26 سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس.. المغرب قوة إقليمية صاعدة    الملك يستقبل الجواهري.. الاقتصاد المغربي يسجل نموا بنسبة 3,8% وتراجعا في التضخم    المحكمة الابتدائية للحسيمة تُدين مروج كوكايين ب7 سنوات سجناً نافذاً وغرامة مالية    بوكوس: الأمازيغية تنال الرعاية الملكية .. والترسيم رافعة للعدالة الثقافية    السيدة سناء قدور تهنئ صاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش المجيد    الملك يستقبل لجنة الترقية العسكرية    قطعة نقدية تذكارية تخلد عيد العرش    المساعدون التقنيون بالصيدليات يواجهون شبح البطالة في ظل "أزمة التسعيرة"    الوكالة المغربية للطاقة المستدامة تطلق طلب إبداء الاهتمام بخدمات استشارية تتعلق ب"نظام تخزين الطاقة بواسطة البطاريات"    النصر السعودي يقدم جواو فيليكس    دي بوكيلي تزور "مركز الصم" بطنجة    حقيقة إصابات "حلوى الزجاج" بزايو    "الصمايم" ومرتفع صحراوي يجلبان موجة حر إلى المغرب في بداية غشت    المغرب يشارك في "بينالي البندقية"    الصويرة : محمد ملال ، الكاتب الإقليمي للحزب ، والنائب البرلماني وعضو المكتب السياسي ، يتوج مساره الأكاديمي بشهادة الدكتوراه    نهائي "كان" السيدات: احتجاج الجامعة المغربية يعجل بتغييرات تحكيمية من قبل 'الكاف"    الرجاء يستأنف تدريباته بالبيضاء بعد معسكر أكادير        تقرير أممي: كافة فلسطينيي غزة يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد    بعد ترحيله.. البقالي: الالتفاف حول سفينة "حنظلة" هو دعم للقضية الفلسطينية وكسر لحاجز الصمت    رئيس "الفيفا" يتجول في شمال المغرب ويقصد شفشاون    النيجر تستعين بالمغرب لتأسيس شركة طيران وطنية    36.7 مليار درهم حجم رقم معاملات صادرات الفوسفاط خلال 5 أشهر    سعد الله و نوس:وحده الأمل    الاستصهان: تفكيك السردية الصهيونية من موقع الفهم لا التبعية    عضة كلب ضال تودي بحياة طفل نواحي الناظور    خيتافي يعلن عن تعاقده مع اللاعب المغربي عبد الكبير عبقار حتى 2028    الدورة الرابعة لصيف طنجة الكبرى .. كرنفال استثنائي وسهرات فنية تضيء ليالي المدينة    المجموعات الصحية الترابية ركيزة من ركائز الإصلاح الحكومي الشمولي للمنظومة الصحية الوطنية    "مجموعة أكديطال" تعلن عن استحواذها على مستشفى عبد الرحمن المشاري بالسعودية    موسم جديد للأنشطة التربوية الصيفية لفائدة أبناء المفرج عنهم في قضايا التطرف والإرهاب    توظيف مبلغ مالي مهم من فائض الخزينة    المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية: المغرب بلدٌ مانح للخبرة والتضامن العلمي    سجن تولال 1 ينفي منع زيارة نزيل ويؤكد احترام الإجراءات المعتمدة    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    إسبانيا تسجل أرقام قياسية في عبور المسافرين والمركبات نحو المغرب    مسلح يقتحم برجا بنيويورك ويخلف 4 قتلى بينهم شرطي    بورصة الدار البيضاء .. أداء إيجابي في تداولات الافتتاح        لاعب سابق للمنتخب الفرنسي يحاكم في البرازيل    فليك يتخذ قرارا حاسما بشأن شتيغن    "قاتل الشياطين" يحطم الأرقام القياسية في اليابان    مات مرتين .. في وداع زياد الرحباني صمتت فيروز    هند زيادي تُشعل منصة كلميم وتواصل نجاحها ب"انسى"    بسبب مبابي.. ريال مدريد يخطط لبيع فينيسيوس        متى ينبغي إجراء الفحوص الدورية على العينين؟    