يُمثّل المغرب اليوم إحدى أبرز الحالات العلمية التي تسلّط عليها البحوث الدولية الضوء في ما يتعلق بتلوّث التربة والنباتات بالمعادن الثقيلة، بعدما كشفت دراسة جديدة نُشرت بمجلة "ساينتيفيك ريبورتس" التابعة لمجموعة "نيتشر" أن مدينة آسفي، بما تضمه من مناطق حضرية وصناعية وزراعية متجاورة، تشكّل نموذجاً مركباً لفهم كيف تتراكم عناصر سامة مثل الكادميوم والرصاص والكروم والنحاس والزنك في التربة والنباتات، وكيف تنتقل عبر السلسلة الغذائية، وهو ما يجعل المغرب في قلب نقاش علمي دولي حول المخاطر البيئية الناجمة عن الأنشطة الصناعية الحضرية. ووفقاً للدراسة المنشورة، في 30 أكتوبر 2025، تحت عنوان " تقييم تركيزات المعادن النزرة في تربة ونباتات المناطق الحضرية وشبه الحضرية بمدينة آسفي، المغرب" فإن مستويات التلوث المقاسة في عدد من المواقع داخل آسفي تتجاوز بشكل واضح المناطق السليمة، وتصل في بعض الحالات إلى مستويات تستوجب تدخلاً بيئياً عاجلاً، بحسب ما توصّل إليه فريق البحث التابع لجامعة القاضي عياض بمراكش.
وتعني "المعادن النزرة" تلك االعناصر المعدنية الموجودة في التربة أو الماء أو الهواء أو النباتات بكميات صغيرة جداً (نُزْر قليل)، لكنها رغم تركيزاتها المنخفضة قد تكون ضارة أو سامة إذا تراكمت، مثل الكادميوم، الرصاص، الكروم، النحاس، الزنك… منطقة الفوسفاط الأعلى تلوثا، وسيدي بوزيد نظيفة تُعدّ هذه الدراسة، التي أنجزها الباحثون ابتسام منضري وهشام الخليل وعلي بُولرباح من مختبر البحث متعدد التخصصات في الموارد البيولوجية والبيئة والمواد ومختبر السلامة الصحية للأغذية بكلية العلوم والتقنيات بمراكش، واحدة من أكثر الدراسات تفصيلاً حول التلوث الحضري في المغرب، إذ قامت بقياس تراكم المعادن الثقيلة في التربة والنباتات عبر أربع مناطق رئيسية في مدينة آسفي: منطقة قرب مصنع الإسمنت، ومنطقة قرب المطرح العشوائي، ومنطقة مجاورة لوحدة معالجة وتحويل الفوسفاط، إضافة إلى منطقة مراقبة غير ملوّثة في سيدي بوزيد اعتُمدت كمرجع أساسي للمقارنة. وتؤكد الدراسة أنّ أعلى مستويات التلوث سُجّلت في المنطقة الصناعية الخاصة بمعالجة الفوسفاط، وهو قطاع يرتبط تاريخياً بالأنشطة الاقتصادية الكبرى في المدينة، لكنه في الوقت نفسه يخلّف آثاراً بيئية معقدة. ويكشف التقرير العلمي أن التربة في منطقة الفوسفاط تحتوي تركيزات مرتفعة للغاية من المعادن الثقيلة، من بينها 102 ملغ/كغ من الكروم و 148.7 ملغ/كغ من الزنك و 4.8 ملغ/كغ من الرصاص، وهي أعلى قيم تم رصدها في كامل المناطق الخاضعة للمسح، بينما وصلت مستويات الكادميوم إلى 1.8 ملغ/كغ، وهي قيمة تفوق مستوى المنطقة المرجعية بأضعاف وتقترب من الحدود القصوى المسموح بها دولياً. وتوجد هذه العناصر عادة في مخلفات صناعات الأسمدة والفوسفاط، كما تشير دراسات دولية عديدة إلى أنّ خام الفوسفاط الطبيعي يحتوي بشكل طبيعي على عناصر معدنية قابلة للانتقال إلى البيئة خلال عمليات التصنيع، وهو ما تؤكده الدراسة المغربية بشكل ميداني. ومقابل ذلك، أظهرت منطقة المطرح العشوائي بدورها مستويات مرتفعة نسبياً من الملوثات، وإن كانت أقل من منطقة الفوسفاط، إذ بلغ تركيز الكروم مثلاً 78.5 ملغ/كغ بينما وصل الزنك إلى 88.9 ملغ/كغ، فيما تبيّن أنّ منطقة مصنع الإسمنتتضم مستويات أقل من المنطقتين السابقتين لكنها مع ذلك أعلى بكثير من المنطقة غير الملوثة، خصوصاً فيما يتعلق بالنحاس والرصاص