ترى دراسة أكاديمية أن السياسة الخارجية للمغرب لم تعد مجرد نتاج لتوازنات إقليمية أو مصالح ظرفية، بل أصبحت أداة لتثبيت تصور الدولة لذاتها ولحدودها، في سياق تتداخل فيه مفاهيم السيادة والهوية والوحدة الوطنية. ويؤكد الباحث الروسي تيمور كاديرمامبيتوف أن الصحراء لا تمثل بالنسبة إلى المغرب قضية حدود فحسب، بل هي عنصر جوهري في بناء الذات السياسية للمملكة وفي شرعنة سلطتها أمام المجتمع الدولي والداخل الوطني على السواء، وفقا للدراسة المنشورة في 21 أكتوبر ضمن العدد الثاني لسنة 2025 من مجلة "السياسة المقارنة"، الصادرة عن جامعة موسكو للعلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الروسية. يربط كاديرمامبيتوف هذا التحول في السياسة الخارجية المغربية بتطور إدراك النخبة الحاكمة في الرباط لأهمية العامل الهوياتي في العمل الدبلوماسي. فالمغرب، بحسب الدراسة، اعتمد على مسار طويل من التكوين التاريخي الذي منح مؤسساته طابع الاستمرارية والاستقرار، وجعل من المؤسسة الملكية محور الارتكاز في إدارة السياسة الداخلية والخارجية على السواء. ويخلص الباحث إلى أن الحس السيادي الذي تشكل عبر قرون من مقاومة التبعية الأجنبية، من الحقبة الاستعمارية إلى ما بعدها، قد رسخ في الوعي الجمعي المغربي شعورا خاصا بأهمية وحدة التراب الوطني، وهو ما جعل من مسألة الصحراء قضية وجودية لا تخضع لمنطق المساومة.
أوضحت الورقة البحثية أن عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017 شكّلت نقطة تحول رئيسية في إعادة تموضعه الخارجي. فبعد انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1984 احتجاجا على قبول ما يسمى "الجمهورية الصحراوية" عضوا في المنظمة، عاد المغرب إلى العمل الإفريقي المشترك من موقع جديد أكثر ثقة، وسرعان ما استطاع تحقيق تقدم ملموس في إقناع عدد من الدول الإفريقية بالاعتراف بسيادته على الصحراء. ويرى الباحث في "الأكاديمية الروسية للعلوم" أن هذا المسار يعكس نجاح الرباط في استخدام الدبلوماسية متعددة الأبعاد لتكريس سرديتها التاريخية حول الصحراء باعتبارها جزءا من الأراضي الجنوبية للمملكة. بناء شبكة نفوذ بأدوات القوة الناعمة يُفصّل كاديرمامبيتوف في الأسس النظرية التي اعتمدها لتحليل الهوية الخارجية للمغرب، مبرزا أنه اختار المنهج البنائي الذي ينظر إلى الهوية بوصفها عملية متحركة تتشكل بفعل التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية. ومن هذا المنظور، فإن المغرب يحدد أولوياته الخارجية انطلاقا من تصوره لذاته كدولة عريقة ذات امتداد عربي-إسلامي وإفريقي ومتوسطي في آن واحد. ويشير إلى أن الوثائق الدستورية المغربية، خصوصا دستور سنة 2011، تؤكد هذا الطابع التعددي في الهوية الوطنية، إذ تنص على أن الأمة المغربية تستمد وحدتها من تداخل المكونات العربية الإسلامية والأمازيغية والساحلية الصحراوية والإفريقية والأندلسية واليهودية والمتوسطية. هذه الخلفية المتعددة الثقافات، حسب الباحث، هي ما يمنح السياسة الخارجية للمملكة مرونة خاصة، لكنها في الوقت نفسه تجعل من قضية السيادة الترابية خطا أحمر لا يقبل المساومة. ويؤكد الباحث أن المقاربة المغربية للقضية الصحراوية تقوم على ركيزتين متلازمتين، وهما التاريخ والشرعية. فمن الناحية التاريخية، تعتبر الرباط أن الصحراء كانت منذ قرون