استخدام الهاتف في سن مبكرة يهدد الصحة العقلية    مصرع 30 شخصاً وإجلاء عشرات الآلاف في بكين بسبب أمطار غزيرة    هولندا تستدعي السفير الإسرائيلي وتفرض حظرا على دخول سموتريتش وبن غفير        تطوان تحتفي بحافظات للقرآن الكريم    المال والسياسة: زواج المصلحة أو طلاق القيم    ما علاقة السكري من النوع الثاني بالكبد الدهني؟        على ‬بعد ‬أمتار ‬من ‬المسجد ‬النبوي‮…‬ خيال ‬يشتغل ‬على ‬المدينة ‬الأولى‮!‬    الوصول إلى مطار المدينة المنورة‮:‬‮ على متن طائر عملاق مثل منام ابن بطوطة!    اكتشافات أثرية غير مسبوقة بسجلماسة تكشف عن 10 قرون من تاريخ المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إلى أي حد كان محمد شكري ريفيا
نشر في ناظور سيتي يوم 19 - 03 - 2010

في بداية التسعينات استضافت جمعية إلماس الثقافية الحديثة النشأة ، الكاتب الريفي الكبير محمد شكري ، الحدث الثقافي كان آنذاك حدثا استثنائيا بكل المقاييس في مدينة الناظور ، وذو أبعاد خاصة جدا لعل أهمها أن الكاتب الراحل ينتمي لمنطقة الريف ، وأنه يزور المدينة لأول مرة )على الأقل زيارة تكتسي بعدا ثقافيا ، منذ أن هاجر مسقط رأسه بني شيكر وهو طفل صغير رفقة أسرته في فترة عرفت بعام الجوع والقحط الشديد الذي ضرب المنطقة ( . كغيري من المهتمين بالشأن الثقافي في ذلك الزمن وأنا في مراهقتي الفكرية والعمرية أخذت مكاني ضمن رواد القاعة التي امتلأت عن آخرها بالجمهور المتعطش للاستماع لهذا الرجل الذي بدا قصيرا ونحيفا قليلا ، وشعره مرصع بخصلات كثيرة بيضاء رمادية ، و بأنفه المعقوف الذي يوحي بنبوغ وتميز ينفرد بهما عن غيره من الناس .
كان الرجل وهو يجلس فوق المنصة يفرض هيبة وقوة شخصية على كل القاعة التي اكتظت عن آخرها بقرائه ومحبي إبداعاته المتميزة وصحفيو المنطقة ونخبها الفكرية والثقافية .
بدأ محمد شكري بعد أن قدمه أحد المنشطين للجمهور تقديما يليق به وبمكانته الأدبية على الساحة العربية والدولية ، بدأ بقراءة ، حسبما أتذكر فصلين أو ثلاثة فصول من روايته العالمية الخبز الحافي ، طبعا وردت في بداية الرواية بعض الجمل في نسق حواري مكتوبة باللهجة الريفية . وبدا جليا نطقه الفصيح لهذه الجمل رغم إقامته الطويلة بطنجة ، ورغم عدم احتكاكه أو زيارته لمنطقة الريف منذ ذلك العهد
القديم .
في الأخير فسح المجال لمن يرغب في طرح أسئلة على الكاتب الكبير ، كان من الطبيعي أن تصب جل الأسئلة في الجانب النظري والنقدي لكتابة محمد شكري ، لكن شخصا ما خرج عن القاعدة ليطرح سؤالا مباغتا على كاتبنا العظيم ، كان السؤال على الشكل التالي :
_ أنت محمد شكري الكاتب الذي ولد بالريف ، هل تعتبر نفسك كاتبا ريفيا ؟
أطبق بعض الصمت على القاعة في انتظار جواب بالنسبة للبعض جوابا سيكون حاسما وربما رسم موقفا أيديولوجيا من الكاتب محمد شكري . لم يتأخر طويلا هذا الأخير في الرد بسرعة بديهته المعهودة وجرأته التي تتجلى في حياته اليومية كما في كتاباته المختلفة الكثيفة بمضامينها التي تخرق المألوف وتتعداه لتصف أجواء كانت آنذاك من الطابوهات في الكتابة العربية ، وربما لا تزال حتى الآن كذلك ، أجاب محمد شكري :
_ صحيح أنا من جذور ريفية أمازيغية ، لكنني أعتبر نفسي كاتبا طنجاويا .