والزنك، ما يعكس تأثير الانبعاثات الجوية المرافقة للصناعات الإسمنتية، والتي سبق أن وثّقتها دراسات متعددة في بلدان مختلفة. بناء على هذه المعطيات، يصنّف الباحثون ترتيب مناطق التلوث بالأولوية كما يلي: منطقة الفوسفاط هي الأكثر تلوثاً، تليها منطقة المطرح العشوائي، ثم منطقة مصنع الإسمنت، فيما جاءت منطقة سيدي بوزيد النظيفة في المرتبة الأخيرة كمنطقة مرجعية سليمة. وتستمد هذه النتائج أهميتها من كون الدراسة لا تتوقف عند تحليل التربة فقط، بل تمتد إلى دراسة النباتات المنتشرة في هذه المناطق، لما تمثّله من قناة رئيسية لانتقال المعادن الثقيلة إلى الإنسان عبر السلسلة الغذائية أو عبر تغذية الماشية. تناول نباتات من تربة ملوثة يؤثر على الجهاز العصبي وقد جُمعت عينات من ستة أنواع نباتية شائعة في آسفي: الكاليبتوس، الديفلة، التين، الفصة، الخردل البري، وذيل البحر. وتبين أن بعض هذه النباتات، خصوصاً تلك المجاورة لوحدة الفوسفاط، تحتوي تركيزات مرتفعة من المعادن يمكن أن تصل إلى 19.9 ملغ/كغ من الزنك في أوراق الكاليبتوس و 1.826 ملغ/كغ من النحاس في نبات الخردل البري، إضافة إلى مستويات قياسية من الرصاص والكادميوم. ويشير الباحثون إلى أن الخردل البري يُعد من أكثر النباتات قدرة على امتصاص المعادن، ويُشكل تواجده الواسع في المنطقة خطراً لأنه يستخدم في تغذية المواشي في بعض الحالات، ما يفتح الباب أمام انتقال الملوثات إلى اللحوم والحليب. وفي ما يتعلق بخطورته على الصحة العامة، تحذّر الدراسة من أنّ بعض النباتات تجاوزت الحدود القصوى المسموح بها دولياً بالنسبة للكادميوم، خصوصاً النباتات المأخوذة من منطقة الفوسفاط، حيث سُجلت مستويات تصل إلى 0.4 ملغ/كغ، بينما الحد الأقصى الذي تضعه منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة هو 0.1 ملغ/كغ فقط. ويشير الباحثون إلى أنّ تناول نباتات أو محاصيل مزروعة في تربة ملوثة قد يؤدي إلى انتقال هذه العناصر إلى الإنسان، مسبباً مخاطر تمتد من التأثير على الجهاز العصبي إلى اضطرابات الكلى والكبد، إضافة إلى التأثيرات المسرطنة لبعض المعادن كالكروم والرصاص. مؤشر تحميل التلوث يرتفع ل 22.8 في منطقة الفوسفاط وتكشف الدراسة عن علاقة مباشرة بين مستوى التلوث في التربة ودرجة امتصاص المعادن في النباتات، إذ تظهر ارتباطات إحصائية قوية تتراوح بين 0.63 و0.98 وفق اختبارات الارتباط التي أجراها الباحثون، وهو ما يعني أن زيادة تركيز المعادن في التربة تؤدي بشكل شبه تلقائي إلى ارتفاعها داخل أجزاء النبات المختلفة، سواء في الأوراق أو الجذور. ويؤكد هذا الترابط العلمي ما سبق أن أعلنه الباحثون في دراساتهم السابقة حول مراكش والمناطق المنجمية، لكن الجديد في هذه الدراسة هو تأثير الصناعات التحويلية للفوسفاط والمطامر العشوائية على البيئة الحضرية، وهو ملف نادراً ما تناولته أبحاث ميدانية بهذا القدر من الشمول. أما فيما يتعلق بالتبعات البيئية بعيدة المدى، فقد استخدم الباحثون مؤشر "تحميل التلوث" الذي يُعد من أكثر الأدوات العلمية استعمالاً لتقييم مستوى تدهور التربة، وتبين وفق الحسابات أن منطقة الفوسفاط حصلت على 22.8 وهو رقم يصنف المنطقة باعتبارها ملوّثة بشكل كبير ويستوجب تدخلاً عاجلاً لمنع تدهور بيئي متسارع، بينما سجلت منطقة المطرح العشوائي 17.1 ومنطقة الإسمنت 13.4، وهي أرقام تضع المناطق الثلاث داخل نطاق التلوث العالي، في حين بقيت منطقة سيدي