شهد المغرب خلال الخمسة وعشرين عاما الماضية تحولات اقتصادية بنيوية، تمثلت أساسا في الانتقال من اقتصاد تقليدي قائم على الفلاحة وتحويلات الجالية إلى نموذج اقتصادي أكثر تنوعا، تتصدر فيه الصناعة موقع المحرك الرئيسي للتنمية. وفي هذا السياق، وبمناسبة احتفالات عيد العرش، ارتأينا إجراء حوار خاص مع الخبير والمحلل الاقتصادي محمد جدري، لاستجلاء أبرز معالم هذا التحول، واستشراف آفاقه المستقبلية، من خلال قراءة تحليلية معمقة تسلط الضوء على الديناميات الهيكلية التي تقود الاقتصاد الوطني نحو مرحلة جديدة. كيف تقيمون التحول الذي عرفه القطاع الصناعي في المغرب منذ مطلع الألفية الثالثة؟ ما يجب التأكيد عليه أولا، أن الاقتصاد الوطني المغربي، خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، مر من مراحل وتحولات جوهرية في البداية، كان يعتمد بدرجة أساسية على قطاعات تقليدية مثل الفلاحة، الفوسفاط، السياحة، وتحويلات مغاربة العالم. هذه القطاعات شكلت العمود الفقري للاقتصاد لعقود، لكنها لم تكن كافية لتحقيق الإقلاع الصناعي المنشود. أما اليوم، فقد أصبح لدينا اقتصاد أكثر تنوعا فالصناعة باتت تحتل موقعا محوريا، وتشمل قطاعات متقدمة كالسيارات والطيران والنسيج والجلد، إلى جانب الصناعات الغذائية، الإلكترونيات، والميكانيك. هذا التنوع لم يأت من فراغ بل هو ثمرة تراكمات استراتيجية طويلة المدى. كما أن البنية الاقتصادية للمملكة تطورت لتواكب هذه الدينامية. لم نعد نكتفي بشراكات تقليدية مثل فرنسا وإسبانيا، بل أصبح المغرب يرتبط اليوم بشبكة من الشركاء تشمل أوروبا، أمريكا الشمالية، آسيا، وحتى إفريقيا نفسها. هذا التنوع في الشراكات أتاح لنا الانفتاح على أسواق واعدة وتخفيف التبعية لمراكز محدودة. والأهم من ذلك، هو أن هذه الدينامية الصناعية رافقتها تطورات كبيرة في البنية التحتية نتحدث هنا عن الموانئ، خصوصا ميناء طنجة المتوسط الذي غير قواعد اللعبة اللوجستية، وعن النقل السككي وقطار "البراق" فائق السرعة، الذي ربط شمال المملكة بجنوبها الصناعي، وعن شبكات الطرق والمناطق الصناعية الجديدة الممتدة من بني ملال إلى آسفي، ومن القنيطرة إلى طنجة. كما لا يمكن الحديث عن التحول الصناعي دون الإشارة إلى العنصر البشري فالمغرب اليوم يتوفر على مهندسين وأطر تقنية ومهنية عالية الكفاءة في مختلف التخصصات، وهو ما يجعل المستثمرين الدوليين يجدون مناخا جاهزا للإنتاج في قطاعات معقدة مثل الطيران أو الصناعات الدقيقة. إلى أي حد ساهمت التوجيهات الملكية والمخططات الصناعية في تغيير بنية الاقتصاد المغربي؟ لا يمكن فهم هذا التحول الصناعي إلا في إطار الرؤية الملكية الواضحة منذ مطلع الألفية، والتي ترجمت إلى برامج ومخططات متتالية من قبيل ميثاق الإقلاع الصناعي ومخطط التسريع الصناعي، هذه المخططات لم تكن مجرد شعارات، بل حملت أهدافا كمية واضحة ومسارات تنفيذ دقيقة، ومؤشرات تتبع منتظمة. اليوم نطمح لمضاعفة الناتج الداخلي الخام من حوالي 130 مليار دولار سنة 2021 إلى 260 مليار دولار بحلول 2035. للوصول إلى هذا الهدف تم تحديد محطات مرحلية دقيقة تشمل بلوغ إنتاج مليوني سيارة "حرارية وكهربائية"، واستقبال 26 مليون سائح، وتحقيق قفزة نوعية في مساهمة القطاع الخاص في الاستثمار، مع الحفاظ على دور الدولة كمستثمر مكمل لا مهيمن. هذه الرؤية تقوم أيضا على إدماج الطاقات المتجددة والصناعة الخضراء في المعادلة، ما يجعل الاقتصاد المغربي أكثر قدرة على الصمود أمام التقلبات الدولية. ما الخصائص التي تميز المقاربة المغربية في تطوير الصناعة مقارنة بباقي الدول الإفريقية؟ المقاربة المغربية فريدة من نوعها لأنها تقوم على التوازن بين الطموح الاقتصادي والاستقرار المؤسساتي. فبينما تواجه بعض الدول الإفريقية مشاكل في البنية التحتية أو في محاربة الفساد، المغرب استثمر في الأساسيات: الموانئ، الطرق، السكك، التكوين، والموارد البشرية. إضافة إلى ذلك، المغرب لم يكتف بانتظار المستثمر، بل ذهب إليه بخريطة طريق واضحة ومناطق صناعية مجهزة وبيئة قانونية محفزة. التجربة المغربية تميزت أيضا بالقدرة على التخصص: كل جهة في المملكة باتت تتوفر على قطب صناعي موجه نحو قطاع معين، وهذا يمكن من خلق تكامل داخل النسيج الصناعي الوطني. هل يمكن القول إن المغرب أصبح فعليا "زعيما صناعيا" في إفريقيا؟ يتقدم المغرب بثبات نحو هذا الهدف اليوم يعد من أكبر منتجي السيارات في إفريقيا، ولديه طموح لبلوغ سقف مليوني وحدة سنويا. أيضا في صناعة الطيران المملكة تنتج أجزاء تستعمل في الطائرات العالمية، إضافة إلى ريادتها في قطاعات النسيج، الجلد، الأسمدة والإلكترونيات. كما أن التموقع الصناعي المغربي لا يقاس فقط بالإنتاج، بل كذلك بالقدرة على التصدير، وجذب الاستثمار الأجنبي وخلق فرص الشغل، وهو ما تحقق فعليا في العقدين الأخيرين. كيف تقارنون تجربة المغرب بتجربة دول مثل جنوب إفريقيا أو مصر؟ استطاع المغرب بناء نموذج تنموي صاعد رغم غياب الموارد الطاقية فجنوب إفريقيا تعاني من تدهور مستمر في بنيتها الاقتصادية بسبب مشاكل الفساد وأزمة الكهرباء، بينما تواجه مصر مديونية مرتفعة ومجموعة من التحديات الهيكلية. في المقابل، المغرب يحقق التوازن بين محدودية موارده الطبيعية وبين تنمية حقيقية على الأرض. وذلك بفضل استراتيجية واضحة تراهن على الاستقرار، وعلى موقعه كمنصة عبور نحو إفريقيا. هل يستفيد المغرب من هذا التقدم الصناعي في علاقاته جنوب-جنوب؟ طبعا. المشاريع المهيكلة التي تم إطلاقها في الأقاليم الجنوبية، مثل طريق تزنيت–الداخلة، تهدف لتسهيل عبور السلع والبشر بين أوروبا وإفريقيا. خط أنبوب الغاز المغربي–النيجيري، والمبادرة الأطلسية لمنح منفذ بحري لدول الساحل الإفريقي تظهر بوضوح إرادة المغرب في أن يكون حلقة وصل حقيقية بين شمال القارة وغربها. هذا التموقع الجغرافي والدبلوماسي يمنح المغرب مكانة ريادية في علاقات التعاون جنوب–جنوب، ويؤهله لأن يلعب دور بوابة الاستثمار الدولي نحو القارة. ما الأسباب التي جعلت من صناعة السيارات والطيران قطاعات متقدمة في المغرب؟ السر في ذلك هو التقاء ثلاثة عناصر: بيئة لوجستية فعالة "الموانئ والمناطق الصناعية"، موارد بشرية مكونة ومؤهلة ووضوح استراتيجي لدى الدولة. بالإضافة إلى منظومة من الحوافز والاتفاقيات التي تفتح أبواب التصدير نحو أسواق كبرى. إلى أي مدى يمكن للصناعة الخضراء والطاقات المتجددة أن تشكل رافعة للتموقع الصناعي؟ الطاقات المتجددة أصبحت ضرورة خصوصا في ظل الفاتورة الطاقية الثقيلة التي فاقت 15 مليار دولار سنة 2022. كما أن الاتحاد الأوروبي هو شريكنا التجاري الأول يقبل على فرض معايير الكربون، ما يفرض علينا ملاءمة صناعتنا. فالرهان على الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية والريحية، سيمكن المغرب من تلبية حاجياته داخليا، وتحقيق اكتفاء صناعي طاقي بل وتصدير الفائض. ما موقع الصناعات الصغيرة والمتوسطة في هذه الدينامية؟ الصناعات الصغيرة والمتوسطة بدأت تجد موطئ قدم لها، خاصة في سلاسل التوريد الخاصة بالسيارات والنسيج. لكننا بحاجة إلى مزيد من الدعم، لأن تحقيق اقتصاد قوي لا يتم إلا بقاعدة صلبة من المقاولات المحلية. ما أبرز التحديات التي تواجه الصناعة المغربية؟ أبرز التحديات هي ندرة المياه وارتفاع أسعار الطاقة. كما أن تحسين مناخ الأعمال، وتبسيط المساطر الإدارية، وتطوير منظومة البحث والتطوير تبقى ملفات لا بد من الاشتغال عليها لضمان تنافسية دائمة. هل يخدم التقارب مع أوروبا وإفريقيا هذا المشروع الصناعي؟ دون شك. التقارب مع الاتحاد الأوروبي يدفعنا نحو تحسين الجودة، ومعايير البصمة الكربونية، بينما تقوي الاتفاقيات مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء موقعنا كممر طبيعي ورائد إقليمي.