ضمنهم حكيمي وبونو.. المرشحين للكرة الذهبية 2025    قاضي جرائم الأموال يأمر بسجن رئيس المجلس الإقليمي لشفشاون بتهم ثقيلة    باريس تُعلّق الإعفاءات الدبلوماسية.. والجزائر تردّ بالمثل في أزمة جديدة بين البلدين    نتنياهو: إسرائيل تريد السيطرة على غزة "لا حكمها"    حقوقيون: السقوط الدستوري للمسطرة الجنائية ليس معزولا عن منهجية التشريع المتسمة بانعدام الشفافية    المنتخب المغربي المحلي يستعد لمواجهة كينيا    الأرصاد تُحذر: موجة حر وزخات رعدية تضرب مناطق واسعة بالمملكة ابتداءً من اليوم    انتحار طفل في ال12 من عمره شنقًا.. وأصابع الاتهام تشير إلى لعبة "فري فاير"    تدخل أمني بمنطقة الروكسي بطنجة بعد بث فيديو يوثق التوقف العشوائي فوق الأرصفة        تدخل سريع يخمد حريقا اندلع بغابة "ازارن" بإقليم وزان والكنافي يكشف حيثياته    لجنة عربية تطلق حملة ضد ترشيح ترامب لجائزة نوبل للسلام    الارتفاع يسم تداولات بورصة البيضاء    فشل الجزائر في قضية الصحراء المغربية يفاقم التوتر الدبلوماسي مع فرنسا    وزارة الخارجية تحتفل باليوم الوطني للمغاربة المقيمين بالخارج    الوداد يعقد الجمع العام في شتنبر    بني بوعياش.. اطلاق الشطر الاول لمشروع التأهيل الحضري        أول نسخة من "الهوبيت" تجني 57 ألف دولار        لسنا في حاجة إلى المزيد من هدر الزمن السياسي    الماء أولا... لا تنمية تحت العطش    الملك كضامن للديمقراطية وتأمين نزاهة الانتخابات وتعزيز الثقة في المؤسسات    وزير الإعلام الفلسطيني : المساعدة الإنسانية والطبية العاجلة سيكون لها أثر إيجابي ملموس على حياة ساكنة غزة    تيمة الموت في قصص « الموتى لا يعودون » للبشير الأزمي    «دخان الملائكة».. تفكيك الهامش عبر سردية الطفولة    السرد و أنساقه السيميائية    المغرب.. من أرض فلاحية إلى قوة صناعية إقليمية خلال عقدين برؤية ملكية استشرافية    فرنسا تلغي إقامة مغربي أشعل سيجارة من "شعلة الجندي المجهول" في باريس (فيديو)    زيلينسكي يدعو بوتين مجددا إلى لقاء لإنهاء الحرب في أوكرانيا والرئيس الروسي يعتبر "الظروف غير متوفرة"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية كوت ديفوار بمناسبة العيد الوطني لبلاده        ارتفاع أسعار الذهب بفضل تراجع الدولار وسط آمال بخفض الفائدة الأمريكية    "صحة غزة": ارتفاع وفيات التجويع الإسرائيلي إلى 197 بينهم 96 طفلا    سون هيونغ مين ينضم للوس أنجليس الأمريكي    "أيميا باور" الإماراتية تستثمر 2.6 مليار درهم في محطة تحلية المياه بأكادير    يوليوز 2025 ثالث أكثر الشهور حرارة فى تاريخ كوكب الأرض    وكالة: وضعية مخزون الدم بالمغرب "مطمئنة"    صيف شفشاون 2025.. المدينة الزرقاء تحتفي بزوارها ببرنامج ثقافي وفني متنوع    المغرب يواجه ضغوطا لتعقيم الكلاب الضالة بدل قتلها    تسجيل 4 وفيات بداء السعار في المغرب خلال أشهر قليلة    "دراسة": تعرض الأطفال طويلا للشاشات يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب    من هم الأكثر عرضة للنقص في "فيتامين B"؟    الفتح الناظوري يضم أحمد جحوح إلى تشكيلته        رخص مزورة وتلاعب بنتائج المباريات.. عقوبات تأديبية تطال أندية ومسؤولين بسبب خروقات جسيمة    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    الداخلة.. ‬‮«‬جريمة ‬صيد‮»‬ ‬تكشف ‬ضغط ‬المراقبة ‬واختلال ‬الوعي ‬المهني ‬    الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة التي فرضها ترامب تدخل حيز التنفيذ    المغرب ‬يرسّخ ‬جاذبيته ‬السياحية ‬ويستقطب ‬‮«‬أونا‮»‬ ‬الإسبانية ‬في ‬توسع ‬يشمل ‬1561 ‬غرفة ‬فندقية ‬    قروض ‬المقاولات ‬غير ‬المالية ‬تسجل ‬ارتفاعا ‬بنسبة ‬3.‬1 ‬في ‬المائة ‬    جو عمار... الفنان اليهودي المغربي الذي سبق صوته الدبلوماسية وبنى جسورًا بين المغرب واليهود المغاربة بإسرائيل    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    حين يتحدث الانتماء.. رضا سليم يختار "الزعيم" ويرفض عروضا مغرية    نحن والحجاج الجزائريون: من الجوار الجغرافي …إلى الجوار الرباني    اتحاديون اشتراكيون على سنة الله ورسوله    من الزاويت إلى الطائف .. مسار علمي فريد للفقيه الراحل لحسن وكاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حتى تتعلم كيف تقع

فى شتاء بلاد الثلوج، عندما كانت حرارة الجو ترتفع فى نهارات مشمسة نادرة ولو درجة واحدة فوق الصفر، كان سطح الثلج المتراكم فى كل مكان يذوب، ومع هبوط الحرارة فى الليل يتجمد السطح الذائب متحولاً إلى جليد، فيطلع الصبح على شوارع وأرصفة مكسوة بطبقة كأنها من زجاج صقيعى، مرعب بالنسبة لشخص مثلى لم يعتد المشى على الجليد الزلِق، ومبهج للشباب وبعض الكبار الذين يفرحون بتحول الدنيا إلى ساحات للتزلج !