بوزيد المرجعية ضمن الوضع الطبيعي. وتوضح الدراسة أن ارتفاع هذه القيم مرتبط بارتفاع تركيز خمسة معادن سامة رئيسية: الكادميوم والرصاص والكروم والنحاس والزنك، وهي العناصر التي تشكل الأساس الحسابي لهذا المؤشر الدولي. ويُعدّ مؤشر "تحميل التلوث" (PLI) أداة علمية لقياس درجة تدهور التربة، إذ يعتمد على حساب المتوسط الهندسي لعوامل التلوث المختلفة، ويُفسّر وفق قاعدة تقوم على أن القيم الأقل من 1 تعكس تربة غير ملوّثة، بينما تشير القيم الأكبر من 1 إلى وجود تلوث تتصاعد حدّته كلما ارتفع المؤشر. النباتات في المنطقة الملوثة تعاني إجهاداً وقاس الباحثون نشاط إنزيم الفوسفاتاز داخل أوراق النباتات، وهو مؤشر حيوي يكشف مستوى الضغط السام الذي تتعرض له النباتات. وأظهرت النتائج أن النباتات الموجودة قرب منطقة الفوسفاط سجّلت أضعف نشاط إنزيمي، حيث تراوح بين 0.3 و0.9 ميكرومول في الدقيقة للغرام الواحد، مقابل نشاط أعلى بكثير في المنطقة النظيفة التي بلغت فيها المستويات ما بين 0.6 و2.5. ويعني ذلك أن النباتات في المنطقة الملوثة تعاني إجهاداً واضحاً يقلل من قوتها الحيوية وقدرتها على النمو، وهو دليل إضافي على التأثير البيئي الخطير للمعادن الثقيلة. وتتعمق الدراسة أيضاً في تحليل الرواسب الجوية المعدنية من خلال غسل أوراق النباتات بالماء المقطر وتحليل الماء الناتج، وهو أسلوب علمي لرصد الملوثات المحمولة جوّاً. وتكشف النتائج أن مستويات الرصاص في ماء غسل أوراق الكاليبتوس في منطقة الفوسفاط بلغت 0.4 ملغ/لتر، وهي نسبة تعادل 23% من إجمالي الرصاص المتراكم داخل الورقة نفسها، ما يدل على أن جزءاً معتبراً من التلوث لا يأتي من التربة فقط، بل من الغبار الصناعي المحمول عبر الهواء، وهو ما يعزز فرضية انتقال المعادن عبر الانبعاثات الفوسفاطية والإسمنتية. ومع أن الدراسة تُظهر بوضوح مساهمة الصناعات الكبرى في آسفي في هذا التلوث، فإنها تحذر أيضاً من أن التوسع العمراني والأنشطة المنزلية والممارسات الفلاحية في المساحات الحضرية كلها عوامل تضيف طبقات أخرى من الضغط البيئي، وأن الحل لا يمكن أن يكون فَنياً فقط، بل يتطلب مقاربة شاملة تجمع بين تحديث تقنيات المعالجة الصناعية، وإنشاء مطارح مراقبة، ومراقبة جودة الهواء، وتوعية السكان، وإعادة النظر في الزراعات الحضرية التي تُمارس قرب مواقع ملوّثة. وتقدم الدراسة في خاتمتها توصية مركزية مفادها أن آسفي تحتاج إلى تدخل بيئي متعدد المستويات يشمل تحديد مناطق يُمنع فيها الرعي أو الزراعة، ومراقبة مستمرة لجودة التربة والمياه الجوفية، وربط المعطيات البيئية بالمخاطر الصحية المحتملة على السكان. كما يدعو الباحثون المؤسسات الحكومية إلى اعتماد نظام مراقبة دوري لتراكم المعادن الثقيلة، لأن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى "تدهور بيئي متصاعد" وفق تعبيرهم، خصوصاً إذا لم تُتخذ إجراءات للحد من انبعاثات الصناعات الثقيلة. وتبرز أهمية هذا البحث ليس فقط في كونه يقدم مسحاً علمياً غير مسبوق لمدينة آسفي، بل لأنه يمثل نموذجاً لما يمكن أن تواجهه مدن مغربية أخرى ذات نشاط صناعي، ما يجعل المغرب في موقع متقدم ضمن الدول التي توفر بيانات علمية دقيقة حول التلوث الحضري. وتفتح هذه الدراسة الباب أمام بحوث مستقبلية حول تأثير المعادن الثقيلة في الصحة العامة والبيئة، وتضع في يد صانعي القرار معطيات كمية قد تُسهم في رسم سياسات بيئية أكثر صرامة وفعالية.