ما يقع في غزة.. صمت العالِم كصوت الظالم في زمن المحنة، تتمايز المواقف وتسقط الأقنعة، ويصير الصمت موقفًا، بل جريمة. ما يجري في غزة ليس فقط إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، بل هو أيضًا امتحانٌ للضمير الديني قبل السياسي، وفضيحة تُدوّي في وجه من لبس عباءة العلم الشرعي ليخفي عورته الأخلاقية وجبنه الفظيع. لم يعد صمت بعض علماء الشريعة والدين في المغرب عن جرائم الإبادة وتطبيع الدولة المغربية مع عصابة الاحتلال مجرد خطأ في التقدير، أو حيادًا مؤلمًا، بل تحول إلى صوت ثانٍ للظالم؛ يُشرعن عدوانه، ويُسكت الغضب، ويُضلّل الأمة باسم "الوسطية"، و"الواقعية"، و"فقه المآلات"، كما غدا – ويا للعار – تأييدا صامتا مبطنا للتطبيع وحكما ضمنيا بجوازه!! لقد صار اليوم صمت العالِم كصوت الظالم، لأن العالِم الذي لا ينطق بالحق حين يُذبح الأبرياء، ويُجَوَّع الأطفال، وتُحرق المستشفيات، إنما يُسهم في الجريمة بالصمت، مثلما يُسهم الآخر بالقصف. في مثل هذه النوازل والأحداث الجسام لا يجوز تطبيق قاعدة : «لا ينسب لساكت قول»، بل ذلك محل تطبيق : «السكوت في معرض الحاجة بيان»، بل أصدق ما ينطبق على حالة الصمت هاته هي القولة الشهيرة : «الساكت عن الحق شيطان أخرس». فالعلم الذي لا ينهض وينتفض عند النوازل الكبرى، ليس إلا غبارًا على رفوف السياسة. ومن أخطر النوازل هو ما قمت به الدولة المغربية من إعادة العلاقات مع كيان الاحتلال في زمن يباد شعب عن بكرة أبيه، ويجوع أطفاله وتستباح نساؤه.. بل امتد التطبيع إلى استقبال سفن محملة بأسلحة القتل موجهة إلى أطفال رضع وشيوخ ركع ونساء حرائر، وشعب أنهكه الجوع وأفناه القتل.. ألا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في كتب الحديث، ولا في كتب الفقه ولا في موطأ الإمام مالك حكما شرعيا لهذه النازلة التي نزلت على رؤوس المغاربة كالصاعقة؟ العالم الذي لا ينطق الآن... لا فرق بينه وبين الاحتلال الجائر، إلا أن هذا يقتل بالرصاص والقنابل، وذاك يقتل بالصمت والخذلان. 1. صمت العلماء… صدى للجلاد ليس من المبالغة القول إن المجازر التي تُرتكب في غزة وتطبيع بعض الدول العربية، وعلى رأسها الدولة المغربية لم تكن لتستمر بهذه الوحشية لولا تواطؤ مزدوج: تواطؤ دولي يُغلف الجرائم بعبارات الدفاع عن النفس، ورفض ست دول عربية فرض عقوبات اقتصادية على عصابة الاحتلال، ومن بينها المغرب.. للأسف الشديد!! وتواطؤ ديني عبر صمت العلماء بالأقطار العربية، خاصة مصر والسعودية والمغرب، أو انشغالهم عن الجراح والألم الفلسطيني بالأحاديث الجانبية، أو – وهذا الأخطر – عبر تأويلات تبريرية تحاول تمرير خطاب الاستسلام باسم الشرع، وتثبيت التطبيع باسم السمع والطاعة لولي الأمر!! في كل المجازر التي عرفها التاريخ، كان الطغاة بحاجة إلى من يُسبغ على جرائمهم ثوب الشرعية، وقد وجدوا ضالتهم في "علماء السلطة"، أو في أولئك الذين قرروا أن يلزموا الصمت، ظنًا منهم أن الحياد فضيلة والصمت حكمة. لكن في لحظة الإبادة، الصمت ليس حيادًا، بل مشاركة، الصمت يُطيل عمر القاتل، ويُضعف صوت الضحية، ويُقنع العامة أن ما يقع ليس مهمًا بما يكفي ليحرّك فقيهًا أو يهزّ منبرًا. إن صمت العلماء – وهم حَمَلةُ البيان، وورثة