طنجة.. توقيف المتورط الرئيسي في سرقة قبعة "كوتشي" بحي بئر الشعيري    "كان فوتسال السيدات" يفرح السايح    عادل الفقير    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    حكومة أخنوش تُطلق أكبر مراجعة للأجور والحماية الاجتماعية    الملك يهنئ أعضاء المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة للسيدات بمناسبة فوزه بكأس إفريقيا للأمم 2025    نواب بريطانيون عن الصحراء المغربية: مخطط الحكم الذاتي محفّز حقيقي للتنمية والاستقرار في المنطقة بأكملها    سيدات القاعة يفلتن من فخ تنزانيا في ليلة التتويج بلقب كأس إفريقيا    افتتاح فندق فاخر يعزز العرض السياحي بمدينة طنجة    ترامب يستقبل رئيس الوزراء الكندي    انطلاقة أشغال المركز الفيدرالي لتكوين لاعبي كرة القدم بالقصر الكبير    منتخب المغرب لأقل من 20 سنة يدخل غمار كاس افريقيا للأمم غدا بمصر    بهدف قاتل.. منتخب السيدات للفوتسال يتوج بلقب الكان في أول نسخة    زخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    جهة طنجة-تطوان-الحسيمة تتصدر تعيينات الأطباء المتخصصين لسنة 2025 ب97 منصباً جديداً    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    عبد النباوي: العقوبات البديلة علامة فارقة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب    الاستيلاء على سيارة شرطي وسرقة سلاحه الوظيفي على يد مخمورين يستنفر الأجهزة الأمنية    خبير صيني يحذر: مساعي الولايات المتحدة لإعادة الصناعات التحويلية إلى أراضيها قد تُفضي إلى نتائج عكسية    تجار السمك بالجملة بميناء الحسيمة ينددون بالتهميش ويطالبون بالتحقيق في تدبير عقارات الميناء    سلطات سوريا تلتزم بحماية الدروز    مأسسة الحوار وزيادة الأجور .. مطالب تجمع النقابات عشية "عيد الشغل"    القصر الكبير.. شرطي متقاعد يضع حداً لحياته داخل منزله    موتسيبي: اختيار لقجع قناعة راسخة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إدريس لشكر …لا ندين بالولاء إلا للمغرب    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    دراسة.. الأوروبيون مستعدون للتخلي عن المنتجات الأميركية    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    العراق ولا شيء آخر على الإطلاق    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منهجية الهيمنة على الخطاب السياسي.. قراءة سيميولوجية في خطابَي اليقظانية و"باك صاحبي"

نشر في الصحيفة يوم 17 - 11 - 2022

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة
1. الرئيسية
2. آراء
منهجية الهيمنة على الخطاب السياسي.. قراءة سيميولوجية في خطابَي اليقظانية و"باك صاحبي"

ناجح حسن
الأثنين 14 أبريل 2025 - 15:07
في عالمنا الحالي، حيث تحتل العولمة الإعلامية والتكنولوجية مكانة مركزية، تغيرت طرق ممارسة السياسة وتأثيرها على الرأي العام بشكل جذري. فممارسة السياسة التقليدية، المبنية على التشريع والمؤسسات و تنفيذ توجهات السلطة، أصبحت متجاوزة. ففي عصرنا هذا، أصبحت السيطرة ترتكز على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. وقد كان من الضروري للسلطة السياسية أن تغير وسائل عملها في إقناع قواعدها و محاربة منافسيها.
وفي هذا السياق، برزت ظاهرة جديدة تتمثل في السيطرة على المعاني وإعادة صياغة المصطلحات المستعملة في الخطاب السياسي عبر أساليب جديدة تجمع بين علوم المعرفة و تقنيات التواصل. وعليه، يهدف هذا المقال إلى تحليل كيفية تحول الخطابات النضالية، التي بدأت كمطالب من أجل العدالة والتحرر، إلى أدوات للسيطرة وفرض مفاهيم السلطة لخدمة أغراضها، و خصوصا، كيف أن هذا التغيير الخطابي ينم على قدوم نظام عالمي جديد يستعمل من بين آلياته الرمزية بامتياز.
آليات التحكم في اللغة والخطاب
من المعروف لدى السميائيين أن اللغة تلعب دورًا جوهريًا في تشكيل التأثير الرمزي وممارساته. فقد أبرز كل من ميشيل فوكو وبيير بورديو أن اللغة تتجاوز كونها أداة تواصل، لتصبح أداة للهيمنة، إذ يرتبط التحكم في المعاني بالحفاظ على مراكز النفوذ، بل و إحيائها بحلة جديدة. ويسمح هذا الاحتكار بإعادة تعريف المفاهيم الأساسية في المجتمعات ك"العدالة" و"الحرية" و"الهوية"، مما يوجه تصور المجتمع للواقع بشكل مباشر.
