مرت موجة الامطار الغزيرة التي ضربت طنجة منذ مساء الجمعة، وامتدت على مدى يومين، كما لو انها نزهة عابرة. لا شوارع مغمورة، ولا حركة مرور مشلولة، ولا سيول تقتحم المصانع والورشات. المشهد الذي كان قبل سنوات كافيا لتحويل المدينة الى بحيرة كبيرة، بات اليوم مجرد اختبار عابر تجتازه بنية تحتية صامتة لكنها صلبة، تراكمت بفعل كوارث الامس ودروسها المؤلمة. فما الذي تغير؟ ليست المسالة معجزة تقنية، بل ذاكرة مدينة قررت الا تنسى. ذاكرة محفورة في جدران الاودية المعمقة، وفي شبكات الصرف الموسعة، وفي بنيات هيدرولوجية موجهة لاحتواء الفيضانات وتحويل الفائض المائي قبل ان يتحول الى كابوس. من كارثة 2008 الى منظومة الصمود في فبراير 2008، لم تكن طنجة مستعدة. اجتاحت السيول المفاجئة الشوارع والاحياء والمناطق الصناعية، وكشفت بقسوة هشاشة نسيج عمراني بني دون حسابات دقيقة لغضب الطبيعة. كانت تلك اللحظة الفاصلة التي حولت المدينة من ضحية متكررة الى ورشة دائمة للتحصين. وعلى اثر تلك الفيضانات، صنفت طنجة ضمن المناطق الحضرية ذات الخطورة القصوى، وهو تصنيف لم يكن مجرد وصمة ادارية، بل بوابة نحو تمويلات ضخمة ومشاريع هيكلية. فانطلق برنامج حماية الاودية الكبرى، وفي القلب منه وادي مغوغة، الشريان المائي الذي يخترق المدينة كسيف مسلط عند كل موسم مطري. تعميق المجاري، تقوية الجدران الحاملة، تشييد سدود صغيرة لتاخير الذروة وتحويل مجرى السيول قبل ان تصل الى القلب النابض للمدينة… كلها تدخلات جرت ضمن برنامج التنمية الحضرية 2009-2013 بميزانية قاربت 670 مليون درهم، وحولت وادي مغوغة من تهديد موسمي الى مجرى مروض. المشهد الذي كان قبل سنوات كافيا لتحويل المدينة الى بحيرة كبيرة، بات اليوم مجرد اختبار عابر تجتازه بنية تحتية صامتة لكنها صلبة، تراكمت بفعل كوارث الامس ودروسها المؤلمة. لكن المشاريع الكبرى وحدها لم تكن كافية. فبالتوازي، انخرطت الشركة المفوض لها تسيير شبكة التطهير في معركة صامتة لتوسيع قدرات التصريف داخل الاحياء الهشة، تلك الجيوب العمرانية التي تتحول عند اول اضطراب جوي الى نقاط سوداء على خريطة المدينة. ثم جاء 2021 ليهز الاطمئنان من جذوره. عمال لقوا حتفهم غرقا داخل ورشة بحي الاناس، ابتلعتهم المياه في لحظة واحدة بينما كانت المدينة تعتقد انها تجاوزت الاسوا. ولم يكن الحادث مجرد فاجعة انسانية، بل صفعة اعادت ترتيب الاولويات بالكامل. ادركت السلطات ان المشاريع الضخمة وحدها لا تكفي، وان النقاط السوداء المنسية قد تتحول الى مقابر جماعية. هكذا ولد البرنامج الاستعجالي 2022-2024، بكلفة تجاوزت 310 ملايين درهم، وبشراكة غير مسبوقة جمعت وزارة التجهيز والماء، ووزارة الداخلية، ووكالة تنمية اقاليم الشمال، وجماعة طنجة، ومجلس العمالة. فلم يكن البرنامج ترفا بيروقراطيا، بل عملية جراحية دقيقة استهدفت احياء العوامة والزياتن وبوخالف، والمنطقتين الصناعيتين مغوغة والمجد، حيث تم توسيع الشبكات بدقة الجراح، وتصحيح ميول الطرق بحسابات هندسية صارمة، وتدعيم منشات العبور كانها خطوط دفاع اخيرة. الامتحان الصامت ومعنى الصمود والاهم من البنية التحتية نفسها كان التحول في العقلية. فلم تعد طنجة تنتظر الكارثة لتتحرك، بل باتت تستبقها. حيث تم ادماج تصريف مياه الامطار ضمن المكونات الاساسية لاي مشروع تاهيل حضري، واعتمد نظام رصد وتدخل وقائي يتحرك قبل كل موجة مطرية، كانه جهاز مناعة مدينة لا ينام. وفي حي الواحة، حيث كانت تدفقات وادي مغوغة تحول الشوارع الى انهار مؤقتة، خصصت ميزانية فاقت 13 مليون درهم لحماية خاصة، في رسالة واضحة: لن يترك حي واحد لمصيره. وجاءت امطار نهاية الاسبوع الاخير لتختبر كل هذا التراكم. حيث اشارت المنصات الدولية الى هطولات تراوحت بين 20 و30 ملم خلال 48 ساعة. ارقام قد تبدو متواضعة، لكنها قبل عقد واحد فقط كانت كافية لتحويل طنجة الى مدينة مشلولة، تغرق فيها الشوارع، وتتوقف فيها الحياة، وترتفع فيها نسب الخطر الى مستويات حرجة. طنجة تعرف ان المعركة لم تنته. فالتحولات المناخية تجعل الظواهر الجوية اكثر عنفا واقل قابلية للتنبؤ، والخطر يبقى كامنا تحت سطح الاطمئنان. غير ان هذه المرة، مرت الامطار كما يمر ضيف عابر. لا انقطاعات كبرى، ولا حالات تدخل استثنائي، ولا عناوين صاخبة في الصحف. الصمت نفسه كان الدليل الابلغ على نجاح منظومة استغرق بناؤها عقدا ونصف، واستقطبت استثمارات ضخمة ناهزت المليارات، وتغذت من دماء الضحايا ودموع الناجين. لكن طنجة تعرف ان المعركة لم تنته. فالتحولات المناخية تجعل الظواهر الجوية اكثر عنفا واقل قابلية للتنبؤ، والخطر يبقى كامنا تحت سطح الاطمئنان. فما تغير ليس غياب التهديد، بل قدرة المدينة على مواجهته. اذ تحولت طنجة من مدينة تنتظر الانقاذ الى مدينة تنقذ نفسها، من كيان يرتجل ردود الافعال الى منظومة تستبق الصدمات. وفي هذا التحول الصامت، درس لكل المدن التي لا تزال تنتظر الكارثة لتفيق: الذاكرة المحفورة في الاسمنت والفولاذ اقوى من كل النوايا الحسنة، والدروس التي صيغت من الدم لا تمحى.