كانت تستثيرنى بهجتهم بينما ينطلقون مثل شُهب على الأرض إلى جوارى، منتعلين أحذية التزلج، ذاهبين فى صخب مرح إلى مدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم، فقلت لنفسى لابد أن أجرب هذه المتعة. استعرت حذاء تزلج، ونزلت إلى ساحة متجلدة قرب مسكنى، وسرعان ما صرت « فُرجة» المكان، فما إن أهم بالخطو حتى أقع، ويتكرر وقوعى المؤلم والمرير، فتوقفت يائساً حزيناً أراقب المنطلقين أمامى، وإذا بكهل لطيف يقترب مِنِّى قائلاً: «أنت تقع بطريقة خطرة جدا. يمكن أن تتحطم عظامك وأسنانك. هذا يخيفك ويربكك فتكرر الوقوع. لن تتمكن من الانطلاق حتى تتعلم كيف تقع»، وسرعان ما نَمَت بيننا صداقة شرع يعلمنى خلالها كيف أقع على الجليد، منزلقا على ظهرى فى انثناء خفيف يشبه الوضع الجنينى، فأحمى عمودى الفقرى ودماغى. وكان ذلك إنجازا مهما، أعاد فتح باب الأمل أمامى كمتزلق مبتدئ، وطمأننى إلى أننى سأنهض سالما مهما وقعت.
هذا المعنى نفسه، وجدته كأنما بكلماته ذاتها فى حديث لأحد مُكافحى الانهمار الإشعاعى فى كارثة تشرنوبل، التى للمفارقة وقعت بعد خمسة أشهر على مقربة 85 كيلو مترا من المكان الذى تلقيت فيه حكمة تعلُّم الوقوع الآمن كخطوة أساسية فى تعلُّم الانطلاق على الجليد، فبعد الاستيعاب الأوَّلى للكارثة التى وقعت فى أوج الربيع، قال «فلاديمير تشيرنوأوسنكو»، الباحث العلمى بقسم الفيزياء النووية التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية: «إذا كنا نقيم مشاريع صناعية تشكل خطرا كبيرا فيجب علينا أن نفكر باحتمال وقوع كارثة قبل الشروع بإنشاء مثل هذه المشاريع.. يجب أن يكون لدينا فيلق للتدخل السريع يملك استراتيجية دقيقة وفِرقا مدربة ومعدات تكتيكية تجعله قادرا على الإتيان برد فعل فورى فى مواجهة الكوارث. ثم إننا أمام خيارين، فإما نعتمد على آليات ديمقراطية ونُصغى للشعب بأسره، لا مجموعة ضيقة من المُصممين والبُناة، وإما سنهلك».
الكلام السابق لرجل عِلم مرموق كان يعمل على مشروع متقدم جدا لتصميم جهاز لطاقة البلازما (وهى غير بلازما الدم بل غاز مُتأين تكون إلكتروناته حرة وغير مرتبطة بالذرات أو الجزيئات مما يكسبه خصائص فريدة، ومن تجلياته فى الطبيعة البرق والرياح الشمسية)، لكنه بعد تشرنوبل فقد حماسه للمشروع مُصرِّحا: « قلما كنا نهتم بالعالم المحيط بنا، لقد كنا عميانا، وكنا بحاجة إلى المنفعة الآنية والنتيجة الفورية. نحن نشكو من أن الطاقة لاتكفينا. وماذا لو أننا وجَّهنا هذه المليارات التى ننفقها للبحث عن مصادر للطاقة نقية بيئيا». منطق أرانى معه تماما، ومع ذلك سأفترض أنه رد فعل متطرف على الخذلان الذى شعر به علماء نوويون تجاه التقنية التى بالغوا فى المراهنة عليها.