تحولات السلطة: من الفاعلية إلى الرمزية
في السياق العالمي الراهن، الذي يتسم بتشنجات الحداثة الزائفة ورمزية الليبرالية الجديدة (Neoliberal Tokenism)، يشهد العالم انتقالًا متسارعًا للسلطة من المجالات السياسية والاقتصادية إلى الفضاءات الرمزية واللغوية تماشيا مع التحولات الايديوليوجية التي تعرفها الأنظمة السياسية. فلم تعد ممارسات السياسة تُمارس فقط عبر المؤسسات و خطاباتها المألوفة، بل أضحت تتحقق عبر احتكار المعنى وإعادة صياغة المفاهيم لبرمجة الجماهير. وهو ما يعتبر تحول في الرأسمال الرمزي.
ويستحضرهذا التحول تشبيه أفلاطون لقيادة البشر بتوجيه سفينة بلا إرادة عبر الدفّة (Gouvernail). مما يرسخ ممارسات الحكامة حسب نموذج النظام العالمي الجيد الذي يتسم بتجادبية قطبية واضحة المعالم.
أما فيما يخص المغرب، فالملاحظ أن النسيج الشعبي أو الشارع أصبح حقلا يعرف ممارسات غريبة عن مجتمعنا و قيمه. إذ بات من المعتاد أن تنظم وقفات احتجاجية بسبب قضايا بعيدة عن واقعنا، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مليئة بظواهر اجتماعية لا تمت بصلة مع ثقافتنا، ناهيك عن تبني رموزا في اللباس و الأكل و اللغات الأجنبية. و كل هذا يدل على أن المجتمع المغربي أصبح أرضا خصبة تزرع فيها نواة الظواهر الخاصة بمجتمعات ذات ثقافات مختلفة لتحويل النسيج الاجتماعي و ذلك عبر تدوير الخطاب السائد و تحويله إلى إلية سياسية و من ورائها أهداف مبطنة.
في عالم تزداد فيه الكلمات استهلاكًا وتفرغ من معانيها، لم يعد الصراع سياسيًا فحسب، بل أصبح لغويًا بالأساس.
فمن يملك القدرة على تعريف الكلمات، يملك القدرة على توجيه العقول.
حاليا، و من خلال تتبع ما يجري في الشارع المغربي، يبدو أنه يواجه معركة مزدوجة: معركة ضد السيطرة الرمزية التي تُحوِّل رموز الاحتجاج إلى شعارات استهلاكية، ومعركة من أجل إعادة وصل الكلمة بالفعل، بحيث تستعيد اللغة دورها كأداة مقاومة لا وسيلة تطبيع.
وعليه فإن اليقظانية في الغرب و"باك صاحبي" في المغرب مثالان واضحان لصرخات تحررية اختُطفت، وعُبث بها حتى أصبحت أدوات تُعيد إنتاج الأعطاب نفسها.
تحليل سيميولوجي لمقاربتين متباعدتين: المغرب وأمريكا
ومن خلال هذا المنظور، يكتسب تحليل الخطاب أهمية خاصة عند مقارنة تجربتين اجتماعيتين مختلفتين، إذ يتخذ تحليل الدلالات الخطابية من خلال هذه الظاهرة الحديثة صبغة سميولوجية خاصة تتعلق بمجتمعين متباينين، المغربي والأمريكي.
و قد وقع الاختيار على ظاهرة تحدث ضجة في المجتمع الأميركي و التي أصبحت حديث الساعة في الغرب و هي"اليقظانية" أو (Wokisme) ثم ظاهرة المحسوبية بالمغرب التي تجسد مثالا واقعيا لسبب عدم رضا الشارع.
وتشكل الظاهرة المغربية حوضا محتملا لاحتواء مثيليها الأمريكية و بالتالي يمكنها الانتشار و تحريف الخطاب الاحتجاجي بالشارع المغربي عن مساره الشرعي إلى سبيل لمطالب أخرى تخدم بعض الأجندات الخارجية.
وتتقاطع التجربتان المتباعدتين جغرافيا في ظاهرة خاصة بالمجتمع الأمريكي التي يطلق عليها مصطلح مستحدث و هو "اليقظانية"، وظاهرة "باك صاحبي" في المغرب التي ترمز إلى الزبونية. و إذا كانت الظاهرتان تنتميان إلى سياقين مختلفين تمامًا، لكن تحليلهما السميائي يبرز دور الخطاب في استمرارية العلاقات الاجتماعية، يكشف عن قاسمٍ مشترك واضح. فكلاهما بدأ كصرخة احتجاج، وانتهى كأداة تطبيع مع ظاهرة اجتماعية ذات وقع سياسي و سوسيو-اقتصادي، فضلا عن أن كلاهما خرج من رحم رفض وضعية معاشة، لكنهما استخدما لتبرير ما رُفض في الأصل.
اللغة، الهيمنة، والفراغ الدلالي
الأدهى في عملية إعادة توظيف الكلمات و تحريف المعاني أن الخطورة لا تكمن في اختطاف الكلمات و المعاني وإعادة توظيفها فحسب، بل في تقويض قدرتها على حمل المعنى. فمن المعروف لدى اللسانيات أنه حين تُفرَّغ اللغة من وظيفتها النقدية، يصبح من الصعب إنتاج بدائل رمزية قادرة على مساءلة الواقع. و في هذا السياق، تتجلّى أهمية إعادة تفعيل مفهوم "القدرة الأدائية للغة" " (Performativity)كما طرحته جوديث باتلر، أي قدرة الكلمات على إحداث تغييرات حقيقية في الواقع وليس فقط الاقتصار على وصفه و بالتالي إعادة استغلال التعبير كأفعال سياسية توفّر فرصة لإعادة صياغة السائد والتحرر من القيود الرمزية.
