بقلم سعيد ودغيري حسني ارتأيتَ الغوصَ في هذا الموضوع ونحن نعيش دفءَ احتفالات عيد الاستقلال كي يعرف الجيلُ الجديدُ ما جرى ولِمَ بقيت في البلاد شوارعُ تحمل اسمَ الثاني من مارس وكيف تخبئ لافتةٌ صغيرة بين حروفها سنواتٍ من الصبر ووجوهاً من الشهداء وصوتَ ملكٍ يعود من المنفى كأنه فجرٌ يسعى على قدمين بين التاريخين يمتدُّ وطن يمتدُّ مثل شجرةٍ هرمةٍ جذورها في الدم وأغصانها في العلو وحنينها معلَّقٌ بين الماضي والعودة فالثامنُ عشرُ من نونبر ليس رقماً في دفتر الأيام إنما هو نبضُ وطنٍ انشقَّ له الفجرُ يوم رجع محمد الخامس وتنهدت البيوت وانفتح قلب المغرب كباب يعود إليه صاحبه بعد طول غياب ذلك اليوم لم يكن يوماً عابراً بل كان موسماً للدموع وعيداً للرجوع وترانيمَ فرحٍ خرجت من صدورٍ اختبرت المرارة فعرفت كيف يكون طعم الحرية حين تشرق فجأة وتملأ الأزقة بالضوء عاد الملك من منفاه وفي خطوته كان صوت الأمة وفي دموعه كانت ذاكرة الجبال وفي نظرته كانت وعود الغد يومها قال للشعب إن الاستقلال قريب وكانت كلماته كحبة قمح زرعت في القلوب فأنبتت وطناً أما الثاني من مارس فهو يومُ الوثيقة اليوم الذي أنهى الحماية اليوم الذي قيل فيه عاد اسم المغرب إلى أهله كان يوماً رسمياً هادئاً يجلس فيه السياسيون على طاولة واحدة ليوقعوا نهاية حقبة طويلة لكن الوثيقة لم تحمل حرارة العودة ولا دمعة الوطن التي سالت ولا صرخة الجموع حين رأت ملكها يغادر سفينة المنفى ليدخل أبواب الرباط بين أمواج الأيدي والهتافات ولما تعاقبت الأيام وجاء الحسن الثاني إلى الحكم وكان عيد العرش آنذاك هو الثالث من مارس اقتربت التواريخ حتى تلامست الثاني للوثيقة والثالث لتولي العرش فتداخل الرسمي بالرسمي واقترب ظلٌّ من ظلّ حتى قرَّ رأي الدولة أن يبقى الاستقلال بعيداً عن ازدحام الأيام فجُعل الثامن عشر من نونبر هو عيد الاستقلال ليظلَّ اليوم مرتبطاً بلحظة الرجوع لا بحبر المعاهدات وبنبض الفرح لا بحياد الوثائق وبحرارة الوطن حين استعاد نفسه لا ببرودة التوقيع وهكذا تحولت الذاكرة إلى عيد وتحوّل العيد إلى حكاية تُروى كل سنة وكأنها تحدث الآن ومن حق الجيل الجديد أن يعرف أن الحرية لم تكن هدية ولا وعداً في ورقة بل كانت ظلمةً طويلة تلتها صرخة نور وأن الوطن لم يولد في يومين بل ولد في دهورٍ من الصبر وفي ليالٍ كان فيها المقاوم يخفي روحه في القصائد وخطاه في الليل وإيمانه في قلبه كي لا يراه الجندي ولا يسمعه الحارس ولا تطفئه الريح من حقهم أن يعرفوا أن المغرب لم يفتح باب استقلاله بل كسره كسره بإرادة الشعب وبإصرار الملك وبأحلام الفلاحين وبسواعد العمال وبدموع الأمهات اللواتي انتظرن أبناءً لم يعودوا لكن الوطن عاد بهم في كل راية تُرفع وفي كل نشيد يُنشد وفي كل ذكرى استقلال تتجدد ما بين الثاني من مارس والثامن عشر من نونبر يقف وطن بهيبته القديمة وبمستقبله الذي لا يشيخ يقف كما يقف الأطلس يقول لأبنائه إن الاستقلال ليس مناسبة بل روح تعيش في كل بيت وفي كل مدرسة وفي كل جبلٍ يعلو وفي كل شارعٍ يحمل اسماً من أسماء الكفاح ومنها شارع الثاني من مارس الذي بقي شاهداً على الوثيقة بينما بقي الثامن عشر من نونبر شاهداً على نبض القلوب هكذا تمتد القصة كقصيدة لا تنتهي كتبها المغرب بحبر الوفاء ومداد الصبر ونور العودة حتى صار الوطن كما نراه اليوم واقفاً كالنورس على حافة البحر لا يخاف الموج ولا تخيفه العواصف يحمل استقلاله كما يحمل القلب أول نبض ويعلّمه للأجيال القادمة كي تعرف أن الاستقلال ليس تاريخاً في كتاب بل هو حياة كاملة نولد بها ونكبر بها ونحيا بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.