رحل الطفل ريان إلى دار البقاء لكن رحيله إلى السماء، لكنه حجز لنفسه أكبر مساحة ضوء منذ عقود، وتحوّل إلى أيقونة للألم والوحدة والمشاعر الجامعة بين العرب من المحيط إلى الخليج، كما تقول العبارة المكررة القديمة. وتحول الطفل الصغير ذي الخمس سنوات إلى أيقونة أمل، أوجعت الضمير العالمي، وجعلته في حالة يقظة وترقب على مدار 5 أيام للحظة إنقاذ الطفل المغربي، وخروجه من البئر السحيق ميتا . الطفل ريان انضم لقائمة أطفال وحدوا العالم بوفاتهم, ورحلوا بصمت وهزوا ضمائر العالم . لم يكن ريان الطفل الوحيد الذي أوجع العالم وأبكاه، وأيقظ ضمير الإنسانية حتى لو لساعات محدودة، فحتى الآن صورة الطفل السوري إيلان الملقى جثة على أحد الشواطئ التركية لا تغيب من ذاكرة الأمم. وكان إيلان الكردي بين مجموعة من المهاجرين السوريين الذين غرقوا، عندما انقلب بهم زورق كان يقلهم من مدينة بودروم التركية إلى جزيرة كوس اليونانية. وكان بين الغرقى شقيقه الطفل غالب، ابن الخمس سنوات، ووالدته ريحانة، 28 عاماً، فيما نجا والده. وينحدر الطفل إيلان، الذي جرفته أمواج البحر إلى الشاطئ، من بلدة كوباني ذات الغالبية الكردية الحدودية مع تركيا، وكانت عائلته غادرتها للجوء إلى تركيا، هربا من أعمال العنف قبل أن تقرر الهجرة إلى أوروبا. وظلت صورة إيلان وهو منكب على وجهه جثة هامدة على الشاطئ التركي، تريند مواقع التواصل الاجتماعي، وغلاف الصفحات الأولى لكبرى الصحف والمجلات العالمية لأيام عديدة، لبشاعة ومأساة قصتها. في عام 2017، طبعت فنلندا في الذكرى 100 لاستقلاها عملة تذكارية وطنية عليها صورة الطفل إيلان وهو ملقى على الشاطئ، لتظل صورته تتداول بين الناس لتذكرهم دائمًا أنه لا مقام يعلوا فوق مقام الإنسانية. وفي فبراير من عام 2019، أعادت ألمانيا تسمية سفينة إنقاذ تابعة لها تعمل في البحر المتوسط، وأطلقت عليها "إيلان"، لتصبح رمزًا لأزمة ومأساة المهاجرين السوريين إلى أوروبا هربًا من الحرب، والاضطهاد في بعض بلدان العالم. "مات الولد"، جملة قالها أب فلسطيني منذ 22 عامًا، وتحديدًا في 30 سبتمبر 2000، وهو يحتضن طفله الصغير، محمد الدرة ، ويحاول أن يحميه من رصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني. رغم أن في زمن استشهاد الطفل محمد الدرة لم تكن توجد وسائل تواصل اجتماعي، أو قنوات فضائية مفتوحة مثل اليوم تتداول صورته وهو غارق في دمه بعدما انهالت عليه رصاصات قوات الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن ضمير العالم لم يغب عنه صورة الأب وهو يبكي طفله الشهيد، ويصرخ ويقول: "مات الولد". لدى أحد الحواجز الأمنية للاحتلال الإسرائيلي الصهيوني، على مقربة من مدينة غزة، وتحديدًا عند مفترق "متساريم"، سجل مراسل القناة الثانية الفرنسية الدائم في غزة، طلال أبو رحمة، مقطعًا مصورًا لمشهد قنص قوات الاحتلال الإسرائيلي، للطفل الشهيد، محمد الدرة ، الذي كان يبلغ من العمر حينها 12 سنة. التقط مراسل القناة الفرنسية المشهد مصادفة أثناء تغطيته أحداث الانتفاضة الثانية، لكنه لم يكن يدري أنه سينتقل إلى العالم كوثيقة تحمل دلائل بشأن جرائم الاحتلال بحق أطفال فلسطين، وتفتح أيضًا باب الجدال على مصراعيه بين الاحتلال الذي ادعى أن الطفل محمد الدرة لقى مصرعه برصاصات فلسطينية، وأن المقطع الذي وثقته القناة الثانية الفرنسية لقنصه "مفبرك". الطلقات الأربع النافذة إلى قلب الطفل الشهيد الدرة ، والتي لم تقفها صرخات والده الذي توسل لجنود الاحتلال: "لا.. لا تطلقوا النار" نفذ صداها أيضًا عبر المقطع الذي تم التقاطه مصادفة إلى قلوب الملايين حول العالم، فأسمعهم عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني عامة، وأطفاله خاصة. دماء الدرة ، وصورته وهو مرتعد الأيدي وراء ظهر أبيه الأعزل من السلاح، تحولت لوثيقة تاريخية شكلت وعي أقرانه من الأطفال العرب، فخرجوا من مدارسهم في تظاهرات تلقائية منددة بجرائم قوات الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، وكأن دماء ذاك الطفل دفعت أقرانه من الأطفال للشعور بمسؤولية إنسانية حياله وحيال القضية الفلسطينية. رحل الأطفال الثلاثة، "الدرة "، و"إيلان"، و"ريان"، ولن يتبقى من أثارهم غير صورة مأسوية، وسيرة وحكاية وحدت الإنسانية بمختلف عقائدها وأفكارها وهويتها على قلب رجلاً واحد يدعوا بدعاء واحد لرب واحد أن يرحمهم، ويعوضهم خيرًا على ما لقوه في طفولتهم وأخر أيام حياتهم من لحظات صعبة ومخيفة.. إلا أنهم سيبقون مخلدين في الاذهان ك أيقونات عالمية أدمت قلوب الإنسانية.