شهد الميدان الموسيقى، في العقدين الأخيرين، تحولات ملحوظة نحو شكل جديد من الأغاني القصيرة، وتشجيع ألوان موسيقية لا تمت بصلة للألوان المعهودة السّابقة. هذا التحول، أنتج تغيرات جوهرية في الذوق العام والثقافة الموسيقية. فقد انسحبت الأعمال الموسيقية الراقية ذات القيم الفنية والثقافية الرّفيعة تاركة مجال سيادتها للأعمال التجارية التي تركز على الربح السريع والألحان البسيطة. عن هذا الموضوع يحدثنا الأستاذ و الباحث المتخصص في الإيقاظ الموسيقي حسن زغيدة . فما مظاهر هذه التّحولات؟ وما الأثر الذي تخلّفه على الذوق الموسيقي؟ يعتبر زغيدة حسن أنّ أبرز مفاعيل هذه الظاهرة هو انخفاض مستوى الجودة الفنية في الموسيقى. فالأغاني الناجحة، حاليًا، تعتمد على تكرار الجمل الموسيقية والإيقاعات البسيطة التي تجذب المستمعين بشكل سريع وسهل. وهذا ما أدى إلى تراجع الابتكار والإبداع في المجال الموسيقي. وهذا ما يؤكده مارتن وآخرون في دراسة قام بها سنة 2017. فالأغاني التي تحتوي على كلمات سطحية وألحان متكررة تحظى بشعبية أكبر بين الجمهور، مما يدفع الشركات المنتجة إلى التركيز على هذا النوع من الموسيقى على حساب التنوع والإبداع. وعطفا على ذلك، يتسبب التركيز على البساطة والجاذبية التجارية في إهمال القيم الثقافية والفنية العريقة التي كانت تميز الموسيقى في السابق. فالأغاني الشعبية اليوم غالبًا ما تفتقر إلى الرسائل المهمة والمواضيع الاجتماعية أو الإنسانية. هذا التحول يقلل من قدرة الموسيقى على التأثير في المجتمع ونقل القيم الثقافية العميقة. فبحسب دراسة نشرتها مجلة الثقافة والفنون سنة 2020، فإن الموسيقى التجارية الحديثة تفتقر إلى العمق الفني، مما ينعكس سلبًا على الذوق العام ويؤدي إلى تراجع القيم الثقافية. و ما يزيد الطين بلة، حسب المرجعيّة التربوية للمتحدّث نفسه، هو غياب التربية الموسيقية الفعالة في المناهج التعليمية. هذه الأخيرة من الأسباب الرئيسية لتدهور الذوق الموسيقي. فمن المعلوم أن التربية الموسيقية تلعب دورا حاسما في تنمية الذوق الموسيقي وتقدير الفن الجيد منذ الصغر. لهذا، فإنّ عدم اهتمام المدارس بتعليم الموسيقى بشكل صحيح يؤدي إلى نشأة أجيال لا تمتلك القدرة على التمييز بين الموسيقى الجيدة والرديئة. وقد أشار " لي " في دراسة أجراها سنة 2018 إلى أن التعليم الموسيقي يمكن أن يعزز القدرة على التقدير الموسيقي والفني، وهو ما يفتقده الكثيرون بسبب نقص التربية الموسيقية. و يقف زغيدة على سلوك جديد انتشر مؤخرا بفعل تطبيقات مثل "تيك توك" و"يوتيوب"، و التي سهلت على الكثير من الأشخاص تقديم أنفسهم كمغنيين دون الحاجة إلى تدريب صوتي أو معرفة موسيقية. وهذا يخلق نوعا من الوهم بكون النجاح الموسيقي متاح للجميع دون جهد، مما يقلل من قيمة الجهد والتدريب الموسيقي الحقيقي. مستشهدا بدراسة قام بها " سميث " سنة 2019، و التي تشير إلى أن نسبة كبيرة من الفنانين الناجحين حاليًا بدأوا مشوارهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يشير إلى تغير في كيفية تقييم الموهبة والمهارة الموسيقية. لكل الأسباب السابقة، أضحت الموسيقى، بعدما كانت فنا راقيا يسعى إلى تحسين الذوق الفني والثقافي، وسيلة للترفيه السريع والمربح، و هذا ما يقلل من احترام الموسيقى والفنانين الحقيقيين الذين يسعون لتقديم أعمال ذات قيمة فنية عالية. وهذه هي نتائج الدراسة التي أجراها " بيريز " سنة 2021، و التي تم التأكيد فيها على تفضيل الجمهور للأغاني السطحية و اختياره لها على حساب الأعمال الموسيقية الراقية، مما أدى إلى تشويه صورة الموسيقى وفقدانها لجوانبها الفنية العميقة. لهذا، يمكن اعتبار ظاهرة تبسيط الغناء وتشجيع الموسيقى ذات الجودة المنخفضة تحديا حقيقيا أمام الموسيقى كفن راقٍ وثقافة مؤثرة. وإذا استمرت هذه الظاهرة دون معالجة، فإنها ستؤدي إلى تقهقر في مستوى الموسيقى والثقافة العامة. وهنا يلقي المتخصص في الإيقاظ الموسيقي المسؤوليّة على عاتق كلّ من المجتمع والفنانين ليعملوا معا من أجل استعادة قيمة الموسيقى كفن راقٍ، ودعم المواهب الحقيقية التي تسعى إلى الابتكار والإبداع، وتشجيع المستمعين على تقدير الفن الجيد ورفض الأعمال ذات الجودة المنخفضة. و الأهم هو تعزيز التربية الموسيقية في المدارس لتربية جيل قادر على تمييز وتقدير الموسيقى ذات الجودة العالية.