منذ أن كتب أفلاطون عن "المدينة الفاضلة"، ظلّ سؤال العدالة محورًا لكل مشروع حضاري. لكن ماذا لو أصبحت المدينة، التي تأسست على قيم العقل، تحاكم العقل ذاته؟ بل ماذا لو صارت العدالة تُقاس بمقاييس أمنية، تحددها خوارزميات لا تدرك الفرق بين حرية التعبير وخطر التطرف؟ إن ما نشهده اليوم من ممارسات بحق الطلاب الدوليين في الجامعات الأمريكية، يعكس تحوّلًا جذريًا في طبيعة السلطة. لم تعد السلطة بحاجة إلى السجون التقليدية، بل باتت تخلق ما يمكن تسميته بالاعتقال الوقائي للفكر. لم يعد الإنسان يُحاسب على ما فعله، بل على ما قد يفكر في فعله، أو ما يعتقد النظام أنه قد يفعله. وهنا نستدعي أطروحة ميشيل فوكو، حين قال: "المعرفة سلطة، والسلطة معرفة". فكلما توسعت أدوات المعرفة، زادت دقة أدوات السيطرة. وفق تحقيق صحفي لموقع The Intercept، فإن وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أطلقت برنامج الصيد و الإلغاء "Catch and Revoke"، الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك الطلاب الأجانب، ورصد أي محتوى يُحتمل أنه مناهض للسياسة الأمريكية أو "متعاطف مع منظمات إرهابية"، وفي مقدمتها كما هو متوقع كل ما يرتبط بفلسطين. النتيجة: مئات التأشيرات أُلغيت، واعتقالات دون تهم واضحة، فقط استنادًا إلى قراءات أمنية لخوارزميات تدّعي الحياد. طالب مثل محمود خليل، فلسطيني في جامعة كولومبيا، يتحوّل من باحث أكاديمي إلى خطر أمني لمجرد أنه خرج في وقفة احتجاجية سلمية. وطالبة من جنسية تركية " روميصاء أوزتورك" تُرحل لأنها أعادت تغريد بيان تضامني. هكذا يُصبح التضامن جريمة، والفكر الحر تهديدًا. ما نراه هو تطبيق صارخ لنظرية "السيطرة الحيوية" عند فوكو، حيث تُراقب الدولة الجسد والعقل معًا، ليس من أجل المعاقبة الظاهرة، بل من أجل ضبط السلوك مسبقًا. وهو أيضًا امتداد لما حذرت منه حنة أرندت في أصول التوتاليتارية، حين رأت أن الأنظمة الشمولية تبدأ دائمًا بتجريم الرأي، ثم تعيد تعريف المواطن باعتباره خطرًا محتملًا. إن أخطر ما في "غوانتانامو الناعم" أنه يخلع عن القمع وجهه التقليدي. لا تعذيب، لا استجواب عنيف، بل إجراءات قانونية نظيفة، تنفَّذ باسم الأمن القومي. فالطالب لا يُدان بمحكمة، بل يُلغى وجوده بهدوء. وتلك، كما قال الفيلسوف البولندي باومان "حداثة سائلة"، تذيب كل الحواجز بين الشرعية والعنف. ثمّة سؤال فلسفي يفرض نفسه: هل نحن أحرارٌ لأن القانون يسمح لنا، أم لأننا نملك القدرة على التفكير خارج حدود المسموح؟ إذا كانت التأشيرة تُسحب بسبب موقف فكري، فما قيمة الأكاديمية؟ وإذا كانت الجامعة تُراقب لا تُحرِّر، فلماذا نُعلِّم الفكر الناقد أصلًا؟ هنا نرى عودة إلى فكرة "العبودية الطوعية" التي صاغها المفكر الفرنسي إتيان دو لا بويسييه. فالخضوع اليوم ليس نتاج القوة فحسب، بل نتاج تكييف العقول لقبول الرقابة كجزء من النظام. لم نعد فقط سجناء الجدران، بل سجناء السياق. في النهاية، لا بد من الاعتراف بأن غوانتانامو لم يُغلق، بل تغيّر شكله. لم يعد يُعرَف بموقعه الجغرافي، بل بمنطقه: قمعٌ باسم الحماية، وصمتٌ باسم النظام. كلنا اليوم مشاريع ملفات أمنية، مؤجلة... ريثما يكتمل الشك. ولأننا في عصر الذكاء الاصطناعي، ربما سيأتي يومٌ تُدرَّس فيه الفلسفة مع تحذير: هذا المقرر قد يُعرّضك للترحيل. أما أنا، كاتب هذه السطور، فقد ضمنت لنفسي بعد هذا المقال بطاقة حمراء مؤبدة من "الحلم الأمريكي". لن ألوّح بعد اليوم بعلبة كوكاكولا في مطار نيويورك، ولن تطأ قدماي أرض الحرية... أو بالأحرى، أرض الملفات المفتوحة. ومع ذلك، أطمئن وزارة الأمن الداخلي أنني لا أملك تأشيرة، ولا أنوي التقديم لها... لقد قنعت بغوانتانامو العربي، ففيه مساحة للتفلسف وإن كانت مؤقتة. أما لو فكرتم في ملاحقتي رقميًا، فيكفي أن تعلموا أنني أفكر أحيانًا... وهذا في حد ذاته جريمة.