في زمن تُختزل فيه مفاهيم الولاء والمقاومة إلى شعارات سطحية، يصبح مجرد فهم "الآخر" تهمة، ويُستبدل النقد بالتحريم، والمعرفة بالإنكار، وكأننا ننتصر بالجهل. هذا المقال ليس لمجرّد تسليط الضّوء على كنه الصهيونية كفكرة عقائديّة، بل لتفكيكها. وليس في باب التماهي مع "الآخر"، بل لفضح بنية خطابه. أسمّي هذا النهج "الاستصهان": لا بمعنى ما يمكن فهمه كتهمة، بل كاشتباك معرفي مع خطاب القوة، امتداداً لما بدأه إدوارد سعيد، ووسّعه عبد الوهاب المسيري، وسبقه إليه محمود محمد شاكر وحسين مروة، كلٌّ على طريقته. لا أذكر نقاشاً فيه أيّ اشتباك مع الصهيونية من الداخل لم يستحضر ردود فعل صاخبة أو اتهامات بالتساوق أو حتى الخيانة. ما كان يدهشني بوجه خاص ليس جاهزيّة مثل ردود الأفعال والاتهامات هذه، بل تلقائيتها. ما يُفترض أنه "تصهين" في عيون الآخرين، لم يكن في نظري إلا محاولة واعية لتفكيك رواية الآخر: كيف يبنيها؟ كيف يسردها؟ وعلى أي تراكم من النصوص، والأساطير، والحقائق المُنتقاة تتكئ؟ لكن، وفي كل مرة كنت أتفوه فيها بكلمات مثل "التوراة" أو "الهيكل" أو "داود" ضمن سياق نقدي أو سردي، كانت الردود تسبقني: "التوراة محرفة"، "الهيكل المزعوم"، "الرواية الصهيونية". كأننا نؤثر الجهل المريح على المعرفة التي تُربكنا، فقط لأنها تهزّ ما نريد أن نصدّقه. التصهين أمرٌ سهل، وهو منتشر بكثافة حولنا — بين الفلسطينيين، والعرب، وغير العرب. فغير العرب قد يتبنون الصهيونية كأيديولوجيا صريحة. أما العرب، فغالباً ما يُقبلون عليها من موقع التبعية — لا الاقتناع — مدفوعين بعُقد نقصٍ ثقافية وهوياتية اخترقت الوجدان العربي منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية. وهو ما نراه اليوم في لهاث النخب خلف النماذج الغربية للإدارة والنجاة، ولو كانت مموّهة بلون محلّي. لقد نخرت تلك العقد وعينا، حتى باتت الصهيونية، القادمة من الغرب، تحمل وجهين متكاملين: وجهاً نيتشوياً نخبوياً إقصائياً، يُغري الطامحين للسلطة، ووجهاً توراتياً يتغذّى على سردية الاضطهاد والنجاة، يخاطب به الغرب ذاكرته الأخلاقية. وهكذا، بدت الصهيونية لكثيرين ممن امتلأت عقولهم بفراغ الاستقلال، وحرمان الاستقرار، وجوعٍ قديم إلى تميّز تخبويّ عرقيّ ضائع، مشروعاً جذاباً يوحي- ولو بوهم بارع- بإمكانية استعادة ما فُقد. بل إن بعضهم رأى فيها نوعاً من "تحقّقٍ بديل" لما فشلت تجاربه التاريخية والشخصية في تحقيقه: دولة فاعلة، وسردية قومية محكمة، وشرعية معترف بها. لكنها — في حقيقتها — لم تكن تحقّقاً له، بل محواً له، ولنفي كل ما يُفترض أنه يمثّله أو ينتمي إليه. في السنوات الأخيرة، ظهرت في بعض جامعاتنا مساقات تُدرّس تحت مسمّى "الدراسات الإسرائيلية". وكان الهدف، كما أفهمه، هو محاولة التصدي للرواية الإسرائيلية، أو على