تحت البيعة السياسية والدينية لملوك المغرب، وأن سكانها لم يمتلكوا هوية سياسية مستقلة عن "الإمبراطورية الشريفة". أما من حيث الشرعية، فإن استرجاع الصحراء عبر "المسيرة الخضراء" سنة 1975 يمثل، في الوعي الوطني المغربي، لحظة رمزية كبرى جسدت وحدة العرش والشعب، وأعادت تأكيد الارتباط العضوي بين السيادة والوحدة الترابية. ويصف كاديرمامبيتوف المسيرة بأنها "رمز وطني جامع يؤدي وظيفة تعريفية للحضارة المغربية"، مشيرا إلى أن هذا الحدث أدى دورا محوريا في تعزيز مشروعية النظام الملكي داخليا، وفي إعادة صياغة صورة المغرب في الخارج كدولة تسعى إلى استعادة أراضيها بالوسائل السلمية والدبلوماسية. ويشير الباحث إلى أن هذا البعد الرمزي ترافق مع تحول واقعي في أدوات السياسة الخارجية المغربية، إذ نجحت المملكة خلال السنوات الأخيرة في بناء شبكات نفوذ متعددة داخل القارة الإفريقية وخارجها، مستخدمة أدوات القوة الناعمة من تعاون ديني وثقافي واقتصادي. ويبرز في هذا السياق مفهوم "الأمن الروحي" الذي طورته الرباط كآلية للتعاون الديني مع بلدان الساحل وإفريقيا جنوب الصحراء، من خلال تكوين الأئمة ونشر نموذج الإسلام المغربي الوسطي، وهو ما يترجم رغبة المغرب في تعزيز حضوره في الفضاء الإفريقي بوسائل غير صدامية تدعم في النهاية موقفه من الصحراء. العلاقات مع الجزائر وأوروبا والقوى الكبرى أما على مستوى العلاقات مع الجوار المباشر، فتُظهر الدراسة أن التوتر مع الجزائر يمثل التحدي الخارجي الأبرز الذي واجه المغرب ولا يزال يشكل محددا رئيسيا لهويته السياسية الإقليمية. ويصف كاديرمامبيتوف العلاقة بين البلدين بأنها علاقة "تنافس دائم على الزعامة الإقليمية"، تعود جذورها إلى حرب الرمال سنة 1963، وتعمقت مع مرور الزمن بسبب الخلاف حول قضية الصحراء. ويؤكد الباحث أن الجزائر، التي دعمت منذ البداية جبهة البوليساريو، أصبحت في التصور المغربي مرادفا للتهديد الدائم، في حين رسخت المسيرة الخضراء صورة الجزائر في الوعي الوطني كخصم إقليمي. وفي الجانب الأوروبي، يرى كاديرمامبيتوف أن العلاقات مع فرنسا وإسبانيا اكتست بعدا جديدا في السنوات الأخيرة، مع تحول مدريدوباريس إلى داعمين واضحين للمبادرة المغربية المتعلقة بالحكم الذاتي في الصحراء. ففي مارس 2022، أعلنت الحكومة الإسبانية تأييدها الرسمي للمبادرة المغربية بوصفها "الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لتسوية النزاع"، وتبعتها فرنسا التي أكد وزير خارجيتها ستيفان سيجورنيه في فبراير 2024 أن باريس تمنح الرباط "دعما كاملا وثابتا" في هذا الملف، وهو الموقف الذي جرى تأكيده من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته الثانية إلى الرباط في أكتوبر من السنة نفسها، حيث أعلن صراحة أن "حل النزاع يجب أن يكون وفق مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية". ويشير الباحث إلى أن هذه المواقف الأوروبية تعكس نجاح الدبلوماسية المغربية في إعادة صياغة خطابها الخارجي بما يتجاوز لغة الصراع إلى منطق الشراكة الاقتصادية والسياسية، خاصة أن حجم المبادلات التجارية بين فرنسا والمغرب بلغ سنة 2023 أكثر من 14 مليار دولار، أي ضعف ما كان عليه قبل عقد من الزمن. في مستوى العلاقات مع القوى الكبرى، يؤكد الباحث أن التحالف المغربي-الأمريكي مثل رافعة أساسية في مسار