الظواهر العالمية والتجاوز الرمزي
بالنظر إلى التاريخ الثقافي للقرن العشرين، وخاصة الانتشار العالمي لحركات الستينيات "Années sixties " مثل الهيبيز"Hyppies" والراستا "Rasta "، يتبين أن الظواهر الاجتماعية والثقافية لا تبقى حكرًا على السياقات التي أنتجتها، بل تمتد عالميًا وتعيد تشكيل نفسها محليًا. من هنا تبرز أهمية تحليل التقاطعات الوظيفية بين اليقظانية الأمريكية والزبونية المغربية، رغم المسافة الجغرافية.
أهداف التحليل
يبقى المتوخى من اختيار مثال المقارنة بين ظاهرة اليقظانية والزبونية، هو رصد كيف تحوّلت كلٌّ منهما من صيغة احتجاجية ذات دلالة تحررية و نقضيه إلى أداة رمزية في خدمة السلطة. فالاستناد إلى أدوات تحليل الخطاب الثقافي و السياسي، يدق ناقوس الإنذار لبلدان كالمغرب فيما يخص إمكانية نشوء أشكال محلية جديدة من الظواهر الخطابية المستوردة. فلطالما كان المغرب منفتحا على الثقافات الأخرى وخاصة الغربية منها و التي أثرت ثقافيا في أجيال من المغاربة. وهنا يُطرح التساؤل حول قدرة مجتمعنا على تأمين السيادة على رموزه الثقافية ولغته، خارج منطق التأثير الرمزية المستوحى من الخارج.
والخطر يكمن في توفر الظروف الملائمة حاليا بالمغرب لتبلور سياقات مختلفة عن المجتمع الأمريكي و قابلة لإنتاج ظاهرة اليقظانية بصيغة مغربية عبر آليات مختلفة لاستيعاب الخطاب الاحتجاجي للشارع. كما يبقى التساؤل مطروحا حول قدرة المجتمعات على استعادة السيادة على ثقافتها ولغتها الرمزية. وبالتالي إعادة تعريف شروط الشرعية خارج منطق التحكم الدلالي مرهونا بقدرة السلطة السائدة حاليا على تحويل رموز الاحتجاج إلى أدوات للتطبيع والاستسلام.
في ظل هذه النظرة، و رغم التقاطعات البنيوية بين الظاهرتين، يتخذ تحليل الرموز الخطابية، لليقظانية و"باك صاحبي"، بُعدًا إبستمولوجيًا يتجاوز التفسير السوسيولوجي الظاهري ليرتقي إلى مساءلة العلاقة بين اللغة والسلطة، بين الرمز والمتخيل و بين التمثيل والشرعية.
لذلك، يأتي التحليل السميولوجي لدراسة كل هذه المخاطر التي تهدد بتحولات في ظواهر تحول خطاب الشعب المغربي بتبنيه مفاهيم ثقافية غربية و غريبة كما يطرح بعض السبل لإدراك مفهوم التحرر الرمزي يُعزِّز النقد الذاتي، وإعلامًا مستقِلًّا يُعيد تعريف الدلالات خارج إطار الهيمنة و الغزو الثقافي الأجنبي.
ظاهرة اليقظانية: من الوعي إلى التهمة
البداية
نشأت "اليقظانية" (Woke) كتعبير عن وعي نقدي ضد التمييز العنصري، لكنها لم تسلم من الاختطاف الخطابي. فقد عمدت التيارات المحافظة إلى إعادة تأطير المصطلح (Discursive Reframing)، مُفرغةً إياه من مضمونه التحرري، لتُحوّله إلى "تهمة" تُستخدم للنيل من الحركات التقدمية.
تم ذلك عبر ربط "اليقظانية" ب"الماركسية الثقافية" والخطر على هوية "أمريكا التقليدية"، وهو ما برز بوضوح في الخطاب السياسي لشخصيات مثل دونالد ترامب و رون دي سانتيس، الذين جعلوا من "Woke" رمزًا للفوضى المزعومة.
هذا التحريف الخطابي أضعف الحركات الاجتماعية التقدمية، وجعل لغة العدالة الاجتماعية عرضةً للتهكم والاستهزاء، مما أفرغها من قدرتها على التأثير الحقيقي في الوعي الجماعي. فضلا على هذا فقد تم استغلاله من طرف الرأسمالية في استهلاك الرموز الاحتجاجية (مثل تسويق الشركات لشعارات "Woke" لتحسين صورتها)، إضافة إلى ترويجه في الخطابات الانتخابية حتى ظل شبيها بالعلامة التجارية.