النبوة – هو أشبه ما يكون بالصدى الخافت لطغيان ووحشية الجلاد. فحين يُذبح أطفال غزة تحت أنقاض البيوت، ولا يُسمع صوتٌ من على منبر الجمعة، ولا يُكتب بيان من هيئة علمائية مغربية، فإن الصمت نفسه يُصبح لغةً للقتل، وصدىً آخر لانفجار القذائف. قال ابن القيم رحمه الله: "العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلّت فتواه، وكان ضرره أكبر من نفعه". وقال الإمام الغزالي: "فَسَادُ العالِم فَسَادُ العالَم"، وليس الصمت عن الجرائم والتطبيع الذي أصبح تحالفا إلا أشد وأخطر أنواع هذا الفساد.. وإذا كان الناس يُفتنون بفتنة الشبهات، فإن أشدها فتكًا حين تصدر عن أهل العمائم، وتُقال بلسان من يُفترض فيه أن يكون صوت الحق في زمن الخرس الجماعي. فالعالِم لا يُنتظر منه أن يُصفّق للجلاد، ولا أن يُدين بصوت مرتعش، ولا أن يُرجئ البيان حتى "تتضح الصورة"، لأن صورة غزة أوضح من كل شكّ. 2. الوظيفة الأخلاقية للعلماء في أوقات المحنة في لحظات الانهيار الإنساني، حين تسقط الشرائع الوضعية، وتصمت المؤسسات الدولية، وتنهار القيم التي يتغنى بها العالم المتحضر، يُنتظر من العالِم أن ينهض لا باعتباره فقيهًا للفتوى فقط، بل ضميرًا للأمة، وامتدادًا لكلمة الحق التي صدع بها الأنبياء في وجه الطغاة. الوظيفة الأخلاقية للعالم لا تتوقف عند تدريس الأحكام أو شرح المتون، أو شرح موطأ الإمام مالك، أو الدفاع عن البخاري وصحيحه، بل تشمل – بل تتقدّم – إلى نُصرة المظلوم، وفضح الظالم، والقيام لله بالحجة والبيان. فالعلم الذي لا يُستنطق حين تُزهق الأرواح، ولا يُستنهض حين تُدكّ المساجد وتُحرق المستشفيات، هو علم ميت، لا روح فيه، ولا رسالة له. قال الإمام مالك: "العلماء مصابيح الزمان"، وقال الإمام أحمد: "إذا سكت العالم تقية، والجاهل لا يعلم، فمتى يظهر الحق؟" فإذا خفتت مصابيح الزمان في زمن الظلمات، فمن يُضيء درب الأمة؟ وإذا لم يظهر الحق في زمن الدم، فمتى يُقال إذًا؟ في مثل ما يقع في غزة، لا يُنتظر من العالِم أن يُبرر، ولا أن يشرح تعقيدات المشهد السياسي، بل أن يُحدد الموقف الأخلاقي والشرعي الواضح: أن ما يقع هو ظلم، هو إبادة، هو احتلال، وأن التطبيع خيانة لله ولرسوله وللأمة، وهو محرم شرعا.. وأن الشرع كلّه – برمّته – لا يمكن أن يقف في الضفة الأخرى من الضحية، يراها تُذبح وتجوع وتقتَّل، وكأنه لا يراها ولا يسمع صراخها ووجعها. لا عذر اليوم لمن تأخر أو سكت، ولا حجة لمن قال: "لا نعلم التفاصيل"، أو "ننتظر نتائج التحقيقات". فالحق أبلج وأوضح من أن يُنكر، والدم أبلغ من كل بيان. إن الشعوب حين ترى العلماء يتصدّرون للفتاوى اليومية في الحيض والنفاس، والقبض والسدل، والمسح على الجوارب... ويصمتون عن مجزرة العصر في غزة، فإنها تفقد الثقة، لا في العلماء فحسب، بل في الدين نفسه، لأن اللسان الذي سكت عن المذبحة وعن التطبيع، يُفقد الشريعة عدالتها في عيون الناس. وحينها يصبح الدين أفيونا يخدر عقول الناس ويبعدهم عن قضاياهم المصيرية، ويصبح العالِم علمانيا يفصل هذه القضية الشرعية والإنسانية التي تعتبر من جوهر الدين عن الدين.. فأين العلماء من صرخة ربعي بن عامر في وجه طغيان رستم؟ ألم يقل رضي الله عنه: «نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الاسلام... ».. قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: "وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الدَّيَّانين لا يعبؤون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله، ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يُريدوا فِعلها، وفضلا عن أن يفعلوها، وأَقَلُّ الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه، ويُمَعِّره لله، ويغضب لحرماته، ويبذل عِرْضَه في نصرة دينه. وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء، وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله – تعالى -أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب إن فيهم فلاناً العابد الزاهد، قال: به فابدأ، وأسمعني صوته؛ إنه لم يتمعر وجهه في يوم قط"[عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين]. فمتى يتمعر وجه علماء المغرب من جرائم الإبادة في غزة الجريحة، ومن تطبيع الدولة مع المجرمين المغتصبين للأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسولنا الكريم صلى على عليه وسلم.. ؟ 3. متى يصبح الصمت خيانة؟ ليس كل صمت خيانة، ولكن حين يتكلم الدم، ويسكت من أوتي البيان، يصير الصمت خيانة كاملة الأركان. الخيانة ليست دائمًا في القول، بل في السكوت حين يجب الكلام، في الغياب حين تُستصرخ القلوب، في الانشغال عن النكبة العظمى بأحاديث ثانوية أو جدالات نظرية. حين يكون المظلوم يصرخ من تحت الركام: – أين أنتم يا علماء الأمة؟ يا علماء المغرب؟ – أين فتاواكم حين يُحاصَر الجائع؟ – أين بياناتكم حين يُحرق المسجد ويُذبح الإمام؟ ثم لا يسمع إلا الصدى… فهنا الصمت ليس حيادًا، بل اصطفافٌ ناعم مع القاتل. صوت الجلاد لا يكون بالمدفع فقط، بل بما يُقابله من صمت العلماء، وخذلان النخب، وانشغال المنابر بالخُطب الموسمية، أو خطبة التسديد. قال النبي : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" [رواه الترمذي]. فإذا كانت كلمة الحق عند السلطان الجائر جهادًا، فإن السكوت عنها تقصير، وإن تواطأت مع الظلم، صارت خيانة. وحين قال الله تعالى: "ولا تَكُونُوا كالذينَ نسوا الله فأنساهم أَنفُسَهُم" [الحشر: 19]، فإن في طيّات الآية تحذيرًا من أن تفقد الأمة وعيها بذاتها، فتنسى دورها ورمزها وضميرها، وتتحول إلى أمة بلا صوت ولا موقف. والعالم حين يسكت عن المجازر، وهو يعلم، ويقدر على الكلام، فقد خان العلم وخان الأمة وخان الأمانة. قال الإمام الشاطبي في "الموافقات": "مقصد الشريعة الأعظم هو حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ الكرامة… فإذا اجتمع الانتهاك، وجب الإنكار بأقوى سبيل". وغزة اليوم ليست قضية حدود أو خلاف سياسي، بل قضية إنسانية شرعية عقدية أخلاقية، هي قضية إسلامية عامة وشاملة، لا يسع فيها أحدٌ أن يعتزل أو يلتفّ أو يبرر. إنها قضية فاضحة: تفضح الكذب باسم الوسطية، وتُعرّي الوجوه المتخفّية تحت اللحى والعمائم والوظائف الرسمية. 