تثبيت السيادة المغربية على الصحراء، خاصة بعد توقيع اتفاقيات أبراهام سنة 2020 التي أعلن المغرب بموجبها استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. ويرى كاديرمامبيتوف أن هذا القرار لم يكن انعطافة في الموقف المغربي بقدر ما كان خطوة محسوبة لتحقيق هدف استراتيجي واحد؛ الحصول على اعتراف الولاياتالمتحدة بسيادة المغرب على الصحراء، وهو ما تحقق بالفعل حين أصدر الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب إعلانا رسميا بهذا الشأن في دجنبر 2020. وتيشر الورقة إلى أن هذه الخطوة كانت لها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، حيث ردت الجزائر بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط واعتبرت التقارب المغربي-الإسرائيلي "عملية خارجية تهدف إلى زعزعة استقرار الجزائر". الأسلوب الوطني في السياسة الخارجية ويستخلص كاديرمامبيتوف من مجمل الوقائع أن المغرب طور خلال العقد الأخير ما يسميه "الأسلوب الوطني في السياسة الخارجية"، وهو نمط من السلوك الدبلوماسي يقوم على المرونة والانفتاح في جميع الملفات باستثناء ملف الصحراء الذي يظل غير قابل للتنازل أو المساومة. هذا الأسلوب، في نظره، يعكس تفاعلا بين التاريخ والجغرافيا والهوية الدينية والثقافية، ويجعل من المغرب حالة فريدة في العالم العربي والإفريقي من حيث قدرته على الموازنة بين البراغماتية والرمزية. ويضيف أن الهوية المغربية، وإن كانت متعددة الجذور، إلا أنها تجد وحدتها في الدفاع عن السيادة الترابية، وأن كل مبادرة خارجية للمملكة، سواء في إفريقيا أو أوروبا أو القارة الأمريكية، تنطوي ضمنا على هدف تأكيد هذه السيادة وترسيخها. ويشير الباحث كذلك إلى أن الوعي الجغرافي للمغرب بدوره شكل عاملا مؤثرا في بناء هويته الخارجية، فالمملكة تقع على مفترق طرق ثلاث؛ العربي والإفريقي والمتوسطي، ما يجعلها تنتمي في آن واحد إلى أكثر من فضاء حضاري. هذا الموقع، كما يوضح، أنتج سياسة خارجية متعددة الأبعاد لكنها متماسكة في جوهرها، لأنها تنطلق من تصور ثابت لمفهوم الدولة ووحدتها. ويقتبس كاديرمامبيتوف في هذا السياق خطاب الملك محمد السادس في الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء الذي أكد فيه أن "الأطلسي يشكل بوابة المغرب إلى إفريقيا ونافذته نحو أمريكا"، معتبرا أن توجيه السياسة الخارجية نحو الفضاء الأطلسي هو امتداد طبيعي لمشروع تعزيز الدور المغربي في العمق الإفريقي والدولي. وفي خاتمة دراسته، يؤكد الباحث الروسي أن مسألة الصحراء ليست مجرد نزاع إقليمي عالق، بل هي المكون الأساسي الذي تقوم عليه الهوية الخارجية للمغرب. فهي المسوغ الذي يربط بين ماضي الدولة وراهنها، وبين السلطة والمجتمع، وهي كذلك المحرك الذي يفسر مواقف الرباط في محيطها الإقليمي والدولي. ويضيف أن المقاربة المغربية أثبتت فعاليتها في توظيف عامل الهوية كسلاح دبلوماسي، وأن المملكة استطاعت عبر هذا المسار أن تنتقل من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، مستندة إلى شرعية تاريخية وثقافية راسخة، وإلى شبكة تحالفات دولية متنامية. ويخلص إلى أن المغرب، بقدر ما ينتمي إلى عوالم متعددة، إلا أنه يجد في الصحراء رمز وحدته ودليل وجوده، وأن هذه القضية ستظل، ما دامت تشكل لبّ الهوية الوطنية، محورا ثابتا في سياسته الخارجية.