تقديم ينشر موقع "لكم" هذا المقال التحليلي للباحث الفلسطيني-الفرنسي وأستاذ علم الاجتماع ساري حنفي، بعد أن امتنعت جريدة لوموند الفرنسية عن نشره. يأتي المقال في لحظة مفصلية تشهد فيها المنطقة واحدة من أعنف الحروب على غزة منذ عقود، وفي ظل جدل واسع داخل الأوساط الأكاديمية والإعلامية حول الرواية الأخلاقية والسياسية للحرب، وحول موقع الصحافة الغربية من سرديات الصراع.
يقدم حنفي في هذا المقال قراءة فكرية مركّبة لمرحلة "اليوم التالي" للحرب، محمّلًا الفلسطينيين والإسرائيليين والمجتمع الدولي—والغرب خاصة—أسئلة أخلاقية وسياسية صعبة. كما يطرح نقاشًا معمّقًا حول معنى المقاومة في عصر الذكاء الاصطناعي، ويفكّك جذور العنف الراهن ضمن بنية استعمارية ممتدة، قبل أن يقترح تصورًا سياسيًا بديلًا يتجاوز ثنائية "حل الدولتين". نشر هذا المقال يأتي في إطار حرص "لكم" على إتاحة النقاشات الفكرية الجريئة والمهمّشة في المنصات الإعلامية الكبرى، وعلى تقديم وجهات نظر مختلفة تساعد القارئ على فهم تعقيدات اللحظة التاريخية التي تعيشها فلسطين والمنطقة والعالم.
وفي ما يلي نص المقال: سيكون اليوم التالي لحرب غزة يومًا حتميًا للمواجهة الأخلاقية للفلسطينيين والإسرائيليين والعالم الذي وقف متفرجًا دون أن يحرك ساكنًا. فعندما يتوقف القصف، وينقشع الغبار عن المشهد المدمر، لن نكون أمام خاتمة، بل أمام لحظة حقيقة صادمة، أخلاقية وسياسية. لن تُنهي الحرب الملف؛ بل ستثير أسئلة لن يستطيع أحد الإجابة عليها بسهولة. "الغد" الصعب للجميع بالنسبة للفلسطينيين، كان اليوم التالي بمثابة بداية رحلة طويلة من الحزن والأسى. أُبيدت عائلات بأكملها، ودُمّرت منازل ومدارس ومستشفيات. وتصف معظم منظمات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية ما حدث في غزة بالإبادة الجماعية. لكن وراء الدمار المادي يكمن العبء النفسي الناجم عن الحداد على أكثر من 80 ألف قتيل ومئتي ألف جريح، بالإضافة إلى الشعور الذي لا يُطاق بأن القوى العالمية تابعت بعضها بصمت وبعضها الآخر بموافقة المأساة وهي تتكشف. هذه ليست مجرد أزمة إنسانية، بل صدمة تاريخية ستظل حاضرة في ذاكرة الأجيال القادمة. بالنسبة للإسرائيليين، سيكون اليوم التالي مؤلمًا أيضًا ولكن بطريقة مختلفة. سيكون هناك حزن على الجنود الذين قُتلوا في غزة، ولكن أيضًا صدمة أعمق: إدراك جماعي للتواطؤ في أعمال الإبادة الجماعية. لا يمكن لأي مجتمع أن يشهد التدمير المنهجي لأرواح المدنيين دون أن يُصاب بجرح أخلاقي. إن الإيمان بطهارة الدفاع عن النفس أي سردية "الحق في الدفاع عن النفس" لا يصمد أمام صور المستشفيات التي تعرّضت للقصف، والأطفال الجائعين، والمقابر الجماعية. ستكون هذه المحنة داخلية بقدر ما هي سياسية؛ وستثير تساؤلًا حول أي نوع من الوطن تتمنى إسرائيل أن تكون بعد أن ارتُكبت فظائع إبادة جماعية باسم الأمن. أما بالنسبة للقادة الأوروبيين والأمريكيين، فسيشهد اليوم التالي انهيار مصداقيتهم الأخلاقية. فالحكومات التي نادت لعقود بحقوق الإنسان والقانون الدولي كشفت عن نفسها إما كمتفرجين سلبيين أو كشركاء فاعلين في الإبادة الجماعية الإسرائيلية. لقد أصبح خطاب "النظام الدولي القائم على احترام القواعد" خطابًا فارغًا. فعندما ينادي السياسيون الغربيون بشعار "لن يتكرر هذا أبدًا"، بينما يمنحون الأسلحة والغطاء الدبلوماسي لدولة تمارس العقاب الجماعي، تصبح لغة حقوق الإنسان لغة نفاق. لم تُحطم هذه الأزمة غزة فحسب، بل هدمت أيضًا البنية الأخلاقية للغرب الليبرالي. وبالنسبة للعالم العربي والإسلامي، ستكون العواقب مزعجة بالقدر نفسه. لقد أعادت صور دمار غزة فتح جرح قديم: جرح الانقسام العميق والشلل الذي أصاب منطقة كانت تزعم يومًا ما نصرة القضية الفلسطينية. وبينما انتفضت الشعوب العربية والإسلامية تضامنًا، لم تفعل معظم الحكومات أكثر من إصدار بيانات وخطابات رمزية. سيظل رفضها للتحرك سواء بدافع الحسابات السياسية أو الخوف أو التعب وصمة عار. لقد كشفت مأساة غزة عن مدى انفصال النخب الاستبدادية في المنطقة عن شعوبها وعن مبادئ العدالة والتحرير التي ألهمتها يومًا ما. إعادة التفكير في المقاومة في عصر الذكاء الاصطناعي أدى بروز الذكاء الاصطناعي والحرب الخوارزمية التي تشمل أنظمة المراقبة المتقدمة، والعمليات السيبرانية، وتقنيات