بلكوش: المنتدى العربي الإفريقي للمقاولة وحقوق الإنسان تعزيز لمواصلة الشراكة والتعاون بين المنطقة العربية وعمقها الإفريقي    مشروع ضخم لطاقة الرياح يرى النور في العيون بشراكة مغربية إماراتية    المغرب وتركيا يتفقان على تعزيز التبادل التجاري وتوسيع التعاون الاقتصادي في ختام اجتماعات رفيعة المستوى بأنقرة    قطر توجه رسالة إلى الأمم المتحدة بشأن الهجوم الإيراني ضد قاعدة العُديد    إسرائيل تعلن رصد إطلاق صواريخ إيرانية بعد إعلان وقف إطلاق النار وطهران تنفي    العراق يعيد فتح مجاله الجوي بعد هدنة إيران وإسرائيل    مصر تعلن استئناف حركة الطيران بشكل تدريجي بينها والكويت وقطر والسعودية والإمارات    خورخي فيلدا يكشف عن قائمة المنتخب النسوي المشاركة في كأس إفريقيا    مونديال الأندية.. حكيمي يتوج بجائزة أفضل لاعب في مباراة باريس سان جيرمان وسياتل ساوندرز    الوداد يطمئن أنصاره عن الحالة الصحية لبنهاشم وهيفتي    قهوة بالأعشاب الطبية تثير فضول زوار معرض الصين – جنوب آسيا في كونمينغ    بورصة الدار البيضاء تفتتح تداولاتها على وقع الأخضر    كأس العالم للأندية .. الأهلي خارج المنافسة وإنتر ميامي يصطدم بباريس    بعد تداول أنباء إعفائها.. مديرة "أنابيك" توقع اتفاقية شراكة مع وزارة الشباب والثقافة    ترامب يعلن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار شامل بين إسرائيل وإيران    وفد من مؤسسة دار الصانع في مهمة استكشافية إلى أستراليا لتعزيز صادرات الصناعة التقليدية المغربية على الصعيد الدولي    ميزانية الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها    كيوسك الثلاثاء | المغرب يستعد للتألق عالميا بخطة سياحية شاملة لمونديال 2030    رغم الخسائر الثقيلة.. إيران استسلمت والتزمت بوقف إطلاق النار أولًا قبل إسرائيل    "بي واي دي" الصينية تسرّع خطواتها نحو الريادة العالمية في تصدير المركبات الكهربائية    توقعات حالة الطقس اليوم الثلاثاء بالمغرب    النسخة السادسة والثلاثون من عرض الموضة Révélations صُنع في المغرب: تكريم للتميز في الإبداع المغربي    رمسيس بولعيون يكتب... البرلماني أبرشان... عاد إليكم من جديد.. تشاطاراا، برويطة، اسعادات الوزاااار    ميناء الحسيمة يستقبل أول رحلة في إطار عملية مرحبا 2025    بركة: 300 كيلومتر من الطرق السريعة قيد الإنجاز وبرمجة 900 كيلومتر إضافية    بين الآلي والإنساني .. "إيسيسكو" تناقش الجامعة في زمن الذكاء الاصطناعي    بركة: انقطاعات مياه الشرب محدودة .. وعملية التحلية غير مضرة بالصحة    الملك محمد السادس يؤكد للأمير تميم تضامن المغرب مع قطر    بنعلي: الحكومة تشتغل على تطوير البنيات التحتية للسيادة الطاقية المغربية    إيران ترد بقوة على اغتيال عالمها النووي    الدرك يقتحم "فيلا الماحيا" في الجديدة    الهلال السعودي يتواصل مع النصيري    جمعية تطالب بمنع دخول السيارات والدراجات إلى الشواطئ بعد حادث الطفلة غيثة    الحسيمة تترقب زيارة ملكية خلال الأيام المقبلة    فرنسا تجدد التأكيد على أن حاضر ومستقبل الصحراء "يندرجان بشكل كامل في إطار