تطور الظاهرة
مع مرور الوقت، تم تحريف مصطلح "مستيقظ" وتوجيهه لأغراض أخرى بعيدة عن إطاره أصلي. فمن خلال القوى المحافظة في الولايات المتحدة، تم تحويل مصطلح "woke" إلى صفة سلبية تُستخدم لمهاجمة كل ما هو تقدمي. وبذلك، أصبح مصطلح "اليقظانية" مرادفًا للتهجم على القيم التقدمية، ومهديًا لمهاجمة الهوية الأمريكية التقليدية، إذ تحولت اليقظانية من حركة مناهضة للعنصرية إلى مصطلح مُسيّس يُستخدم لوصم الخصوم.
وهنا تكمن منهجية إعادة التأطير الخطابي بغض النظر عن تراكماته الرمزية التي لم يَسلم من التحوير "Discursive Reframing" و الذي مارسته التيارات المحافظة، إذ حوّلته إلى أداة للوصم والشيطنة، وربطته بخطابات الماركسية الثقافية مع اتهامها بتهديد ما يعتبره الجمهوريون ثوابت لقيم بلادهم، أو ما يدعى بمبادئ أمريكا العميقة.
من جهة أخرى و وفقًا لمقاربة ميشيل فوكو، فإن اللغة كالكلمات ليست بريئة، بل هي وعاء للسلطة بجميع مفاهيمها. و من هذا المنظور، لم يكن تحول "Woke" إلى تهمة سوى نتيجة لصراع على شرعية التعريف، حيث استعادت السلطة الدلالية زمام المبادرة عبر تحريف اللغة الاحتجاجية ذاتها.
التلاعب الخطابي والتحول إلى أداة للسلطة السائدة
تحولت "اليقظانية" من خطاب احتجاجي يعبر عن العدالة الاجتماعية و الحريات الفردية إلى أداة تستخدم لتبرير ممارسات السلطة القائمة. أصبح المصطلح يستخدم بشكل سلبي لتشويه الحركات التقدمية وتهميشها، ليصبح بذلك أداة للرقابة الاجتماعية بدلًا من وسيلة للتحرر.
مثال ملموس لتحول المفهوم
أحد أبرز الأمثلة هو كيفية استخدام "اليقظانية" من قبل شخصيات سياسية مثل الرئيس الأمريكي الحالي و اليمين الأوربي، حيث تم تحويل المصطلح إلى أداة لهجوم ضد المناهضين لسياساتهم، وتحويله إلى رمز للفوضى و"الماركسية الثقافية" التي تهدد الهوية.
والنتيجة أنه لم تعد اللغة أداة تحرر، بل أداة تكميم و أدلجة. والعدالة لم تعد مطلبًا، بل شعارًا يُسخَّف. بهذا، تحوّل النضال الخطابي إلى جريمة رمزية. بل و يذهب الجمهوريون إلى وصف اليقظانيين بأعداء أمريكا الحقيقية.
واللافت للنظر أن صراع المحافظين ضد اليقظانية، لم تعد فقط معركة أفكار و مفاهيم، بل أصبحت صراعًا على المعنى ذاته.
و بالتالي تطرح تلقائيا بعض التساؤلات المنطقية:
من يملك حقّ تعريف العدالة بالمجتمع؟
هل يعيش المواطن في عصور الرموز المُفرغة؟
ومن يحق له أن يتحدث باسم الهوية؟
ففي الولايات المتحدة، تحولت اللغة إلى ميدان صراع، و باسم "الواقعية" تُعاد صياغة النضال بلغة السلطة الحاكمة نفسها. فالديمقراطيون يستعملون اليقظانية للتعبير عن حقوق الإنسان و الحريات الفردية، بيد أن الجمهوريين يستخدمونها كتهمة موجهة لمنافسيهم للدفاع عن القيم الطبيعية الكونية. و قد تحول هذا التنافس الخطابي بين أقوى حزبين أمريكيين إلى صراع إيديولوجي ، إذ أضحى الإفراط في الدعاية نموذجا للهوة بين قناعات المجتمع الأمريكي التي تبدو منقسمة حاليا.
في ظل هذه الدينامية، تطرح تساؤلات مشروعة حول مصير الحركات الاجتماعية: إذا كانت السلطة قادرة على خطف اللغة وإعادة بناءها، فهل تستطيع المجتمعات المقاومة استعادة قدرتها على صياغة معنى جديد للعدالة والحرية؟
ظاهرة باك صاحبي: من السخرية إلى العرف.
بعد التطرق إلى حالة 'اليقظانية' في السياق الأمريكي، فلنظر إلى السياق المغربي لتحليل ظاهرة موازية وهي 'باك صاحبي'.
نشأة الظاهرة
يشير مصطلح "باك صاحبي" في اللهجة العامية المغربية إلى ظاهرة المحسوبية والوساطة. وقد استُخدم في البداية كأداة نقد اجتماعي لظواهر الزبونية في التوظيف والتعيينات الإدارية.
من منظور فينومينولوجي، تعني عبارة "باك صاحبي" (أي "والدك صديقي") المحسوبية بطريقة ساخرة. اكتسب هذا التعبير طابع السخرية الاجتماعية، وأصبح وسيلة غير مباشرة للاحتجاج على العلاقات الزبونية. ومع مرور الوقت، تبنّاه المغاربة بشكل واسع لوصف ظاهرة اجتماعية-اقتصادية وسياسية ارتبطت بالمنظومة الإدارية، إلى أن أصبح جزءًا لا يتجزأ من العادات والممارسات اليومية. والمفارقة أن هذا السلوك الذي يفترض أن يكون معارضًا تحوّل إلى ممارسة مقبولة ومشروعة اجتماعيًا.
