كشفت ازمة جزيرة ليلى، المقابلة لساحل عمالة المضيقالفنيدق، حدود التوتر الكامن في العقل السياسي الاسباني حين يتعلق الامر بتحركات مغربية رمزية تمس نقاطا بالغة الحساسية في الوعي الاستعماري القديم. وبعد اكثر من عقدين على الواقعة التي اثارت مواجهة خاطفة بين الرباطومدريد في يوليوز 2002، عاد وثائقي بثته شبكة RTVE الاسبانية ليسلط الضوء على الكيفية التي نجح بها المغرب، عبر مناورة محدودة، في جرجرة رئيس الحكومة الاسبانية حينها، خوسيه ماريا اثنار، الى مواجهة غير متكافئة، كشفت استعداده المفرط للتصعيد دفاعا عن صورته السياسية اكثر من دفاعه عن مصلحة سيادية فعلية. وتضمن الوثائقي المعنون ب "بيريخيل، الحرب التي لم تكن"، شهادة لصحفيين مغاربة نقلوا عن مستشار مقرب من الملك محمد السادس قوله ان خطوة الانزال المحدود فوق الجزيرة كانت "افضل وسيلة لاغاظة اثنار". عبارة بدت في ظاهرها شخصية، لكنها عكست رصدا دقيقا لهشاشة الزعيم اليميني الذي تعامل مع التحرك المغربي كاهانة لسلطته، لا كرسالة سياسية يمكن احتواؤها. وبينما اختار المغرب الصمت وعدم الرد على عملية الاسترجاع العسكرية التي قامت بها القوات الاسبانية، بدا اثنار مستعدا لتوظيف كامل الترسانة الدفاعية للدولة من اجل صد ما وصفه بالتهديد، رغم ان الامر لم يتعد ساعات من الحضور الرمزي فوق موقع صخري غير مأهول. اثنار نفسه اعترف في الوثائقي بانه هو من اصدر الامر بتنفيذ عملية "روميو سييرا"، مضيفا انه كان مستعدا لتقديم استقالته في حال فشل التدخل. وهي جملة تفضح منطق الزعامة المنفعلة التي ترهن مصير الحكومة بانجاح عملية محدودة الاثر، لكنها عالية الرمز. فالمغرب لم يطلق رصاصة واحدة، ولم يصدر خطابا ناريا، لكنه في المقابل نجح في اسقاط ورقة التوت عن زعيم يساري سابق تحول الى ايقونة يمينية مهووسة بالردع. وقد اضاف الوثائقي بعدا اكثر حساسية حين كشف ان الرئيس الفرنسي جاك شيراك اقترح، خلال الايام التي تلت الازمة، تسليم سبتة ومليلية والصحراء الى المغرب كمدخل لحل دبلوماسي شامل. ورفض اثنار المقترح واعتبره تدخلا غير مقبول في السياسة الخارجية لبلاده. لكن مجرد طرح مثل هذا الخيار من طرف حليف استراتيجي مثل فرنسا، اخرج النقاش من اطاره الاسباني الداخلي، واعاد طرح قضية المدينتين المحتلتين ضمن دائرة النزاع السياسي الذي طالما سعت مدريد الى اخراجه من التداول. ورغم ان الرباط لم تعلق بشكل رسمي على مضامين الوثائقي، الا ان السياق العام للحدث، وطبيعة الرد الاسباني، اضافة الى طبيعة الشهادات التي وردت، كلها تثبت ان المغرب لم يكن بصدد افتعال ازمة حدود، بل اختار اختبارا رمزيا نجح من خلاله في فضح يقينية الخطاب الاسباني، وتعرية نزعة التصعيد السريع لدى رئيس حكومة لم يحتمل اشارة سيادية صامتة، فاختار مواجهتها باقصى درجات الانفعال. ففي ازمة لم تتجاوز خمسة ايام، قدم المغرب درسا في الانضباط الاستراتيجي، وترك خصمه يسقط في فخ الهيجان الدفاعي. لم تكن هناك حرب، لكن المعركة الرمزية انتهت بانتصار طرف لم يدخلها.