4. بين علماء الأمة وعلماء البلاط في كل مرحلة من مراحل الأمة، برز عالمان: عالمٌ للأمة، يتقدم الصفوف، ويصدع بالحق، ويُغضب السلطان، وعالمٌ للبلاط، يتلوّن مع المواقف، ويتقن فنّ الصمت، أو النطق بما يُرضي الحاكم لا ما يُرضي الله. في غزة اليوم، يظهر هذا الفارق بوضوح مخزٍ وفاضح. علماء الأمة هم الذين اتخذوا من العلم مسؤوليةً وأمانة، لا وظيفةً أو سلعة. هم الذين يرون دم الطفل في غزة آيةً تستحق التفسير، واستغاثةَ الأرملة نداءً أعظم من فقه الطهارة. هم الذين لا ينتظرون إذن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا فتوى من لجنة رسمية، لأنهم يعلمون أن كلمة الحق إذا تأخرت سقطت عنها البركة، وسقط معها هيبة العلم والعالم، هؤلاء لهم منا التقدير والاحترام والإكبار.. أما علماء البلاط، فهم صنف دقيق التكوين، يُتقن تجنّب القضايا الكبرى، يتحدث كثيرًا في قضايا العبادات، لكنه يعمى عن جرائم السياسات، يُكثِر من الحديث عن "السمع والطاعة"، ويُقصي آيات "العدل والقسط والكرامة والحرية".. إنهم علماء تم تدجينهم، حتى صاروا حُماة للظلم بشرعية دينية مزيفة. وأسوأ ما فيهم، أنهم يُجمّلون الصمت باسم "الحكمة"، ويُبررون الخضوع باسم "الفتنة"، ويُشيطنون من يصدح بالحق بوصفه "مثيرًا للشغب"، أو "خارجًا عن الإجماع" قال مالك بن نبي: "حين يتحول العالم إلى موظف، ينتهي دوره التاريخي، ويبدأ دور انهيار الأمة"، فهؤلاء وضعوا أنفسهم في خندق العمالة ومراتع الخيانة ومراتب الاحتقار.. وغزة اليوم لا تحتاج إلى موظفي فتوى ولا وعاظ منابر، بل إلى شهداء كلمة، إلى أصوات حرة تعرف أن العلم بلا موقف، كمصحف بلا روح. نحتاج إلى أن نُعيد تعريف العالم: – ليس هو من يحفظ المتون، بل من يُجسد مضمونها حين يُمتحن. – ليس هو من يرتب الكلمات، بل من يُصدح بها حيث يُمنع الكلام.– ليس هو من يُرضي السلطان، بل من يُرضي الله في زمن الخوف ولو أدى إلى غضب السلطان.. 5. غزة تمتحن الكلمة كما تمتحن الدم غزة اليوم لا تختبر فقط صمود الأجساد، بل تختبر صدق الكلمة، وكرامة الموقف، ونزاهة الضمير. إنها ليست فقط ساحة مواجهة بالسلاح، بل محرقة تمتحن العلماء، والنخب، والمثقفين، والمنابر، والفتاوى. فكما يُستشهد الأطفال تحت الركام، تُستشهد الكلمة حين تُغتال في حلق العالِم، أو تُؤجَّل إلى حين "انكشاف الصورة"، أو تُدفن تحت تراب المجاملات السياسية. قال النبي : "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" [رواه أبو داود]. فكيف إذا رأوا الظالم، وعرفوا ظلمه، وامتلكوا الكلمة... ثم سكتوا؟ وكيف إذا رأوا ولاة الأمور يتعاونون مع المحتلين والمغتصبين.. القتلة المجرمين ويفتحون لهم موانئهم وفنادقهم وجامعاتهم وأسواقهم؟ كل قطرة دم تنزل في غزة تقف شاهدة: على عالمٍ نطق بالحق فرفع الله قدره، أو على عالمٍ سكت عن الحق فصار صدىً للظالم، أو ظلًّا للقاتل فأركس الله قدره. إن المعركة في غزة ليست فقط بين شعب ومحتل، بل بين الحق والباطل، بين الصوت والصمت، بين الولاء لله والخيانة، بين الضمير الخي والنفاق البين. وغدًا، حين تكتب الأمة تاريخها، لن تسأل فقط: – من قصف؟ – بل ستسأل أيضا: من سكت؟ – من تواطأ بصمته؟ – من خان الله في علمه، والناس في أمانتهم؟ يا علماء الأمة المغربية... غزة لا تنتظر منكم الدعم المالي، بل تنتظر منكم أن تكونوا "شهداء" للحق كما أمركم الله. ويا من لبستم جُبَّة العلم، تذكّروا أن السكوت ساعة الدم... جريمة، وأن صمت العالِم صار اليوم صوتًا للظالم.