علاوة على ذلك، يُعزى هذا التقبل إلى الثقافة المغربية العريقة التي تدمج السخرية والنكتة كآليتين للإنكار الضمني أمام العجز الجماعي عن التغيير. يتجلى ذلك بوضوح في كثرة الأمثال الشعبية التي تعبر عن استسلام العامة بالسخرية، مثل: «إيلا ما قدّيتش عليه، ضحك عليه»، و«كثرة الهم تضحّك»، و«عندو عمّتو فالعرس» إلخ.
في الواقع، تطورت نكتة "باك صاحبي"، التي نشأت من قلب التجربة اليومية المغربية، إلى خطاب شعبي يكشف آفات المحسوبية والزبونية والرشوة، ويفضح شبكات المصالح الممتدة عبر الأوساط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولم تقتصر على التنديد بالتوظيف عبر التوصيات (الكوطا)، بل أصبحت رمزًا ساخرًا لآليات التعيينات العشوائية والعلاقات المشبوهة.
لم تنبع عبارة "باك صاحبي" من نضال نخبوي منظم، بل من التجربة الشعبية العفوية، كصرخة ساخرة ضد آفة متجذرة. غير أن هذه السخرية، بدل أن تهزّ النظام القائم، تحولت تدريجيًا إلى عرف اجتماعي، أشبه بعقد غير مكتوب لإدارة الشأن العام. لم تعد مجرد عبارة دارجة، بل أصبحت أشبه "بحمض نووي" يوجّه القرارات، يقلب معايير الجدارة، ويمنح الشرعية للولاءات على حساب الكفاءات.
تحول الظاهرة إلى عرف اجتماعي
ومع مرور الوقت، تحول "باك صاحبي" من نقد اجتماعي حاد إلى نوع من "القبول الاجتماعي" للممارسات التي كان يُفترض أن تكون مرفوضة. أصبح المصطلح جزءًا من الثقافة اليومية، حيث أصبح يشير إلى ممارسات المحسوبية والتعيينات غير العادلة التي تُعتبر من المحظورات عند المواطن المغربي.
الثقافة المغربية و قبول السائد
تُظهر الثقافة المغربية، التي تتسم باستخدام السخرية والنكتة كأداة اجتماعية للنقض، كيف أن هذا النوع من التعبير يمكن أن يُسهم في تقبُّل الظواهر السلبية بدلًا من محاربتها. وهذا يوضح كيف يمكن لظاهرة اجتماعية سلبية أن تتحول إلى عرف متداول يُعتبر جزءًا من الواقع.
ومن جهةٍ أخرى، يواجه الخطاب المغربي تحديًّا مشابهًا للسياق الغربي، وإن اختلفت أدواته. فمن قلب المعاناة اليومية، انبثقت عبارة 'باك صاحبي' كصرخةٍ ساخرةٍ من الشارع والمقاهي ومواقع التواصل. إلا أن هذه العبارة، التي ولدت كنقدٍ لاذعٍ للمحسوبية، تحوَّلت تدريجيًّا إلى عرفٍ اجتماعيٍّ يُبرِّر الفساد بدل فضحه.
ولكن الإشكالية لا تكمن في العبارة بحد ذاتها، بل في المنظومة التي جعلت منها مرآة للواقع. أصبحت "باك صاحبي" بمثابة دستور غير مكتوب يحكم التوظيف، والترقية، والخدمات، والفرص. وصار من لا يملك "واسطة" هو المستهدف، لا من يستخدمها.
مثال ملموس
من الأمثلة الواضحة على ذلك نجد أن عبارة "باك صاحبي" أصبحت تُستخدم بشكل شائع لتبرير تعيينات غير قائمة على الكفاءة في العديد من المجالات الحكومية والخاصة إذ أضحت عبارة "باك صاحبي" نظامًا رمزيًا يُمارَس بمرونة وبدون خجل، تتقاطع فيه الدولة الرسمية والدولة الموازية، وتُقدَّم فيه إصلاحات تجميلية (كالرقمنة أو الاستحقاق بالكفاءة أو إدماج وجوه من الأقليات) كأدوات تسويقية، دون أن تُمسّ أعطاب السلطة في العمق.
وفي ظل هذا التحول، يبرز تساؤل عميق : كيف يمكن للثقافة الشعبية أن تستعيد دورها كوسيلة نقدية بناءة بدل أن تتحول إلى أداة تبرير للواقع المختل؟
تشابه مسار الظاهرتين: من الاحتجاج إلى القبول تم التحول
للوهلة الأولى، قد يبدو أنه لا علاقة بين "اليقظانية" في الولايات المتحدة و"باك صاحبي" في المغرب؛ فالأولى نشأت في الجامعات الأمريكية كحركة وعي ضد العنصرية، والثانية وُلدت من الشارع المغربي للسخرية من الزبونية والمحسوبية.
لكن عند التمعن، يظهر أن المسارين يحملان منطقًا مشتركًا.
