"إن افتتاح السنة التشريعية ليس مجرد مناسبة دستورية، للتوجه لأعضاء البرلمان، وإنما هو منبر أتوجه من خلاله، في نفس الوقت للحكومة والأحزاب، ولمختلف الهيئات والمؤسسات والمواطنين. كما أنه أيضا لا يشكل فقط، فرصة لتقديم التوجيهات، والنقد أحيانا، بخصوص العمل النيابي والتشريعي، بل هو منبر أستمع من خلاله لصوت المواطن، الذي تمثلونه". من خطاب جلالة الملك بمناسبة افتتاح دورة شهر أكتوبر للسنة الماضية بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس
من المنتظر أن تفتتح الدورة البرلمانية الثانية من السنة التشريعية الجارية، بعد غد الجمعة، حيث سيترأس جلالة الملك محمد السادس مراسم الدخول البرلماني الجديد، الذي يحظى بتتبع واهتمام كبيرين من لدن الرأي العام الوطني ووسائل الإعلام ومختلف الأوساط السياسية والمجتمعية. إن رئاسة جلالة الملك لافتتاح دورة أكتوبر البرلمانية، المحدد موعدها دستوريا في يوم الجمعة الثانية من هذا الشهر، تكون متميزة بخطاب ملكي سام، يتناول قضايا حيوية بالنسبة لأوضاع البلاد وبالنسبة لعمل مؤسساتها التشريعية والتدبيرية، وكذا قضايا المواطنين وانتظاراتهم وتطلعاتهم. وبالعودة إلى الخطب الملكية السابقة، في هذه المحطة، يقف المتتبع على حقيقة ما شكلته من سند قويم، وما أعطته من توجيه سديد لمسار البلاد، وما أكدت عليه سواء على مستوى رسم معالم الطريق أو على مستوى تحديد منهجية العمل، بشكل ناجع وفعال، وعلى كل ما يهم تدبير الشأن العام، والبناء المؤسساتي، والشأن الانتخابي، والسهر على خدمة مصالح المواطنين، وتوطيد وتعزيز المكتسبات الديمقراطية. وبالإضافة إلى هذا العنصر الهام بالنسبة لخارطة الطريق وللعمل الميداني، فهناك ما يخص المهام المباشرة والمحددة على ضوء معطيات المرحلة ومتطلباتها، وبالنسبة للدورة الجديدة، فكل الدلائل تشير إلى الأهمية الكبرى لما هو منتظر منها في مجال التشريع وغيره، وتكفي الإشارة هنا إلى عنصرين اثنين: الأول يتعلق بمعطيات الظرفية السياسية، على الصعيد الوطني كما على الصعيدين الجهوي والدولي، حيث إن كل المؤشرات تفيد بأن الأشواط الهامة التي قطعها المغرب على طريق تجربته الديمقراطية تجعله اليوم مرشحا لاحتلال مركزه المستحق في نادي الديمقراطيات الصاعدة والمتقدمة، مع كل ما يعنيه ذلك من الحاجة إلى المزيد من تطوير وتقوية الممارسة والثقافة الديمقراطيتين، الأمر الذي ينبغي أن يتبلور بجلاء على صعيد المؤسسات وداخل فعاليات المجتمع وعلى ساحة المشهد السياسي … وبجانب المهام الداخلية، هناك المهام الكبرى المطروحة أمام بلادنا في التصدي للتحديات والرهانات الخارجية، سواء منها تلك القائمة على النطاق الجهوي أو الإقليمي أو الدولي، التي تتعاظم مع الأدوار الحيوية التي صار المغرب يضطلع بها لفائدة قارته الإفريقية، وفي الحقل الدبلوماسي والمحافل الدولية من أجل القضايا العادلة واستتباب الأمن والاستقرار، وتمتين جسور الحوار والتعايش والتسامح بين مختلف الشعوب والأمم. العنصر الثاني، ويهم موقع ووظيفة المؤسسة البرلمانية نفسها، ذلك أن الخيار الديمقراطي الذي سار عليه المغرب، وجعله من ثوابته، يعطي لهذه المؤسسة مكانة أساسية ورمزية عميقة في البناء المؤسساتي، وفي الممارسة الفعلية للديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، وذلك عبر اختصاصاتها المستمدة من مقتضيات الدستور واختيارات الأمة المغربية، سواء في مجال التشريع أو المراقبة، أو عبر حضور البرلمان ومبادراته في العمل السياسي أو ما يهم الحقل الدبلوماسي أو الاقتصادي، الخ.. وما من شك في أن هذه المكانة، والأدوار والمهام المسندة للمؤسسة البرلمانية، تفرض عليها الكثير من الوعي بأهمية كل ذلك وما يستوجبه على عدة واجهات وفي سياقه العملي، ولاسيما من خلال نهج مقاربة تلتزم ب: = التكامل بين المؤسسات، بما في ذلك العلاقة، وضمان التنسيق بين الغرفة الأولى والغرفة الثانية للبرلمان والتعاون والتفاعل الإيجابي مع باقي المؤسسات، وخاصة بين السلطة التشريعية والتنفيذية. = حرص البرلمان على جعل قضايا الوطن والمواطنين، والمشاكل الحقيقية للمجتمع حاضرة