الأقل تهميشها ونزعها من سياقها المفروض — على غرار ما تقوم به الجامعات العبرية في دراستها للشرق الأوسط والإسلام. لكن في الحقيقة، لم أتعمق في هذا التخصص بشكل مباشر، ولا أدّعي الإلمام به. ما أعرفه هو أنني قابلت بعضاً ممن أنهوا دراسات الماجستير في هذا المجال، ولم أجد أنهم يعرفون عن إسرائيل أكثر مما يعرفه الناس في الشارع. وكأن تلك المساقات لم تُنتج فهماً نقدياً، بل أعادت تدوير الخطاب السائد بصيغة أكاديمية مطمئنة. أعترف أنّ دراسة "الآخر"، خصوصًا عندما يكون هذا الآخر هو العدو — بل هو المحتل الظالم — ليست مسألة سهلة. في أغلب التجارب الأكاديمية، ندرس الآخر حين يكون ضحية: الآخر المستعمَر، المهمّش، الخارج عن السلطة. أما حين يكون الآخر هو الغاصب، فإن دراسته تصير محفوفة بالشكوك، وتُعامل كخيانة أو مساومة. وكأن شرعية المعرفة تُمنح فقط حين لا تهدد روايتنا، أو لا تُحرج وعينا الجمعي. حين بدأت رحلتي — أو لعلي أُسميها مغامرتي، لأنها لم تكن سوى سلسلة من المنعطفات المتعرجة والخطرة والمربكة — لم أكن أتصور أن المسألة ستتحول إلى مواجهة ذاتية عميقة. كان هدفي أن أفهم كيف يفكر الآخر، لا لأتبنى روايته، بل لأفهم كيف تتحول القصة إلى أداة سيطرة، وكيف تُخنق الحقيقة في منطق السرد المهيمن، لتُستبدل بصورة تبدو واقعية، لكنها خُلِقت خصيصاً لخدمة الهيمنة. ما كنتُ أعرفه، حتى تلك اللحظات، هو كيف يعيش ذلك "الآخر"، وكيف يفرض سرديته عليّ، كشعب خاضعٍ لاحتلاله. كثيرًا ما كان الصوت الداخلي يقول: لا يمكنني الاستمرار. فكل ما يُقال ويُطرح بدا قائماً على ما عرفته كتحريفات وخرافات وانتهاكات صارخة للحقيقة، كأنّ الدخول في هذا العالم يُحتّم التحدّث بلغة ليست لغتنا، بمنطق يرفض وجودنا. لكن مع الوقت — أو ربما مع النضج — اتضحت الصورة: لكل طرف "حقيقته" المفروضة، المصنوعة، البديلة.ليس لأن الواقع نسبي، بل لأن القوة تفرض سرديتها على الواقع، فتغطيه، وتعيد تشكيله ليبدو كأنه الحقيقة الوحيدة. كنتُ أظنّ أن ما أيحدث هو فرصة للفهم — لا لتبني روايتهم، لا لتبنّي روايتهم، بل لاكتشاف منطقهم، والمنابع الفكرية والنفسية والسياسية التي تُغذي هذا المنطق وتؤسس سرديتهم وتسوّقها كحقيقة مطلقة. كان بإمكاني أن أضيف في كل مرة كلمة "المزعومة" بعد "الرواية" و"الحقيقة"، لكنها، في نظرهم، لم تكن مزعومة قط، بل تحوّلت إلى حقيقة قومية تُبنى عليها شرعية، وهوية، واستحقاق- ثم صدّرتها للعالم كيقين لا يُمس، واستقرت في الوعي الدولي كمرجعية للحق، لا بوصفها خطاباً قابلاً للتفكيك. أدرك — وأتفهم — كيف يمكن أن تفهم هذه العبارات، بالرغم من وضوح منطلقها النقدي ،وكأنها تساوق مع السّردية الصهيونية. لكن المؤرق فعلاً هو هذا الرفض العميق حتى للاستماع — لا للاتفاق، بل للاستماع فقط وكأننا نؤثر الجهل المطمئن على المعرفة المقلقة، فقط كي لا نمنح عقولنا فسحة — ولو ضئيلة — لفهم الآخر. والفرق كبير بين قبول الآخر كمحتل، وبين فهم كيف يفكر الآخر، كيف يفكر، وكيف يفكر في نفسه، وفي وجوده. فكيف لي أن أقاوم ما لا أعرفه؟ وهل يكفي أن أرفض لأنتصر؟ وسط هذه الحيرة، كنت أسترجع قناعةً قديمة تربّينا عليها، ونقلها لنا الكبار كوصايا النجاة في عالمٍ ملتبس: "إذا عرفتَ لغة قوم، أمنتَ شرهم" و"اعرف عدوك"*. لكنّ الغالبية تخشى معرفة العدو، خشية الوقوع في متلازمة ستوكهولم — وكأن مجرد الفهم قد يُنتج تعاطفاً، أو تماهٍ لا يُغتفر. وكأننا نُمنَع من المعرفة باسم الحماية، ونُمنَع من الاستماع باسم الولاء. وما نراه بين جيلٍ جديد — طموح، إنهاك، بحث عن فرصة ومكان في عالم بلا معنى — هو انجذاب غير واعٍ إلى ما تقدمه إسرائيل: نمط حياة، استقرار، وظيفة، صورٌ لمدينة حديثة تشبه ما تعرضه قنوات نيتفلكس. تُروّج عبر حسابات إنستغرام مصقولة ومحتوى مرئي يخفي خلفه جداراً من العزل والحواجز. لا يُدرك هذا الجيل أن ما يراه ليس إلا واجهة بصريّة برّاقة لمنظومة إقصاء محكمة، تبنى على محو وجوده هو بالذات، أو استخدامه للعرض والترويج- إذا ما تقرر هناك أنه من النافع إظهاره- لا على إشراكه الحقيقي فيها. في الفضاء العربي العام، يظلّ التعامل مع النصوص التوراتية محاطاً بريبة متجذّرة، تجعل أيّ محاولة لفهمها تُقابل بالاتهام لا بالتأمل، وبالتحريم لا بالنقد. ما إن تُذكر كلمة "توراة"، حتى يُستدعى وصف "المحرّفة" كردّ فعل تلقائي، يسبق النقاش. وإن ورد مصطلح "الهيكل"، تتقدّم عبارة "المزعوم" لتحاصر المفهوم، قبل أن يُتاح لأي قراءة تحليلية أن تتشكّل. في هذا السياق المشحون، غالباً ما تُختزل مقاربة الرواية التوراتية إلى موقف سياسي أو ديني مُسبق، يُقوّض كل محاولة لتفكيكها من الداخل. تُستقبل المفاهيم المفتاحية في السردية الصهيونية — مثل القدس، والهيكل، وداود وسليمان — كما لو أنها أدوات تطبيع، لا مفاتيح فهم. غير أن المقاربات الأثرية والنقشية الحديثة تقدّم قراءات تُربك هذه البنية السردية. تحاليل "كربون14" كشفت أن البوابات الأثرية المنسوبة تقليدياً لسليمان في مواقع مثل مجدو وحتسور وجزر، لا تتطابق زمنياً مع العصر المفترض لسليمان، بل تنتمي إلى طبقات أقدم أو أحدث. كذلك، أثبتت دراسات حديثة أن "السور العريض" في القدس، الذي لطالما نُسب إلى حزقيا، يعود في الحقيقة إلى الحقبة الكنعانية. النقوش الخارجية، مثل نقوش شيشنق الأول في الكرنك، التي تسجّل بدقة حملاته على مدن كنعانية، لم تذكر سليمان أو داود، رغم ذكرها لمدن مثل بيت شيمش ومجدو. كما أن النقوش الآشورية — من تغلث فلاسر الثالث إلى سنحاريب وسرجون الثاني — وثّقت وجود ملوك يهوذا، لكنها لم تؤكّد السردية التوراتية من حيث التسلسل أو مركزية السلطة