فكلا الخطابين تم احتواؤهما من قِبل الأنظمة التي كانا يناهضانها. في الولايات المتحدة، تحوّلت "اليقظانية" من صرخة تحرر إلى تهمة يستخدمها المحافظون لتشويه الحركات التقدمية، حتى أصبحت رمزًا للانقسام والسخرية.
ومن ناحية أخرى خرجت عبارة "باك صاحبي" من رحم السخرية الشعبية لتتحول تدريجيًا إلى عرف اجتماعي يُبرر الفساد بدل فضحه. إلا أنه في كلا الحالتين، أُفرغ الخطاب من قوته النقدي، كما تحولت اللغة من أداة مقاومة إلى وسيلة تطبيع. فلم يعد وصف شخص بأنه "واعي" مدعاة للفخر، ولا التلميح إلى "باك صاحبي" مدعاة للغضب، بل أصبح كلاهما جزءًا من المشهد المألوف. و هنا يستوجب التوقف لإبراز الإشكالية الكبر التي تتجسد في عملية ترويض الخطاب بتحويل كلمات الرفض إلى رموز خاضعة للسلطة السائدة.
التشابه في الآليات الرمزية
رغم الاختلاف الجذري في السياقين اللذين ولد فيهما كل من "اليقظانية" و"باك صاحبي"، فإن الآليات الرمزية التي تحكم تطور الظاهرتين تتشابه، حيث نشأت الأولى من رحم نضال منظّم و واعٍ ضد العنصرية في مجتمع ديمقراطي متقدّم، بينما انبثقت الثانية من وجدان شعبي ساخر من ممارسات مزمنة غير مرضية . إلا أن كلا الخطابين يخضعان لمنطق رمزي مماثل، يتمثل في آلية التحييد الخطابي (Neutralisation discursive) التي تقوم على تحويل اللغة من أداة نقد وتفكيك إلى وعاء لتبرير ما كان يفترض أن تُعارِضه.
ومن أجه التشابه أيضا، أنه بينما تُختَطَف اللغة في الغرب، يواجه الخطاب المغربي تحديًا مشابهًا عبر ظاهرة "باك صاحبي".
الاختلاف في السياقات الثقافية
هذا التقاطع لا ينبع من تشابه في الدلالة أو في الأهداف الأصلية، بل من وحدة في آليات السلطة الدلالية، التي تسعى إلى استيعاب الخطاب المزعج، وتدجينه داخل منظومة المعاني السائدة، إما عبر تحويله إلى تهمة كما في حال "Woke"، أو إلى نكتة مستهلكة كما في حالة "باك صاحبي".
إذ تكمن المفارقة في أن كلا الخطابين، رغم أصولهما المتباينة، يتم تحييدهما من خلال آلية واحدة: تحويل اللغة من أداة نقدية إلى أداة تبريرية. ف"اليقظانية"، التي كانت تُحمَّل يومًا طاقة تحررية، تُختزل اليوم في الخطاب الغربي إلى "تهمة" جاهزة تُستخدم لقمع الاختلاف. وبالمقابل، يُختزل "باك صاحبي" الذي بدأ كصرخة ضد المحسبوية إلى مجرد نكتة مُستهلكة، تفقد تدريجيًّا قدرتها على التفكيك. و الغريب أن استعمالها في السياق الأمريكي يتجاوز مفهوم التفكيك المزدوج أو الثنائية الدلالية لفردنو دو سوسير. (Double articulation).
إلا أن هذا التشابه المصيري لا يعكس تقاربًا في الأهداف، بل يكشف عن دينامية السلطة الرمزية وقدرتها على استيعاب الخطابات المزعجة. فالسُّلطة، و بالتالي، سواءً في النموذج الليبرالي أو في السياقات الشعبية، تعمل السلطة على إعادة هندسة الرموز الثائرة عبر مرحلتين رئيسيتين: أولا، التقاط الخطاب عبر بناء مؤسساتي منظم، ثم ثانياً، تفريغه من مضمونه النقدي وتحويله إلى أداة للتطبيع.
وهكذا، يصبح الاختلاف في الأصل الاجتماعي للخطاب (نخبويًّا أم شعبيًّا) مجرد تفصيل ثانوي أمام آليات السُّلطة التي تعمل كمصفاة رمزية (Filtre symbolique)، قادرة على تحويل أي تمرد لغوي إلى جزء من نظام التحكم ذاته.
كما أنه في زمنٍ تتحوَّل فيه الرموز إلى عُملةٍ نادرة تُدار من خلف شاشات الهيمنة، تبرز هذه الفلترة كآليةٍ خفية تُعيد تدوير الخطابات الاحتجاجية إلى وقودٍ لديمومة النظام. فكما تُنقِّي المصفاة المادية الشوائب لتبقي على الجوهر، تعمل "المصفاة الرمزية" على تطهير الخطابات الثورية من شوائب التمرد، لتصبح جزءًا من النسق المهيمن. هذا التحوُّل لا يقتصر على جغرافيا أو ثقافة واحدة، بل يمتد ليشمل ظواهر مثل "اليقظانية" في الغرب و"باك صاحبي" في المغرب، حيث تُختزل اللغة من أداة تفكيك إلى وسيلة تبرير. فهل أصبحت الرموز مجرد غبار يمر عبر آلية إعادة الإنتاج الرمزي تستعملها السلطة، أم أن بإمكانها أن تشق طريقًا للتحرر؟
وبالاهتمام بهاته المصفاة، يمكن رصد التحول في الخطاب المحافظ الذي حول الظاهرة الأمريكية إلى تهمةٍ فارغة من مضمونها تُستخدم لقمع الاختلاف. فلم يعد "Woke" تعبيرًا عن العدالة، بل تحوَّل إلى شبح "الماركسية الثقافية" الذي يُهَدِّد الهوية الأمريكية. و هكذا تنجح آلية التحييد في تأطير الخطاب الاحتجاجي، ليبقى مجرد وَسْمٍ يُبرر استمرار النظام.