السيادة المغربية"    27% من القضاة نساء.. لكن تمثيلهن في المناصب القيادية بالمحاكم لا يتجاوز 10%    الذهب يرتفع وسط الإقبال على أصول الملاذ الآمن مع ترقب رد إيران    بوريطة يستقبل وزير الشؤون الخارجية القمري حاملا رسالة من الرئيس أزالي أسوماني إلى الملك محمد السادس    ياسين بونو يتوج بجائزة رجل المباراة أمام سالزبورج    إشكالية التراث عند محمد عابد الجابري بين الثقافي والابستيمي    بسمة بوسيل تُطلق ألبوم "الحلم": بداية جديدة بعد 12 سنة من الغياب    كأس العالم للأندية.. "الفيفا" يحتفل بمشجعة مغربية باعتبارها المتفرج رقم مليون    مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج تنظم المعرض الفوتوغرافي "أتيت من نظرة تَعْبُرُ" للفنان المصور مصطفى البصري    رأي اللّغة الصّامتة – إدوارد هارت    وسط ارتباك تنظيمي.. نانسي عجرم تتجاهل العلم الوطني في سهرة موازين    "تالويكاند" في دورته الرابعة.. تظاهرة فنيّة تحتفي بتراث أكادير وذاكرتها    هذه تدابير مفيدة لتبريد المنزل بفعالية في الصيف    موازين 2025.. الفنانة اللبنانية نانسي عجرم تمتع جمهورها بسهرة متميزة على منصة النهضة    موازين 2025 .. الجمهور يستمتع بموسيقى السول في حفل المغني مايكل كيوانواكا    كأس العالم للأندية 2025.. ريال مدريد يتغلب على باتشوكا المكسيكي (3-1)    موجة الحر في المغرب تثير تحذيرات طبية من التعرض لمضاعفات خطيرة    دراسة تكشف وجود علاقة بين التعرض للضوء الاصطناعي ليلا والاكتئاب    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سَفهٌ وتَفَهٌ.. والقضيّة شيء آخر
نشر في بريس تطوان يوم 31 - 12 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
سَفهٌ وتَفَهٌ.. والقضيّة شيء آخر !
إشراقةٌ: " الفقيه كلّ الفقيه؛ مَن لم يُقنِّط النّاس من رحمة الله، ولم يُيئِّسهُم من رَوْحِ الله، ولمْ يُؤَمِّنهم من مَكر الله.."
/ علي بن أبي طالب
قدْ لا يجد المتابعُ لأداء بعض خُطباء الجُمَع غضاضة في الاعتراف بفضل نفرٍ منهم نَفَرُوا حقيقةً للتَّعريف بالدّين وتمتين ارتباط الناس بنُظُمه وقيمه وجمالية تشريعاته وعَظَمَته، وفي إعادة لمّ شعتِ التباعد الحاصل بين الإيمان والسلوك، والاعتقاد والتطبيق، والانتهاء والإتيان، وفي تقريب أحكام وتعاليم الإسلام مِن وعي وواقع المُسلمين، ومن جهة أخرى تجدُهم يكافحون ذاتيا في سبيل الترقي في مدارج القراءة والمعرفة ورفع منسوب الفهم لما حولهم، وتطوير مُستواهم اللغوي وأدائهم التواصلي ومهارات التبليغ وفنّ الإلقاء إلى غير ذلك ممّا يندرج في باب العِصامية التكوينية والعلمية ممّا يخدم الدعوة وفن خطبة الجُمعة. في حين لا يجد _ نفس المتابع _ حَرجاً في الاحتجاج على نَفرٍ آخرين عَطّلوا كل ما يُمكن تعطيله من أدوات الإدراك الثلاث العِملاقة (السمع والبصر والفؤاد) والتي عليها يدور مناط التّكليف، وتأسيساً عليها وما أدّته يكونُ الحِساب والتّسآل، فإمّا إلى النار وإما إلى حُسن المآل {إنّ السمع والبصر والفؤاد؛ كلُّ أولائك كان عنه مسؤولا} / الآية، سؤال الاستفهام عن ميكانيزم التّعطيل بدل ميكانيزم التّفعيل !
