرلمان حتى بتعديلاته الجزئية بمن فيهم الأغلبية التي ينتمي اليها ولم يستطع اثبات نيته الاقدام على اصلاحات جدية وجريئة للمنظومة الجنائية مؤسسة على فلسفة حقوق الانسان بمفهومها الكوني،و ظل المشروعان معا نائمين بين يديه ، حيث اقبر مشروع المسطرة الجنائية ، وتقلص مشروع القانون الجنائي الى حدود 82 مادة، و استمر الوضع معلقا بعد مجيئ الوزير السيد اوجارسنة 2017 و الوزير الحالي سنة 2019، فمن هنا يتضح بان فكرته ودعوته اليوم عرض المشروع 10.16وهو يشكل نسبة العشر تقريبا من عدد مواد القانون الجنائي و التصويت عليه قبل انتهاء الدورة الحالية وقبل الانتخابات، ليس وراءها سوى إرادة تسعى الى اسخدام مشروع تعديلي هزيل في الدعاية الانتخابية الضيقة والى محاولة استخدام المواد المختزلة و المحتشمة وكانها انتصار حزبي على كل الأحزاب والتيارات الأخرى المشاركة او غير المشاركة بالبرلمان. لئن كانت بين وزير حقوق الانسان وبين وزير العدل الممارس حساسيات وصراعات، او له رغبة في تسجيلفوز سياسي صريح عليه او على حزبه، فمن المفروض الا يفجر مثل هاته المواقف السياسية في وجه الوطن والمجتمع وضد مصالحهما وهي اسمىمنمصالح حزب او حكومة،و الا يدفع نحو افلاس المنظومة الجنائية، و انهيار العدالة والأمن القانوني للمواطن. اعتقد ان البرلمانيين والبرلمانياتسيعرفون كيف يردون على نداء و مقترح وزير حقوق الانسان، بشكل موضوعي واخلاقي إن اعيدت مناقشة المشروع امام لجنة العدل والتشريع، انهم سيطالبون الحكومة بتقديم مشروع نص قانوني كامل ومندمج مع مشروع المسطرة الجنائية، وانهم سيضعون مصلحة الوطن والمجتمع فوق مصلحة وزير، انهم سيعالجون تسرع وزير حقوق الانسان وطموحهبالمسؤولية التي تطوقهم خارج دائرة منطق الحكومة ووزير حقوق الانسانلان البرلمان مؤسسة مستقلة تتعاون مع الحكومة نعم، لكنها لا تخدم مصالح وزير، و لا ينحني دائما لرغبات الحكومة ووزرائها، انهم كمنتخبين سيستمعون لضمير المجتمع وتطلعاتهوالى حبه للحرية و للانصافو للعدل، وهي حقوق تابثة له في الدستوور وفي القانون الدولي لحقوق الانسا، تعلو على حسابات الحكومة الظرفية وعلى اختياراتها السياسية وتعلو على النص المقترح تمريره في ساعة الصفر التشريعية، إنهم سيطالبون بمناقشة قانون المسطرة الجنائية لانها جديرة بالاولوية ضمن ما سيتقرر فيها من توجهات في السياسة العقابية، أوسيحدد فيها من رفع مستوى حقوق الدفاع تعزيزا لقرينة البراءة،أوما سيتم رسمه من حدود دقيقة لوقف انهيار الحرية بسبب الاعتقال الاحتياطي الذي اصبح خطرا يهدد قيم الدستور قبل ان يهدد كرامة الانسان، أو ما سيعزز شروط المحاكمة العادلة ومنها تساوي الأسلحة بين النيابة العامة والدفاع مراجعة الطعون ومراجعة العقوبات واقرير العقوبات البديلة، ونزع العقاب عن بعض الجرائم البسيطة، وإعادة النظر في صلاحيات قضاء لتحقيق وعلاقته بالنيابة العامة … وارجع في النهاية لما اكد عليه المفكر و المختص في علم الاجتماع الدكتور ادريس بنسعيد في استجواب له مع صحيفة الأيام بالعدد 942، بان " رقعة العمل السياسي الذي يدفع بالعديد من الأحزاب الى التركيز و العمل لبقائها على قيد الحياة السياسيىةو الاحتفاظ بموطئ قدم داخل المؤسسات… و تحصين الزعامات و تدبير الولاءات، يصعب عليها ان تكون حاضرة للتجاوب مع تطلعات المجتمع ". هذا في اعتقادي ما سقط فيه وزير حقوق الانسان وراء دفاعه على المشروع رقم 10.16، المتعلق بتعديل بعض مواد من القانون الجنائي ،و هو النص يسير محتواه في اعتقادي في اتجاه تطلعاته اكثر مما يسير في اتجاه تطلعات المجتمع. الرباط: 2021.4.30