في القدس. وبالرغم من الحفريات المكثفة فيما يُعرف ب"مدينة داود"، لم تُكتشف أدلة قاطعة تدعم الوجود التاريخي للملك داود، إذ بقيت النتائج ضمن نطاق التخمينات المؤدلجة، متأثرة بقراءات تفسيرية تتبناها شخصيات مثل إيلات مزار، أكثر مما تعتمد على أسس علمية صارمة. بهذا، لا يكون تفكيك السردية التوراتية تبنّياً لها، بل محاولة لكشف هشاشتها من خلال أدواتها ذاتها: النقوش الخارجية، التحليل الطبقي، ودقة التسلسل الزمني. فالردّ لا يأتي من خارج الرواية، بل من تصدّعاتها الداخلية. هنا لا تكون المعرفة تطبيعاً، بل مقاومة معرفية — قد تكون، في لحظات مفصلية، السلاح الأعمق لمواجهة رواية كُتبت خصيصاً لنفي الوجود الفلسطيني وإلغائه من المشهد التاريخي. ما يظهر من قراءة دقيقة للنقوش والتحاليل الأثرية والنقد السردي، أن تبنّي أدوات "الآخر" في التحليل لا يعني الانخراط في روايته، بل كشفها من داخلها. فالمعرفة ليست تطبيعاً، بل قد تكون — في لحظات مفصلية — السلاح الأعمق في مواجهة رواية صيغت خصيصاً لإلغاء وجودٍ كامل من التاريخ. بل قد تكون — في لحظات مفصلية — السلاح الأعمق في مواجهة رواية صيغت خصيصاً لإلغاء وجودك. في هذا السياق، يُطرح مفهوم "الاستصهان" بوصفه مصطلحًا نقديّاً جديداً، لا يُراد به التبنّي أو التماهي، بل تفكيك واعٍ للخطاب الصهيوني من الداخل. يُقصد به الاشتباك المعرفي مع البنية السردية للهيمنة، عبر أدواتها، لا من موقع الخضوع لها، بل من موقع فضحها ومساءلتها. المصطلح، كما صيغ في هذا النص، يتقاطع مع تقاليد نقدية عميقة: من تفكيك إدوارد سعيد للاستشراق، إلى قراءة عبد الوهاب المسيري للصهيونية كنظام معرفي استعلائي، وصولًا إلى تحذير محمود محمد شاكر من الانسياق وراء المفاهيم الوافدة دون وعي منهجي، ونقد حسين مروة التراث من داخل أدواته، لا من خارجه. أن نُتقن لغته لا لنُردّدها، بل لنفكّ شيفرتها. أن نقرأه لا لنُكرّسه، بل لنحرّره من سطوته، ونحرّر أنفسنا من هشاشة ردّ الفعل. ذلك هو جوهر "الاستصهان" كما أتصوّره: نقدٌ من الداخل، لا نفيٌ من الخارج. لقد كان دخولي إلى هذا الحقل — بما فيه من ارتباك ذاتي وتصدّع خارجي — نوعاً من المخاطرة الواعية. لم أكن أبحث عن يقين، بل عن أدواتٍ للتمحيص. فإن كان "الآخر" يدرسنا ليهزمنا، ويُعيد تشكيلنا كما يشاء، أفلا يحقّ لنا — بل يجب علينا — أن ندرسه نحن أيضاً؟ لا لنقلّده، بل لنفكك آلياته، ونُعيد تعريف ذواتنا بمعزل عن صورته المفروضة. إن "الاستصهان" الذي أطرحه ليس حالةً شخصية، بل محاولة لفتح أفقٍ معرفي نقدي في وجه ازدواجية قاتلة: بين رفضٍ أعمى، وتبنٍّ أعمى. هو دعوة لا إلى التماثل، بل إلى الاختراق؛ لا إلى التماهي، بل إلى التفكيك؛ لا إلى الهروب، بل إلى المواجهة — مواجهة الوعي، والرواية، والخيال الجمعي المُهيمن من الداخل.