عطّلوا ذلك تحت دعاوى _ وإن كانت صحيحة على مُستوى الواقع _ شيخوخة العقل والبدن، وضعف الإمكانيات المادية المُساعِدة على اقتناء الكتب والمعارِف، وغياب التأطير والتكوينات الخاصة بالأئمة والخُطباء من لدُن وزارة الأوقاف والنظَارات، وغياب استراتيجية وطنية لإدماج الخطباء في منظومة التكوين والتأهيل العَصري.. إلى ما غيرِ ذلك من دعاوى وتبريرات، نُقدّر صِحّتها وتحقُّقها الواقعي، إلّا أنه يأفل نجم الزّعمِ أنّها " الكُلّ في الكلّ " والمسؤولة المُباشرة عمّا وصلت إليه بعض خُطب الجُمعة مِن الترهُّل والانسحاب مِن معالجة القضايا الوطنية والمُجتمعية، والإسهام في تأطير الشباب والشعب تربويا وشرعيا بأبعاد وسطية معتدلة منفتحة متموْقِعة في الزّمان والمكان.
ليس الغايُ من إيراد الكلام الآتي أسفله التعرّي بالاحتجاج والانتفاض على نوع من أنواع خُطباءٍ وخُطبٍ طلّقت قضايا الواقع ورهانات الناس طلاقاً ثلاثاً في بينونة كبرى، طلاق الاهتمام، طلاق الاستيعاب، طلاق المعالجة، وانحشرت في زوايا الوعظ القاسي والمواعظ القاصية الشاردة التي لا ترفعُ ولا تنفعُ ولا تزرع، وابتعدت عن التجديد والتجدّد الذاتي، وإن الخطيب الذي لا يُجدد معارفه يُشكّل خطراً على الجيل، ؛ وكثيرٌ مّا هُم !
بل الهَدف المُتَأمَّل تحقُّقُه مِن ذَا المقال هو إعادة إثارة النّقاش الهادِئ حول مركزية الوظيفة الإنمائية والتربوية والتأهيلية لخُطبة الجُمعة بالمغرب، أو بالأحرى فتح باب مُشاركة بعض أفراد المجتمع في إجراء نقدٍ خلوقٍ لمتون ومقتضيات وطرائق تقديم وتنزيل بعض خُطب الجُمَعِ المقصودة بذلك.
فخِلافًا لما أقَرَّتْهُ السُّنَّة الفِعلية والقولية للرسول الخاتم عليه الصلاة والسّلام في تَوجيه الكلام والوصايا والأوامر للأمّة ولأهل الذّمة في قَوالب مِن الشَّفقة والعطْف والفهم واللين والرحمة والتّواضع أمام الخلق والخالق؛ تُطالِعُنَا بعض الخُطب المنبرية في جمعة الخير السابقة عن مُستهلِّ السنة الجديدة، بمواعظ مِن خشَب، يُلْقيهَا وُعَّاظ من خشب، تَيَبَّسَت الألفاظ وأقحلت الجمل وتخشَّبَتْ التوجيهات التربوية والفهمُ الظاهر والباطن لمقاصد الدين في أفواههم ..فلِمَ كل هذه الجفوة والقسوة يا وعَّاظ، يا أئمة؟
في حيّنا المتواضع، المُختلِفة مشارب أهله ومُستوياتهم التعلُّمِية وفهُومهم الدينية وأنماط اهتماماتهم؛
كما هو عليه واقع حال أحياءٍ أخرى، اهتَبل بعض الخُطباء _كما عايَنَّا ورِويَ لنا_ قُرْبَ انْصِرَام السَّنَة الحَالِيَة ودُخُول السنة الميلادية الجديدة ليُلَبّوا نداء الضمير في الدّفاع عن شَخصية الأمّة المعنوية ضدّ السّلب والنّهب المعنوي والمادّي الذي تمارسه في حقّها حضارة الغرب المادية الأُحَادِية الهابطة حِسّا ومعنى، فاستعانوا على ذلك بأن شًحذوا (مع استعدادٍ نفسي وذهني قَبْلِي) أدواتِ النقد والتشكيك والهجُوم بألْسِنةٍ حِدادٍ أشِحَّةٍ على اللطف ولين الجانب ونبرات الرأفة والرحموتية، والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنْكر على نهجِ ما أوصَى به صاحب " الإحياء " رحمه الله.
