وقدمت المدينة اختصاصات معينة في كل قطاع من المدينة، فالجانب السياسي استقر في البداية بقصبة سيدي المنظري لينتقل بعد ذلك إلى المرافق الجديدة للباشوية (المخزن). قريبا جدا من هذا المكان استقر الحدادون وصناع الأسلحة. بالقرب من المساجد ومراكز التعليم كانت تنجز الأعمال ذات الطابع القانوني أو الديني والتي مع مرور الزمن جاورتها أنشطة تجارية أخرى كبيع البخور والعطور والشموع والكتب وأشغال التجليد. بينما استقرت تجارة السلع الثمينة في هذه الفترة بمحيط باب القيسارية القديم وزنقة الصياغين. قريبا من هذا الصنف التجاري كانت توجد على غالب التقدير بائعي الحرير الخام وخيوط القطن والبياضات. في حوالي نهاية القرن ونتيجة للوضع الاقتصادي والسياسي أصبح الملاح محاطا بالمدينة العتيقة وهو ما حتم نقله إلى المنطقة الجنوبية الغربية للمدينة، على الحدود الجنوبية للفدان الذي كانت حدوده الشمالية مرتبطة بنمو القطاع الشمالي للمدينة العتيقة في اتجاه الغرب. الملاح آنذاك أتم ذوبانه في البلاد وعلى أراضيه ستنطلق أشغال بناء الجامع الكبير وهو ما ستتبعه بنايات أخرى جديدة على أنقاض الملاح البالي. انتقال الملاح لمنطقة أخرى من المدينة يعني تغييرا في الأمكنة التي كان يستعملها اليهود لأنشطتهم الاقتصادية. وهكذا فإن متاجر اليهود في حي الصياغين سيتم نقلها لمكان آخر لعدم توفيرها الضمانات الأمنية اللازمة، والتي كانت موجودة قبل تهديم الملاح البالي. في نفس الوقت فإن بناء الجامع الكبير يعني انطلاق أنشطة جديدة تأخذ مكانها في محيطه وتقترن بالطابع الديني والتشريعي الذي يمثله. وسيتطور الملاح الجديد حسب النمو الحضري الذي ستشهده المدينة العتيقة في تلك الحقبة: فهو سيتوسع اتجاه الشرق إلى أن يلتقي بالمدينة وبعدها سينمو اتجاه الغرب متبعا في ذلك خطوات تطور هذه الأخيرة التي ستتوسع جنوبا في ارتباط حميمي بالملاح الجديد. بهذا الشكل وحوالي 1860 بقيت حدود المدينة العتيقة الشمالية والجنوبية للمدينة العتيقة مرسومة. الناحية الشمالية الشرقية ظلت كما هي تقريبا منذ إنشاء المدينة محدودة بالمقبرتين (الإسلامية وتلك اليهودية) والتي تمتد من باب الجياف حتى حدود القصبة بينما نمو المدينة العتيقة جهة الشرق والجنوب بقي محدودا بانحدار السهل الذي توجد المدينة فوقه. وبينما تبدو الحدود الشمالية والجنوبية والشرقية مشكلة على المستوى المعماري فإن الجهة الغربية تنبي عن مجموعة من الفضاءات الفارغة، التي كان من المفترض في حالة استمرار التطور طبيعيا أن يتم استيعابها من طرف الأجزاء الأخرى للمدينة ولكن الاحتلال الإسباني الناتج عن حرب 60 1859 وبعد نصف قرن من الحماية الإسبانية للمنطقة الشمالية من المملكة المغربية، فإنه تم قطع عملية الاستيعاب المذكورة وذلك تبعا لحاجيات الإدارة الإسبانية، أما الفدان وهي مساحة كبيرة فارغة تم إعدادها حتى يتسنى للمدينة النمو جهة الجنوب والواقع قرب المسلخ القديم، فقد تم امتصاصه من طرف المدينة، وهكذا تعرف المدينة تحولات بسبب سلسلة من الأشغال التي تهدف إلى تسهيل عملية العبور والتنقل بالمدينة العتيقة، وخاصة من أجل تحرك القوات العسكرية والدفاعية بها، من هنا تزويد الناحية الشرقية بطريق