الطائرات بدون طيار الدقيقة إلى خلق تفاوت غير مسبوق بين إسرائيل والأطراف الفاعلة غير الحكومية مثل حماس وحزب الله. وينبغي أن تدفع هذه الهيمنة التكنولوجية والمعلوماتية إلى إعادة تقييم عميقة لمعنى المقاومة في عصرنا. إن الاستمرار في تصور المقاومة من منظور عسكري بالدرجة الأولى يُخاطر بإدامة دورات لا نهاية لها من الدمار دون تقريب التحرير حقًا. هذا لا يعني التخلي عن الحق في مقاومة الاحتلال، وهو حق مُكرّس في القانون الدولي ومُستند إلى المبادئ الأخلاقية. ولكنه يعني الاعتراف بأن المقاومة يجب أن تتطور إلى ما هو أبعد من الكفاح المسلح. يجب أن يكون مستقبل المقاومة سياسيًا (بما في ذلك فرض عقوبات على الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها الاستعمارية) واجتماعيًا وثقافيًا بقدر ما هو دفاعي. لقد أثبتت حروب العقود الأخيرة أنه مهما بلغ عدد الصواريخ أو الأنفاق، لا يُمكن لأي قدر منها أن يُعوّض القوة التكنولوجية واللوجستية لدولة نووية تدعمها قوى غربية كبرى. إن شجاعة المقاتلين في غزة أو جنوبلبنان لا تكفي لسد هذا التفاوت. ما نحتاجه هو مقاومة تستعيد زمام المبادرة الأخلاقية والسياسية؛ مقاومة تحشد قوة الرأي العام العالمي، والقانون الدولي، وشبكات التضامن العابرة للحدود. وبهذا المعنى، فإن إعادة التفكير في المقاومة تعني إعادة تركيز الفعل السياسي، بما في ذلك معالجة التناقضات الداخلية في السياسة الفلسطينية، وخاصة التشرذم بين الفصائل. ما وراء غزة: استمرارية الفكر الاستعماري إن اختزال غزة في مأساة إنسانية يُهدد بإخفاء البنية التاريخية الأعمق التي تُشكل أساسها. فالعنف الحالي ليس "حادث حرب" أو أزمة عابرة، بل هو جزء من مشروع الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي المستمر. إن حصار غزة، وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، ومصادرة الأراضي، وحرمان اللاجئين من حق العودة، كلها تتبع المنطق نفسه: تكسير الشعب الفلسطيني ونزع إنسانيته. إن إدراك هذه الاستمرارية أمر أساسي، ليس لعرقلة السعي إلى السلام، بل لترسيخه في الواقع. فأي حل سياسي يتجاهل الأسس الاستعمارية للصراع سيبقى سطحيًا. لقد فشلت أطر "عملية السلام" في العقود الثلاثة الماضية، من أوسلو إلى اتفاقيات أبراهام، تحديدًا لأنها تعاملت مع الاحتلال كمسألة أمنية بحتة بدلًا من كونه نظامًا هيكليًا لاقتلاع الناس ونزع ملكية الأرض. لذا، يجب أن يتجاوز حوار ما بعد الحرب وهم "حل الدولتين" في ظل الظروف الراهنة من الفصل العنصري والعزلة. علينا أن نتصور ترتيبات سياسية قائمة على الفضاء المشترك، والترابط، والمساواة ويمكن أن يوفر اتحاد كونفدرالي إسرائيلي فلسطيني هذا الإطار. لن ينفي الاتحاد الكونفدرالي الهويات الوطنية، بل سيخلق سيادات متداخلة، ومؤسسات مشتركة، وحرية تنقل بين شعبين مرتبطين بأرض واحدة. سينقل النقاش من التقسيم إلى التعايش، ومن الهيمنة إلى الشراكة بعد معالجة الآثار طويلة الأمد للاستعمار. قد تبدو هذه الفرضية بعيدة المنال، بل مثالية، بعد كل هذه المعاناة. ومع ذلك، فإن كل تحول سياسي يبدأ كمجهود من أعمال الخيال الأخلاقي. إن البديل استمرار الاحتلال والفصل العنصري ودوامات الانتقام غير قابل للتطبيق. وكما كتبت الفيلسوفة حنة أرندت، فإن الأمل السياسي لا يكمن في نسيان الماضي، بل في القدرة على البدء من جديد. الامتحان الأخلاقي الضروري لن يكون اليوم الذي يلي غزة يوم نصر لأحد، بل سيكون يوم حداد ومساءلة ومحاسبة أخلاقية. سينعى الفلسطينيون قتلاهم ويعيدون بناء وطنهم وسط الأنقاض. وسيتعين على الإسرائيليين مواجهة ما ارتُكب باسمهم. وستضطر الديمقراطيات الغربية إلى مواجهة تواطؤها وفراغ خطابها الأخلاقي. وسيُجبر القادة العرب على مواجهة مرآة تقاعسهم. ولكن إذا كان الغفران سينبثق من هذه الكارثة، فسيأتي من أولئك الذين يرفضون السخرية واليأس، من أولئك الذين يؤكدون أن العدالة لا يمكن تدميرها بالقنابل. سيعتمد بناء المستقبل على أصوات قادرة على حمل حقائق متعددة: أن المقاومة يجب أن تُعاد صياغتها؛ وأن السلام يتطلب المساواة؛ وأن طريق العدالة يبدأ بشجاعة الاعتراف بإخفاقاتنا الجماعية. في اليوم التالي، سينظر العالم إلى غزة ليس فقط كمكان للمعاناة، بل كمرآة تعكس الإفلاس الأخلاقي لعصرنا وربما الإمكانية الضئيلة للبدء من جديد.