نعم؛ اهتبلوها فرصة _ لا لتفهيم النّاس جوانب الخطأ وترشيدهم لصواب القول والعَمل _ بل لشن الهُجوم، وذلك في اتجاهين:
الاتجاه الأوّل:
تنطلِقُ رصاصات الاستنكار والاستهجان والشّجْب في الاتجاه الأول صوب جُلساء المسجِد، الذين تتجسّدُ فيهم لدى الخطيب صورة (الأمة - الشَّعب المغربي) انطلاقاً لا تَأْلُ معهُ جُهْداً في تبنِّي هجوم حادٍّ ومستفزٍّ لا يُبقي لقيم الرحمة والتعليم والتنبيه بلطفٍ، مكاناً ولا قيمةً ولا أثراً؛ حيث يَعْتَبِرُ الخطيب أنّ أمر الاستتباع الحضاري لأمة النصارى واليهود (المغضوب عليم، والضّالين) بتعبير ربّ العالمين، في عاداتهم وعوائد أحوالهم وأعيادهم؛ وكأنَّه اختيارُ تقليد واتباع بمحض اﻹرادة الحرة للأمة، وكأنه اتّباعٌ _ لو افترضنا صحّة حُدوثه _ لم تُمْلِه عناصر وحوادِث خارِجية، وكأنّه وُلوغٌ في الاتباع بدون مقدمات اسْتِتْبَاع ساهمت فيها قرونٌ مِن القرصنة الغربية والاستعمار، تمَّمَتْها أعوام من التحديث والعصْرنة والتفوق التقنوي والجوقة اﻹعلامية واستراتيجيا اﻹلهاء وبرابجندا التسويق للحداثة والعولمة و(لزَمن) الغرب القائم اليوم على قيادة العالم، والفارض لقيمه وعاداته الغازية لكل ما هو حي وجامد!
اعتَبَرَ الواعظ - الذي لا يبدو عليه أثر فهم الواقع بتعبير مسرور المراكشي - أن جُموع المُحلَولِقين بخطبته (منافقون!)، لأن بِهِم مَسٌّ مِن عَلمانية خفية وجُزئية عندما يفرقون بين اﻹيمان بمضامين سورة الفاتحة والانحراف عن أوامِرها والانسلاخ عنْ فهمها والعمل بها عندما يتعلق الأمر بتتبُّع سَنن المغضوب عليهم والضّالّين، وعلى رأس ذلك؛ " الابتهاج بحلول سَنتهم الميلادية". يعتقِدُ الإمام أنّ الجالسين أمامه صنف واحد، اتّفقت نواياهم وتلاقت على الاتباع للآخر أعمالهم؛ هكذا بِفِعْلٍ وتصميمٍ إرادَوِيٍّ لهُمْ يدٌ فيه، ظانًّا أنّهم شاركوا أو يُشارِكون في جَرِّ قطار الأمّة نحو تقليد حياة الآخر (الاحتفال برأس السنة الميلادية في هته الحالة) دون أن تكون ثَمَّ مُسبِّباتٌ وإملاءاتٌ ضَغَطَت بقوّة في ذلكم الاتجاه. يتابع الخطيب زحْفه على المُنصِتين بنصوصٍ وسطورٍ عجْلَى تستهدِف تسفيه (وليس تنبيه) ما هم عليه من اتّباعٍ للمغضوب عليهم في كلّ قالٍ وحالٍ، دون أن يُكلِّف نفسه عناء الاطّلاعِ مِن عَلٍ على خارطة العالم المتموِّجة وموضع المُسلِمين فيها، ودون أن يتحقَّق مِن مَنْسوب وعي النَّاس وفهمهم لما يدور حولهم، لما يُحاك لهم، ودونما قيامه بعملية تفيءِ الحاضرين حتّى يختار من الأقاويل والتفاسير والشُّروح ما يُناسِب تنوُّعهم ويُراعي قُدراتهم الذِّهنية وخرائطهم الإدراكية، جرْياً على سنّة رسول الله في ذلك.