سأبدأ من حقيقة أننا فى مصر نعانى من نقص فى الطاقة مُرشَّح للتفاقم إلى درجة العوز فى المستقبل، وإذا أضفنا إلى ذلك الفقر المائى المرشح أيضا للتفاقم، فإننا نكون فى حاجة ماسة لمزيد من الطاقة لتحلية مياه البحر التى لامفر منها فى المستقبل المهدد بالجفاف والعطش والعتمة. وسأفترض على غير قناعتى أن الطاقة النووية هى الأداة الأنجع لسد هذا الاحتياج المُلِح، لكن فى هذه الحال لايمكن ولايصح تجاهل الأسئلة المهمة حول التكاليف الحقيقية لإنشاء وتشغيل وترميم واستيعاب مخاطر المفاعلات النووية، وكذلك حقائق دورة الوقود، هل لدينا ما يكفى من مواد الوقود النووى، وما هو مخزونها المستقبلى، وهل سنقوم بالتخصيب أم سنستورد الوقود مخصبا، وما مدى احتمال ارتهان مشاريع وطنية ضخمة لإرادة خارجية، ثم ماذا عن دفن النفايات النووية المتخلفة عن تشغيل المفاعل، ما هى تكاليفها، وأين، وما مدى أمان دفنها، ثم ماذا بعد العمر الافتراضى للمفاعل؟
كل هذه أسئلة ظلت ولا تزال بلا إجابات، ويقفز عليها بعض النوويين لدينا، الذين تحولوا إلى مروجين للمشروع النووى، وأحيانا بفجاجة يسهل الرد عليها! فكثيرا ما يكررون أن مشروعهم لا ينبغى أن يتحدث فيه إلا «المتخصصين»، وهنا يكون السؤال: متخصصون فى ماذا بالضبط، ومثل هذه المشاريع لا ينبغى الأخذ فيها بفتوى النوويين وحدهم، فهناك الجيولوجيون وخبراء المناخ والطب والبيئة والأمن والدفاع والاقتصاد والسياسة والمستقبليات، كلها لازمة فى مشاريع ضخمة وعالية المخاطر ومتشعبة الاشتباكات كالمشاريع النووية، وهذه لاتزال تُقدَم لنا بلا شفافية مما لم يعد مقبولا ولا مُطَمْئنا.
الأمر الأخطر أن هؤلاء النوويين يقدمون المشروع كما لو كانت مخاطِره منعدمة تماما، وهذا يتجاوز الحدود البشرية، ويدمغهم بالغوغائية المناقضة للتفكير العلمى، وفى كتابه «الغطرسة المُميتة – الخطأ البشرى والتكنولوجيات الخطرة» قال «للويد ديف دوماس»، الذى عمل مستشارا لمختبر «لوس ألاموس» النووى الأمريكى: «لابد من تقدير المخاطر بكل دقة وأمانة، فالفجوة بين نمو قدراتنا التكنولوجية وعدم تحاشى أخطائنا قد يفتحان أمامنا أبواب الخطر الداهم، ولتحاشى ذلك لابد من تناغم قدراتنا التكنولوجية مع الحكمة السياسية والاجتماعية»، وقد ذكر الكاتب عدة خطوات لتفعيل هذه الحكمة كاختيار استراتيجيات جديدة للأمن، وإحلال تكنولوجيات آمنة بدلا من الخطرة، ومواجهة حاسمة للنفايات النووية.
باختصار، لايكفى أن يُرينا أحد نوويينا صورة لمستحمين على شاطئ أوروبى لطيف يجاور محطة نووية ليقنعنا بمدى أمان المحطات النووية (التى زعم أنها ستروِّج السياحة أيضا !)، فما أسهل أن نقدم له ألف صورة للدمار الذى خلفته حوادث نووية معروفة. والأدعى أن نعترف بأن هناك مخاطر محتملة ولو بنسبة متناهية الضآلة، لأن هذه النسبة مهما تضاءلت يمكن أن تكون مدمرة، ويكون تدميرها كارثيا فى بلد يستمرئ بعض نووييه الغطرسة المهنية والإنكار، ومن ثم لايعرفون كيف يكون النهوض إذا وقعت الواقعة.
لنتذكر حكمة تعلُّم مهارات الوقوع، كى لا نتحطم إذا وقعنا، سواء فى التزحلُق على الجليد، أو على طين المصارف، أو على نجيل ملاعب الكرة، أو على الأرض النووية !.
إننى أثق فى (هِمَّة) قواتنا المسلحة الوطنية، لكننى أرتاب فى (خِفَّة) بعض مستشارينا، متقاعدى المنظمات الدولية، وبين الثقة والارتياب فجوة لابد من تعميرها بوضوح يُطّمْن.
(قُبَيل النشر: من تفجيرات سيناء إلى مقتلة كنيسة الوراق، مصر تواجه حربا قذرة، لا اختيار إلا الانتصار للوطن فيها، فى كل اتجاه، بمسؤولية ونظافة وعلو، إنقاذا للحاضر والمستقبل).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.