جديدة لتسهيل الاتصال بين باب العقلة وباب الصعيدة وباب الجياف، بينما المنطقة الأكثر جلبا للسياح اليوم في تطوان: زنقة الطرافين وسوق الفوقي والغرسة الكبيرة والخرازين هي نتيجة هدم الحقه الجيش الإسباني بغاية فتح قناة للاتصال عرضية بوسط المدينة. وحي العيون وهي المنطقة الأكثر غربية في المدينة والذي كانت تنمو في تلك الفترة انطلاقا منه فقد تم تحطيم شارعه الرئيسي خلال عمليات الغزو. المدينة ستنطلق آنذاك في تطورها في اتجاه الغرب وفي زحفها هذا الناتج عن نموها المستمر ستتجلى الأحداث السياسية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر. الحضور الإسباني في 1860 يعني تغيرا في الاستعمال الحضري للأرض في بعض قطاعات المدينة. وهكذا ففي الجزء المخصص للمسالم العمومية سيتم بناء المسرح الذي ستأحد الساحة إسمه (ساحة ثم اترو) والزاويتان المتواجدتان والفدان سيتم استعمالهما حسب مستلزمات الإدارة الإسبانية وهكذا أصبحت زاوية سيدي بنعيسى مركزا للبريد والتلغراف وزاوية سيدي عبد الله الحاج إلى معبد كاثوليكي الجمارك تم استغلالها كمقر لإقامة الحاكم العسكري وفي قصر السلطان سيقيم القائد الأعلى لقوات الاحتلال، بمعنى أن حي الترانكات الذي تشكل نتيجة زحف المديغة جهة الغرب والذي كان يتميز خلال هذه الفترة بحيويته الكبيرة لإيوائه مرافق دار المخزن وكذا أهم أسواق المدينة، سيتم اختياره مركزا للعمليات من طرف الإدارة الإسبانية خلال سنة الاحتلال. بعد التوقيع على اتفاقية السلام وانسحاب الجيش الإسباني، قام سكان تطوان باستغلال المواد المستعملة في بناء المسرح والمستشفيات وسكنى العسكر لإعادة بناء منازلهم القديمة، وبعد أشهر من ذلك ستتعيد المدينة نموها الطبيعي مما يعسر التعرف على بقايا الاحتلال الإسباني. كشاهد على هذه الأحداث وبعد إحدى عشر سنة سيتم في الفدان وبالضبط في الأرض المسماة ساحة تياترو، بناء القنصلية الإسبانية العامة والكنيسة الكاثوليكية ومستشفى الفرانسيسكان. بينما استعملت أمكنة أخرى استخدمتها الإدارة الإسبانية قبلا في أغراض مختلفة. فسوق الزرع أخذ مكان أفران الإدارة بينما سيستخدم حوالي 1888 الملعب العسكري القديم مسلخا والذي سيصبح فيما بعد مكانا لبيع السمك. لم يؤثر الاحتلال الإسباني بشكل كبير في حياة المدينة، ولكنه مع ذلك أدخل تغييرات في صناعة النسيج والتي ستكون عميقة نوعا ما. وبعد سلام ودراس ستنطلق عملية انفتاح تجاري ستجلب العديد من التجار الأوروبيين وفي الوقت ذاته ستغري التجار بتزويد السوق التطواني بحرير خام مستورد من أسواق أخرى وهو ما يوفر لهم إمكانية المضاربة بشكل افضل. وسيزيد من تردي الوضع إدخال زراعة القطن ونسيجه وهو ما كان ينتجه القرويون ويبيعونه لسكان المدينة. لم يستطع المنتجون التطوانيون الوقوف في وجهه مما نتج عنه تدهور كبير مثله مثل صناعة الكتان التي مع فرض الحماية سنة 1912 ستحاول الإدارة الإسبانية استرجاع الخرائط القديمة للمدينة والتي تم إنجازها في فترة الاحتلال سنة 1860، من هنا ستستعمل حقول حي العيون الواقعة بين باب النوادر وباب التوت كمعسكر للمدفعية، وميدان الخيول سيتم استعماله من طرف الباشوية والمتحف الأركيولوجي. كما أن الأراضي التي تم