إنّ لا أحد يُكابِر في الزّعِم أن تتبّعُ سُنن المغضوب عليهم غير حادثٌ في حياةِ بعض مُسلمي هذا الوطن، ولا يُنازِع أحدٌ في أن مثل هته المسألة تستدْعِي تحمُّل الوعّاظ والخطباء والعُلماء لمسؤولياتهم في التوّجيه والتنبيه والتّحذير والتّبشير، لكن أن تتحوّل خطبة الجمُعة إلى منصّة إصدار الأحكام بالجُملة على النّاس، على كلّ الحاضرين من رجال وأطفال ونساء ومحاكَمتِهم بلُغةٍ لا تخلو مِن الهجوم الفجّ، فذاك سَفَهٌ وتَفَهٌ يُقْلِق كلَّ فَهِيمٍ وذي بقية مِن ضمير.
ليس القصد إسكات مثل هؤلاء الخُطباء من الخوض في ذلك؛ كما أنّ القصد ليس هُو خَلْقُ تبريراتٍ لنُبِقِي وضع الأمّة المُستَتْبِعة لقيمِ ومواسمِ وعاداتِ الغرب المنافِق قائمةً ذراعًا بذراعٍ فيما نهانا الله عن وَلايتهم واتّباعهم فيه، فنصوص القرآن واضحة وأحاديث الرسول مُوضِّحة وشارِحة، وكفى بالخطيب العزيز أن ينتَصِبَ معلِّماً للنّاس أحكام دينهم في التعامل مع الآخر، مبيِّناً لهم حُدود ما نهى ومساحات ما أمر، مُبِرِزاً لهم في وعيٍ غيرِ شقِيٍّ واقع الحال المُعاصر الذي تقارَبت فيه النِّحَلُ والمِلَلُ، وغطّى ظلام حضارة إحداهاَ على الآخر، وغَشِيها مِن رَذاذِ مسلكياته وأفاعليه وأباطيله وأحواله وقيمه ما غَشِيَها، وأضلَّ معها بيوتاً من بيوت المُسلمين، وأحياناً مِن غير أن يكون لهؤلاء حولٌ فيما أتَواْ ولا قوّة!
تَرى في أعين الحاضرين اندهاشا من العتاب الصَّارم وصواريخ النقد الني يفجِّرها الواعظ من فوق رؤوسهم، وتسْتَقْرِاُ من أوجُهِهِم عُيوناً تدور في محاجرها بحثا عن بصيصِ فهمٍ للخيط الضَّائع بين ما يقول اﻹمام وما هو قائم عليه واقع الحال! يدورُ بخُلدِكَ أنّ أحدَهم يُفكِّر في أخذ نقطة نظام توضيحية يُفرمل بها السَّيل الهادر مِن العتب والغضب والتزمجر اللاَّمحدود الذي يُبْدِيه الواعظ المخْلاف لقيم وسيرة سيّد الوعاظ والدعاة عليه السلام.
وفي ذات الاتجاه؛ يَحْرِصُ درسُ الخطيب على تكرار اللَّومِ على الذَّات، ذات الأمة، ويعتبرها المسؤولة الأولى والأخيرة (مع استحضاره أحياناً للطاقة الشريرة متمثلة في الشَّيطان) عن انهيار معاني الشَّهامة والنخْوة والرجولة فيها؛ حتى غدت تتبع النصارى واليهود والذين أشركوا في كل صغير وكبير وقبيلٍ ودبير، وتشتري الذُّل وتستسْقِي الظّمأ مِن على أبوابهم بإرضائهم والتطبيع معهم والفرح بأفراحهم وانتظار السنة الجديدة بشوق يضاهي شوقهم؛ أو يزيد! قد يكون الواعظ على قدْرٍ مِن الصِّحّة فيمَا يتلوهُ مِن بيانات التنذير والتحذير وتشريح واقع الاستتباع؛ ولكنَّه مخطأ بدرجات مئوية في الطريقة التي يقدم بها فهمه للنصوص وتأويله للأحاديث وعودَته للماضي واستيعابه للتغيرات المجتمعية والسياسية والدينية حتى. مخطأٌ كذلكَ في انتهاج أسلوب الانقضاض على الناس وتسفيه أفهامِهم، وجعْلِهم في سلّةٍ واحدة، والزج بهم في خانة الاتهام، ثم رميهم برصاص التوبيخ وشِرْعَةِ التَّخويف وسُوء المصير؛ فإذا الجميع _ أو هكذا يُخَيَّلُ للمرء _ أمام حالة إعدام سيكولوجاوي لا يُرْضي الله ولا رسوله ولا أئِمَّة المسلمين وعامتهم!