وكذلك في المغرب، تحولت عبارة "باك صاحبي" من نقدٍ لاذع إلى نكتةٍ مُستهلكة، تُمارس كطقسٍ يومي يسخر من الممارسات الغير العادلة بدل محاربتها. هنا تظهر المصفاة في أقسى تجلياتها: فهي لا تكتفي بالاحتكار على الدلالات الخطابية، بل تحوِّلها إلى أداةٍ لتكريس الأعطاب ذاتها و لكن بمدلول أخر منحرف عن سياقه الأصلي.
إلا أنه ورغم اختلاف السياقات، يُمكن رصد نقاط جوهرية لتقاطع الظاهرتين على صعيد أمريكا أو المغرب:
اختطاف اللغة: سواء في أمريكا أو في المغرب، تمّت إعادة هندسة رموز الخطاب الاحتجاجي لتُخدم النظام القائم. ففي الحالة الأولى، تم تشويه مصطلحات الدالة عن العدالة لتصبح كشعارات تجارية. وفي الثانية، تُفرغ السخرية من بعدها الاحتجاجي.
الهيمنة الرمزية: يشكل كلا التعبيرين حالة نموذجية ل"العنف الرمزي" الذي تحدث عنه بورديو، حيث تُمارس السيطرة من خلال اللغة دون الحاجة إلى القسر المباشر.
إعادة إنتاج الأعطاب: ينتقل الخطاب من كونه أداة للتفكيك إلى وسيلة لإعادة ترسيخ المأزق نفسه، إما عبر الوصم (Woke) أو عبر التهكم "باك صاحبي".
التوظيف الإعلامي والمؤسساتي: تستثمر النخب الحاكمة في كلا السياقين الرموز الخطابية لإعادة تشكيل المشهد، سواء عبر التعيينات الرمزية أو خطاب التعددية السطحية، دون تغيير فعلي في توزيع القوة.
التطبيع مع العطب: تحوّلت "Woke" إلى تهمة، و"باك صاحبي" إلى مزحة مقبولة رغم أن الظاهرة المغربية ليست منظمة على عكس الاميريكية. وفي الحالتين، نجحت السلطة السائدة في إنتاج وعي زائف يجعل المواطن جزءًا من إنتاج أعطابٍ هو نفسه ضحيتها.
الواجهة بدل العمق: يُستَثمر التنوع كصورة في الغرب، كما يُوظَّف في المغرب كواجهة للحداثة. لكن الواقع يظل أسير شبكات النفوذ، واستمرار البنى الهرمية المغلقة.
تلتقي "اليقظانية" و"باك صاحبي" في نقطة حرجة: كلاهما تحول من لغة رفض إلى خطاب يرسّخ المأساة. ففي أمريكا، تُحوَّل لغة الوعي إلى فزّاعة. وفي المغرب، تُفرغ السخرية من مضمونها وتُستهلك كوسيلة تكيّف.
الاستغلال المفرط للمصفاة الرمزية.
ومن هذا المنطلق يطرح السؤال : من يستعيد المعنى ومن يملك حق التأويل؟
إذا كانت السلطة كيف ما كانت، سياسية، اجتماعية أو مالية أو اقتصادية، قادرة على اختطاف اللغة، فهل نملك القدرة على استعادتها؟ ليس المطلوب فقط مقاومة الشعارات، بل تفكيك البُنى التي تفرزها، وتعيد إنتاجها. وحده مشروع تحرري يربط بين الخطاب والفعل، بين العدالة والمعنى، يمكنه أن يُنقذ الرموز من مصير السخرية أو الشيطنة.
فإذا كان الخطاب قد تحوّل إلى أداة هيمنة، فإن التحرر لا يكمن فقط في "استعادة المعنى"، بل في إعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة على أساس الحق والكفاءة، لا الولاء والانتماء الطبقي أو العرقي. المطلوب اليوم ليس فقط تفكيك المفاهيم المختطفة، بل تحرير المؤسسات والإعلام والخيال الجماعي من قيود الخطاب المسيطر.