تعيينها مقرا قنصليا وكنيسة في جنوب الملاح فإنه سيتم تخصيصها لإيواء ثكنات الحرس المدني ومستودعات إدارية ومدارس… هذه المنطقة والملاح ستستقبلان كما كان الحال سنة 1860 عددا كبيرا من الإسبان الوافدين استجابة لحاجيات الإدارة إلى أن تم بناء الإنسانشي جنوب شرق المدينة العتيقة. وسرعان ما ستظهر في المدينة أثار الاستعمار على الاقتصاد. فدخول مواد اوروبية للأسواق وبأثمنة منافسة وكذا التطور الذي عرفته وسائل المواصلات ستحدث تغييرات في نقل البضائع وفي الطرق التجارية. كما أن حاجة المستعمر للمواد الأولية وللأسواق التي يوفرها البلد المستعمر ولكنه لا يريد المواد المصنعة محليا فهذا كانت له أسوء النتائج على الصناعة التقليدية. وهذا ما سيعطي تدهورا في حياة المجموعات الصناعية المحلية سيسفر عن اندثار تدريجي لها. ويلعب القروي المهاجر دورا مهما في الحفاظ على التقاليد والذي نتيجة للإغراء الذي تمارسه عليه المدينة بصفتها عاصمة للحماية والتي تجسد بالنسبة له مخرجا من وضع الفقر الذي يعيشه بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي وليد تعاقب فترات الحصاد الرديئة. بالإضافة إلى هذا فإن وصول الأعداد الكثيرة من موظفي الحكومة الإسبانية لأجل تغطية الحاجيات الإدارية ولتسيير الحماية سبب في البداية في ازدحام في ساكنة المدينة العتيقة إلى حدود انطلاق عملية البناء في "الإنسانشي". كل هذه التحولات ستجعل من المدينة مستقرا لتعايش الأصالة والمعاصرة المستوردة المتمثلة في إدخال أنظمة التعليم الغربية والتي ستتوزع آراء التطوانيين حولها بين مدافع عن التقاليد ومساند للحداثة. التكدس الذي عرفته دور السكن وطرق المدينة العتيقة لتقاطر الوافدين الجدد عليها سيدفع السكان القدامى وخاصة الموسرين منهم إلى هجران منازلهم في النواة القديمة للمدينة والانتقال إلى بنايات جديدة بنيت في "الإنسانشي" تركها الإسبان بعد الاستقلال. هذا ما انتقص من قيمة تقاليد المنازل الكبرى بالمدينة العتيقة لهجرانها من طرف أصحابها وإيوائها لعدد من الأسر المختلفة التي اقتسمتها شققا متنوعة ملحقة الضرر بتركيبتها الأصلية. هذه الدور التي تعيش في هذه الظروف عادة ما تبدو في وضع مزري نتيجة سوء حال صيانتها من طرف أربابها الذين لا يستقرون فيها، ويسبب سوء استعمالها من طرف سكانها الجدد الذين غالبا ما يكونون من البوادي ولا يربطهم أي يربطهم أي انتماء بالمكان كما تنعدم فيهم التقاليد الحضرية. وقد تكيفت المدينة العتيقة تدريجيا مع نمو المدينة بشكل عام كما شاركت في النمو المطرد الذي عرفته تطوان. حاليا فإن التغييرات في أسلوب العيش التي عرفتها المدينة العتيقة تتجلى في هيئتها: تجاوز عدد السكان لما يمكن أن تطيقه بنياتها وعدم اعتناء متواصل في صيانتها. وتعتبر التجارة اليوم النشاط الاقتصادي المهيمن على حياة المدينة حيث يوجد سوقين على الهواء، واحد بزنقة الطرانكات والأزقة المجاورة وآخر بالمحور الذي تلتقي فيه الساقية الفوقية وباب العقلة، وإن كانت الصناعة التقليدية قد فقدت كل أهميتها في الحياة الاقتصادية بتطوان فإنها بالمدينة العتيقة لازالت النشاط المهيمن حيث ترتكز أساسا علىو بيع المنتوجات اليدوية. مورفولوجية حضرية