ينقضي الشوط الأول من الهجوم ذي المنحى الخاص (الذاتي) بأدعية تطلب من العلي القدير أن يعيد الأمة إلى جادة الصواب، وأن يعينها على الامتثال لشرع الله، وأن تتوقف عن الزيغ واقتفاء أثر الذين ضلُّوا مِن قبل، وأضَلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل..فادعوه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم؛ آمين !
الاتجاه الثاني:
في المحور الثاني من خُطبة حشْدِ الغضب تُجاه ظاهرة احتفال بعض المُسلمين برأس السنة الجديدة جَرْياَ على ما اسْتَنَّتْهُ النّصارى والضّالين، زعْماً منهم بإيمانٍ ظاهِرٍ برسالة المسيح ووجوده، يُكذِّبُها واقعهم المنحرف عن نهجه وطريقته ودعوته وعمّا جاء به. يَمْهَدُ الواعِظُ لنفسِه بشنّ الهجوم في اتّجاه الآخر الذي كان _ ولا زال _ عدوَّنا الذي لن يرضى عنّا ولو اتّبعنا مِلّته واقتفينا أثره وركِبنا رَكبَه، (ينطلقُ) على إيقاع العودة إلى الماضي النّبيل واستدعاء إرث التحذيرات النبوية الشريفة ونُصوص القرآن المُقدَّسة التي ما فتِأت تُذكِّر بالأباطيل والانحرافات التي طالت منظومة الاعتقاد والسلوك والتّطبيق لدى بعض المغضوب عليهم والضّالّين، وبالتّالي تُحذّر الأمّة من مَغبّة اتّباع الهوى (الأجنبي) وموالاة الفَجَرة وتفضيل مَودَّتِهم على مودّة المؤمنين والمُسلمين. طيّب؛ ذلك مّما يُحمَدُ إيراده ويَحْسُن التّذكير بمضامينه، لكن دونما التّصلُّب هناك؛ والبقاء في القرن الأوّل مع يهود خيبر وبني القيْنُقاع ونصارى العرب ومسيحيّي نجْران ومَن والاهم مِن الأتْباع.
إن القضية شيءٌ آخر، غيرُ الوُقُوف بالنّاس على عتبات التاريخ الكبير الذي أنْجَزت فيه الأمّة شروط استقلالها ومُفاصَلَتها عن طابع الديانات الأخرى وعوائد مُعتَنقيها، وانطلَقت برسالة " الهيمنة والتّصديق " تُدخِل النّاس في دين الله أفواجا، وتعرِض منهجية القرآن التواصلية والعالمية في دعوة النصارى واليهود والذين أشركوا إلى عبادة ربّ العباد، ومِن ضيق العَلمانية إلى سَعة الإسلام الائتمانية، ومِن جور المُتسلّطين إلى رحابَة العادِلين الراشدين، ومن محدودية الدنيا إلى خُلُودية الآخرة. ولكن قضى الله، بأن أتى على أمّة الشهود حينٌ من الدّهْر انقلب عليها ظَهرُ المِجنّ، وانغلق تاريخها الواسع الكَبير وأضحى واقُعها صغيراً ضيّقاً حرِجا أشبهُ بالأزِقّة المُغْلَقة التي لا ينفذُ منها حدَثٌ ولا يمرُّ بها أحدٌ ! استتبع ذلك هجوُمٌ صليبيٌّ حاقِدٌ مُستَخِفٌّ بعقيدة الأمّة وقرآنها وسُنّة نبيّها وتاريخها الزاهر وإسهامِها الوافر، فاهْتَبَل الباغي غَيْبَتَهَا من مسرح الأحداث ونَقَضَ شَيْبَتها وحاوَل هدَّ كيانها، فقَفَز إلى السّطح، وانْساح شَرقاً وغَرْباً في أفق الهيمنة، عن طريق الميركانتيلية تارة، وبالاستعمار العسكري أخرى، وبالحِماية كَرّة، وبالانتداب والوصاية أخرى، وبالقُروض والسياسة والثقافة والإعلام والتكنولوجيا كذلك، إلى أن ملأ الدنيا وشَغَل النّاس _ والمُسلمون بعضُ النّاس _ ضَعُفَت لدى بعضهم المناعة ضدّ الاختراق والاستتباع والاقتداء، فأضحى حالُهم على ما يُرى، فاستَفزَّ خُطباء يَعلمون ظاهِراً من الحياة الدّنيا وهُم عمّا يجري حقيقة فيها لغافلون !