على الدوام في أشغاله ومبادراته واهتماماته. وبالنسبة لما هو منتظر من الدورة الجديدة تحديدا، فمن المؤكد أن أجندة عملها مكثفة وحافلة بملفات ومشاريع ومواعيد غاية في الأهمية، فخلال الأيام القليلة القادمة سيتوصل البرلمان بمشروع قانون المالية لسنة 2017، الذي له أهمية خاصة بالنظر إلى ما ينتظر منه في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، حيث من المؤمل أن يساهم في تجاوز بعض الاختلالات والتعثرات، وأن يأتي بما يساعد على إطلاق دينامية جديدة تدعم وتسرع وتيرة التنمية. وفي مجال الدبلوماسية البرلمانية، وتعزيز صورة المغرب والدفاع عن حقوقه ومصالحه الوطنية، فلا شك أن المؤسسة البرلمانية لها دورها الكبير في العمل والمبادرة على الساحة الخارجية وداخل المحافل والاتحادات البرلمانية، وخاصة مع الفعاليات البرلمانية الإفريقية التي عقدت لقاء لها بالرباط خلال صيف هذه السنة، ومع البرلمان الأوروبي حيث ينبغي تعزيز العمل التواصلي والسياسي لمواجهة وتفنيد أطروحات وافتراءات خصوم القضية الوطنية. ثم هناك العمل المطلوب في سياق استكمال ورش تنزيل مقتضيات الوثيقة الدستورية، بما فيها ورش الجهوية المتقدمة، وهو ورش يعرف الجميع أهميته السياسية والمؤسساتية، مما سيتطلب من كل مكونات البرلمان بغرفتيه، العمل على إنجاز الخطوات المتبقية بالكثير من الحكمة والتبصر، وبما يرسخ ويعزز تراكمات البناء الديمقراطي. أما بشأن مناخات العمل وآلياته السياسية والتنظيمية، فلابد من ملاحظة أن هذه الدورة تأتي بعدما نجح مجلس النواب في الوصول إلى إدخال عدة تعديلات على نظامه الداخلي "وصلت إلى 172 تعديلا "، وقد صادقت المحكمة الدستورية على نص وثيقة النظام المعدل التي من وظيفتها تنظيم أشغال وممارسة المؤسسة البرلمانية لاختصاصاتها. ومعلوم أن الفرق البرلمانية بهذا المجلس سبق وأن دعت، منذ الولاية السابقة، إلى هذا التعديل الذي تطلبت صياغته 5 أشهر من العمل والنقاش، والذي يرى فيه ممثلو الأمة والمتتبعون للشأن البرلماني، إمكانية إضافية لتطوير الأداء البرلماني وتجويد منتوجه في انسجام تام مع المستجدات الدستورية. وفي هذا الاتجاه، جاءت التعديلات الجديدة التي تم إدخالها على النظام الداخلي لمجلس النواب بمجموعة من المقتضيات والمستجدات التي تساعد على الارتقاء بالأداء البرلماني وتطويره على أكثر من واجهة، وخاصة في ما يهم وظيفته الرقابية"، من قبيل تمكين أعضاء المجلس من متابعة ما تلتزم به الحكومة أمام الرأي العام، إمكانية عقد دورة استثنائية حول تقرير تقصي الحقائق، إحداث لجان مختصة جديدة …". ومن نافلة القول إن منظومة مراقبة البرلمان للعمل الحكومي تبقى بمثابة العين الساهرة على ضمان حسن تدبير الشأن العام، وعلى احترام السلطة التنفيذية لالتزاماتها، وعلى تقويم أي اعوجاج، وبالطبع فإن الرقابة والمراقبة الذاتية هي التدابير العادية في دولة القانون والمؤسسات، وهي توأم مبدأ " ربط المسؤولية بالمحاسبة " الذي أكدت عليه الخطب الملكية الأخيرة. ولعل أبلغ وأدق حديث عن مناسبة افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان، هو ما خاطب به جلالة الملك السادة البرلمانيين، في مثل هذا الشهر من السنة الماضية، قائلا: "إن افتتاح السنة التشريعية ليس مجرد مناسبة دستورية، للتوجه لأعضاء البرلمان، وإنما هو منبر أتوجه من خلاله، في نفس الوقت للحكومة والأحزاب، ولمختلف الهيئات والمؤسسات والمواطنين. كما أنه أيضا لا يشكل فقط، فرصة لتقديم التوجيهات، والنقد أحيانا، بخصوص العمل النيابي والتشريعي، بل هو منبر أستمع من خلاله لصوت المواطن، الذي تمثلونه".
من هنا، وباستعراض سريع للمشهد البرلماني يتضح بأن الاهتمام بتطوير الأداء البرلماني، كما ونوعا، ليس ترفا، بل هو من صميم متطلبات وشروط تأهيل وتقوية فعالية المؤسسات الوطنية، ومنها بالذات المؤسسة البرلمانية التي أضحت تتمتع بمستوى متقدم بموقعها وباختصاصاتها التي تجعلها ركيزة أساسية في البناء الديمقراطي، وفي مواجهة التحديات الراهنة بما يجعل عملها ومبادراتها تتجاوز المفاهيم "الكلاسيكية"، أو الضيقة، للعمل البرلماني.