بالرغم من أن بناء المدينةالجديدة بجبل درسة ينطلق من بداية العصر الحديث فإن نوعية البناء تؤكد هوية شعوب الغرب الإسلامي والتي تشكلت عبر القرون الوسطى والتي تتجلى في بنية سوسيوثقافية خاصة بالثقافة الإسلامية خلال الثلث الأخير من القرن الخامس عشر. فالنشاط الاقتصادي المتوارث عن أسلوب العيش الأندلسي تجعل من الصانع اليدوي والتاجر يلعبان دورا جد مهم في التنظيم الاقتصادي والسياسي هذا التنظيم، فإن التجمعات المهنية تصبح ذات أهمية كبيرة المتعارف عليه. ومن أجل السهر على حسن سيره كما تشارك في تشكيل مورفولوجية المدينة. توزيع المساحات بالمدينة العتيقة سيرتبط بنوعية الحرفة، وهو ما سيضفي عليها طابعا خاصا. وبالفعل فإنه تم استغلال الأمكنة المفتوحة من أجل وضع الأسواق التي عادة ما تكون قريبة من المساجد أو أماكن الصلاة حيث يتجمهر الناس، كما أن الصناع يتجمعون حسب حرفهم من أجل وضع منتوجهم رهن التجار في مكان معين وقريب من الأسواق. بهذا الشكل فإن كل حومة تلم داخلها سلسلة من الأنشطة التي تميزها عن الأخريات حسب الاختصاص، كما تجتمع فيها مجموعة من المرافق البلدية الضرورية من أجل ضمان استقلاليتها. المدينة تتشكل أنذاك من سلسلة من الأحياء المتجاورة بملحقات هذه الملحقات تتوفر على المؤسسات الضرورية من أجل سير الحياة الاجتماعية والتي تتجمع حول شارع رئيسي ذي طابع تجاري تشكل عقب تشييد مسجد قريب والذي أعقبه بناء حمام عمومي وفران… وكذا دكاكين لبيع الخضر والفواكه والتوابل الخ. وتنجز الأسواق استجابة للحاجيات، فيما يتعلق بالمكان (تجفيف ودباغة الجلد) والماء (التلوين والدباغة)، من أجل تحضير المواد الموضوعة للبيع. من هنا فإن مواد الحدادة المستعملة في البناء كانت توجد خارج المدينة العتيقة أو بالقرب من أبواب الدخول (باب النوادر). في أحياء المدينة العتيقة فإن المنازل موضوعة حول شارع محوري بأزقته التي لا مخرج لها. الطرق الرئيسية عادة ما تكون جد تجارية وفي الأزقة بدون مخرج توجد معابر الدخول نحو المنازل الخاصة. الدور مفتوحة نحو الداخل والجدران الخارجية عادة ما تخلو من النوافذ. في بعض القطاعات تبدو الطريق مغطاة بسقف خشبي، والذي پسند ممرا يصل بين بناءين على مستوى الطابق الأعلى. في مفترق طرق المدينة عادة ما توجد ساحات صغيرة محاطة بمنازل، هذه الساحات تحمل أسماء تدل على الأنشطة الاقتصادية الممارسة فيها. المدينة تصبح متجانسة عبر تلاصق التجمعات الحرفية الخاصة في كل حي والتي عبر سلسلة من الامتيازات والقوانين وكذا باختصاصات في الحياة الحضرية لا تخلو من حدوث تغييرات عليها من طرف باقي التجمعات الحرفية. في إعمار المدينة فإن طريقة بناء الطرق ارتبط بحركة المارة والحمالين والحيوانات الذين عانوا في الأزمنة السابقة. من هنا فإنه يسهل التعرف على الطرق الرئيسية بالمدينة لكونها أكثر اتساعا، وببلاط أفضل ومنارة بشكل جيد ليلا. بهذا الشكل فإن الظروف السوسيواقتصادية تحث على التعمير مؤثرة على نمو المدينة العتيقة لكونها تشترط وجود وتنوع الحرف كما للحاجة إلى إنشاء مخازن وأماكن تفي بإمكانية تبادل السلع والمنتجات التقليدية. الكتاب: المدينة العتيقة في تطوان "دليل معماري" (بريس تطوان) يتبع..