انتقاد الآخر وتسفيهه، والغيرة على الدين والهوية الحضارية للمجتمع أمْرٌ، ومعرِفة تَطلُّبات الواقع والمرحلة أمرٌ آخر، وعليه؛ فإنّ ما قد يُعابُ على مثل هؤلاء الخُطباء هو ما ذكرناه في مُفتَتَحِ مقالنا هذا فيما يتعلَّق بضُعف الاطّلاع والقراءة والانفتاح على مُنتَج الحضارة الإنسانية، والبحث في مُستَجّدات الأديان السماوية وتقسيمات أتباعِها، ومُسايرة نوع الخِطاب المطلوب في التعامُل مع (المغضوب عليهم والضالين) من ساكنة القرن الجديد. نعم؛ يُعاب عليهم الخطأ في القصد، والنّقص في التّصوُّر، والعَجزُ في الطّريقة، طريقة لا يُمكِن أن تخدُم أهداف الخُطبة والدعوة بحالٍ، حيث لا يُمكننا بتاتاً أن ننتصر أو ننتشر " بالغَضب، وطُول العَتَب، وبقواميس الإدانة وحَشْرُ أتباع الأديان الأخرى في صعيدٍ واحد، وتغليب شِرعة التّعنيف على شِرْعة التّخفيف "؛ فذلكَ في تقديرنا لنْ يُعَلِّم جاهِلا ولن يُحفِّز قارِئا ولن يُقيم جُسور التلاقي والحوار بيننا وبين الآخر في السياق المُعاصِر.
المطلوب تفهيم الآخر مِن خلال خُطبَة الجُمُعة وبشكل هادئ بأنّ مَدَارَ ما هو عليه خاطئ، اعتقاداً وعَقلاً وواقِعا، ومِن ثمَّ التّسرُّب اللطيف إلى عوالِم عقله ونفْسِيته لإقناعهِ بتهافُت نموذج المَسحية أو اليهودية التي هو وآلُهُ عليها الآن، وبِصِحِّية تعاليم الإسلام الكريم وصِدقية كتاب الله العَظيم الداعي لهم ولنا على الاجتماع على كلِمةٍ سواء، وعلى دُستور جامع يتمثّل في الدّخول في " السِّلم كافة " سِلم القول والعمل، سلم الأديان والأوطان، سِلم العُمران والإنْسان، سِلم الحاضر والقادم، سِلمٌ يخدُم رسالة الإسلام باعتبارها رسالةً للعالمين (بما فيهم المغضوب عليه والضالين الذين يُقيمون احتفالات رأس السنة الميلادية يا سيدي الخطيب)، وباعتبارها " لُبّ " بعث الرسول والخَتمِ به عليه السلام.
فَبِلَا سَفهٍ ولا تَفَهٍ رحمكم الله، فالقضية شيء آخر، القضية مُثُلٌ وقيمٌ ورِفقٌ وجلبٌ لمصالحَ ودرءٌ لمفاسِدَ، وتقريب وتغليب، وتخفيفٌ وتشريفٌ، وتحقيقٌ لموعود الله في أرضٍ مِلْؤُها الصّلاح والاستقامة والفلاح، والعدل والدّين والإصلاح !
عدنان بن صالح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.