جواب قصير وذكي ويحمل في طياته العديد من الدلالات ، تحدث الكاتب من منطلق المبدع الذي يلغي في حساباته كل الخلفيات ، الا الخلفية التي تفرز الإبداع ، وبما أنه نشأ في طنجة وترعرع فيها وتسكع في فظاءات السوق الداخل وكاسا باراتا ومقهى الحافة ، وتشرب من الثراء والغنى في التجارب التي راكمها هناك ، فلا يمكن لهويته الثقافية الا أن تفرز هوية طنجوية الطبع و الطبيعة . هو يعرف ، والذي طرح السؤال يعرف بأنه ينحدر من جذور ريفية ، بل أن محمد شكري نفسه يعتز بذلك أيضا ، لقد صرح لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 29 يناير سنة 2003) أنني أمازيغي ولست ضد ترجمة أعمالي الى الأمازيغية ( الكل يعرف ذلك ، لكن السائل كان يبحث بصيغة ملتوية عن البحث في فكر الكاتب محمد شكري عن أي إشارة تورطه في مساحة معينة من النتاج الإبداعي الذي ينبغي أن ينتصر لتصور معين ومختلف ، لا ينتمي على كل حال الا لجهة معينة من البلد ، ولكن محمد شكري اختار أن ينتصر لقيم الإنسانية في شموليتها وأبعادها الواسعة ، وهو ما تحقق للكاتب الذي ترجمت إبداعاته لأكثر من ثلاثين لغة عالمية .
هذا هو الفرق بين عامة الناس الذين يملكون أفقا ضيقا ، وبين الأشخاص المبدعين الذين لا تسعهم المناطق الضيقة ، المناطق المنغلقة على نفسها . محمد شكري أمازيغي ريفي الجذور ، لم ينكر ذلك ، ولا يستطيع أحد أن يزايد عليه في ذلك ، لكن مجاله الحقيقي كان مدينة طنجة ، حيث المدينة منفتحة على جميع الثقافات والأعراق منذ أن كانت تحت الوصاية الدولية ، ووصولا الى جعلها مزارا ومستقرا دائما من قبل ثلة من كبار الكتاب العالميين على رأسهم بول بولز وجان جيني وغيرهم كثير .
في الكتاب الأخير للكاتب الراحل محمد شكري الذي هو في الحقيقة استمرارا لسيرته الذاتية الخبز الحافي المعنون ب )وجوه (نقرأ في أحد فصول الكتاب حديثه عن تلك الدعوة التي تلقاها من جمعية إلماس الثقافية ، ويورد الكاتب الراحل كيف أن بعض أعضاء الجمعية قادوه الى بني شيكر ، وبالخصوص الى القرية التي ولد فيها وخربة المنزل العتيق الذي كان مرتعا لشقاوة وبؤس طفولته المبكرة . يوضح الكاتب محمد شكري في هذا الفصل بما لا يدع مجالا للشك وبموضوعية وصراحة تامة سخريته من هؤلاء الذين قادوه الى ذلك المكان الذي عبر بخط يده أنه لا يشعر نحوه بأية رابطة كيفما كان نوعها ، الذين قرؤوا رواية وجوه سيقفون على هذه الحقيقة المدونة في الكتاب .