الخلاصة:
بين الكلمة والفعل: معركة استعادة السيادة الرمزية في خطاب الشعوب
في خضم الجدل المتواصل حول قدرة المجتمعات على استرجاع سيادتها الرمزية، تتجلى حقيقة دامغة مفادها أن الحل يكمن في بلورة مشروع ثقافي بديل، يُعيد وصل الكلمة بالفعل، ويتحمل المثقفون عبر العالم مسؤولية قيادته. ومن هنا ينبثق سؤال جوهري: كيف يمكن، على المستويين الفردي والمؤسسي، إعادة تأهيل اللغة لتغدو أداة تحرر، لا وسيلة تطويع وتطبيع؟
فالإشكاليات التي تتمثل في اليقظانية ضمن السياق الغربي، و"باك صاحبي" في السياق المغربي، ليست مجرد انعكاسات لأزمات اجتماعية أو صراعات هوياتية وعدلية؛ بل هي في جوهرها تعبير عن صراع أعمق يتمحور حول التحكم على المعنى. في عصر يُعاد فيه تشكيل الرموز وتسويقها كسلع ثقافية جاهزة، يبرز سؤال ملحّ: هل لا تزال اللغة قادرة على أن تكون أداة تحرر، أم أنها أُخضعت لتصبح أداة تبرير وتطبيع؟
اللغة كساحة صراع
في عالم تديره خطابات معقدة ومموّهة معدلة من طرف الذكاء الاصطناعي، لم يعد حسن النية كافياً. بل أضحت القراءة النقدية للخطاب ضرورة قصوى. إذ إن الصراع لم يعد مقتصراً على المؤسسات فحسب، بل امتد ليشمل الكلمات ذاتها، والرموز التي تشكّل الوعي الجمعي. هكذا أضحت اللغة ميداناً لصراعات رمزية، لا تقل ضراوة عن النزاعات المادية.
فالسؤال لم يعد لغويًا بحتًا، بل سياسيًا بالأساس: من يُعرّف الحق، و من يحدّد القيمة ومن يحتكر شرعية السخرية؟ هذه التساؤلات تقودنا إلى إدراك أن استعادة السيادة الرمزية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر مشروع ثقافي بديل يعيد للكلمة مكانتها كأداة تغيير وليست وسيلة تزييف.
ملامح المشروع الثقافي البديل
إن بلورة هذا المشروع تقتضي تحولات هيكلية عميقة، من أبرزها:
تفكيك البنى المنتجة للسيطرة الرمزية التي تُفرغ الخطاب من مضمونه الحقيقي؛
تحرير المؤسسات من منطق الولاء الشخصي والزبونية؛
تأسيس إعلام نقدي ومستقل، قادر على مساءلة الخطاب الرسمي دون الارتهان له؛
إرساء ثقافة لغوية جديدة تُزاوج بين القول والفعل، وتُعيد الاعتبار للالتزام العملي بالكلمة.
فما لم تُصغ السلطة بلغة تستمد شرعيتها من الكفاءة وخدمة الصالح العام، ستظل الرموز أدوات تبريرية تُبقي المجتمعات أسيرة لخطابات لا يملك المواطن السيطرة على مفرداتها ولا على أفقها.
تفكيك دلالات مصفاة الهيمنة الرمزية
حين تمرر الخطابات الاحتجاجية عبر قنوات السيطرة الرمزية، تفقد قدرتها على التأثير، وتتحول إلى مجرد أصداء للنظام القائم. والحل لا يكمن في استعادة الكلمات وحدها، بل في تدمير الآلية التي تصفّي المعاني وتحول الثورات إلى نصوص قانونية تخدم السلطة.
فالسؤال الأعمق إذن ليس "من يملك الرمز؟"، بل "من يتحكم في المصفاة؟". إذ أن المعركة الحقيقية تدور حول تفكيك آليات تصفية الوعي التي تحوّل نبض الثورة إلى مداد للشرعية القائمة. وحدها هذه الخطوة كفيلة بإعادة اللغة إلى دورها الأصلي: ساحةً للصراع الحرّ، لا قيدًا للوعي.
لغة الصراع لا لغة التزييف
اللغة تظل ساحة نزاع رمزية تُصاغ من خلالها شرعية السلطة. واستعادتها كأداة تحرر تفرض إعادة وصل الكلمة بالفعل، وتفكيك المنظومات التي تحوّل الاحتجاج إلى وسيلة تطبيع، عوضًا عن كونه أداة مقاومة حقيقية.
في نهاية المطاف، القضية لا تتمحور فقط حول من يملك سلطة الكلمة، بل حول من يُمنح "حق الضحك" في مجتمع توزّع فيه الرموز والشرعيات بشكل غير متكافئ. وهنا يبرز خطر تغلغل الظاهرة اليقظانية الأمريكية إلى المغرب، واستدراج الشباب غير المحصّن لتحويلها إلى أداة في خدمة مصفاة رمزية جديدة تتبع تقنيات البرمجة اللغوية العصبية (NLP) المستخدمة في تشكيل الخطاب وسط واقع مغربي مقلق، يشهد انزياحًا عن الحياد وتزايدًا في قابلية تحويل الظاهرة الطبيعية و المشروعة للاحتجاج إلى تطبيع مع أنماط ثقافية غريبة عن روح "التمغربيت" التي يجب الحفاظ عليها و الالتحام حولها.
ويبقى الرهان الثقافي الأهم: في الوقت الراهن "أن تصنع الشعوب خطابًا يحرر، لا خطابًا يُروَّض".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.