علينا أن نقرأ جيدا موقف محمد شكري الريفي الأمازيغي جيدا ، انه ليس من الغباء ليعلن عن موقف قد لا يعجب شريحة جد ضئيلة من منطقة الريف ، وليس من الغباء أن يلجأ الى النفاق والمداهنة من أجل أن يكسب ود هذه الشريحة . الكاتب الحقيقي ، أي كاتب كان ، ينبغي أن تكون له قضية كبيرة يدافع عنها بشراسة . محمد شكري دافع عن المهمشين الذين يستوطنون حالة الغياب في مجال عنيف لا يعترف الا بسلطة المال والنفوذ والمحسوبية ، بل وتوغل في أعماق المجتمع ليصور لنا عالم النشالين والمتسولين وسوق الرقيق الأبيض والشواذ جنسيا وأجواء الحانات الرخيصة الليلية وغير ذلك من المظاهر التي تنخر الجسد المغربي برمته ، سواء في الريف أو الأطلس أو الدار البيضاء أو غيرها من مناطق البلاد . وبالتالي جعل الأمر قضية تشغل الضمير الإنساني الحي الذي يرفض الظلم وعدم المساواة وهضم حقوق المرأة والأطفال وغير ذلك من الأمثلة التي تثير مشاعر المجتمعات أيا كانت وفي أي بلد تواجدت . وفي هذا الإطار صرح لجريدة البايس الاسبانية بتاريخ 15 أكتوبر 2002) أنا ملتزم اجتماعيا: وأميل إلي الدفاع عن الطبقات المهمشة والمنسية والمسحوقة. أنا لست إسبارتاكوس! ، لكني أعتقد أن الناس جميعا لديهم كرامة يلزم احترامها، بالرغم من عدم حصولهم علي فرص في الحياة (
محمد شكري انخرط في هذا المسار ، لم يحاول أن ينضوي تحت لواء فئوية ضيقة تخنق أدبه وكتابته هو أولا ، وبالتالي تخنق أصحابها ، ببساطة لأنها قضية خاسرة بالأساس .
لا أحد بمقدوره أن يعاتب الرجل ، لأن محمد شكري يؤمن بحرية التعبير ، وقد مارسها بأقصى وفي أقسى صورها ، لذلك يحق أيضا لمنتقديه أن يجلدوا أفكاره بالطريقة التي يرون أنها مناسبة . قد يتساءلون باستنكار : لماذا لم يقحم قضايا ريفنا في صميم أعماله الأدبية ؟ ولكن السؤال الآخر الذي يقابل هذا السؤال ، هو هل قضايا الريف تختلف عن قضايا الكثير من الجهات في المغرب ؟ كلنا نعرف الحيف الذي كانت تعرفه بعض المدن والمناطق في جنوب المغرب وفي شرقه ، ساكنة الهامش في الدار البيضاء نفسها لا تقل همومها ومعاناتها عن ساكنة الريف ، بل تفوقها بكثير . نعتز أن ريفنا ضل مع كل شيء بمنأى نسبي عن العوز والفاقة . ولذلك عدة أسباب ليس هنا مجال ذكرها على أية حال .
يبقى أن نذكر أن الرجل الأول والعظيم الذي ناضل من أجل تحرير البلاد من نير الاحتلال الإسباني ، المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي هو المعلمة الأولى والخالدة التي لن تنمحي من تاريخ الريف أبدا ، الرجل الذي كان ملهما لحركات التحرير في كل العالم ، الرجل الذي ابتكر حرب العصابات ، وبالتالي تبناها هوشي مينه في الفيتنام . بينما الرجل الثاني الذي يحق لنا أن نفخر به في الريف ، الرجل المبدع الأديب صاحب رواية الخبز الحافي ، الرجل الذي أخرج من قاع مجتمع طنجة ، ومن قاع جميع المجتمعات العالمية المهمشة أمثلة صارخة من الذل والهوان الذي تعانيه فصيلة بشرية تعامل من قبل فئة محظوظة باستصغار واحتقار لا مثيل له ، الكاتب الذي كان أول كاتب ينتمي لخريطة الوطن العربي يصل الى العالمية ، قبل نجيب محفوظ ، وقبل الطاهر بنجلون ، وقبل أمين معلوف ، ألا يحق لنا أن نفخر بهذا الريفي العظيم ونعتز به الاعتزاز الذي يليق به ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.