لم أكن أتخيل يوما أنني سأواجه ميكروفون إذاعة كان المغرب و مغاربة العالم يستأنسون بها و يستمتعون، و يعيشون معها جو البلد في غربة قاتلة. كانت إذاعَتِي طنجة المفضلة أنيسي في الليل الذي لم أستطع إلى اليوم التخلص من سمره، شأني في ذلك شأن جل أبناء هذه المدينة. و كانت محرك بحثي عن الخبر و المعلومة في أي وقت. كنت أعتبرها صادقا أسطورة الإعلام المغربي، لما يزخر به مسارها من حقب هامة، بصمت تاريخ المغرب ببصمات، جعلت من الإعلام الذراع الأول و الأهم في النضال من أجل القضايا الوطنية العادلة. و كان عمالقة الميكروفون الذين لم أكن أعرف منهم غير الصوت المميز عن باقي الإذاعات، أهراما، ما كان خيالي يصل إلى إمكانية جلوسي يوما بجانبهم، و مشاركتهم برامجهم، و ميكروفوناتهم، و استديوهاتهم... " إذاعة طنجة في برامج الزوال على الأمواج المحلية "، " إذاعة طنجة في برامج الليل و الصباح على الأمواج الوطنية "، شعارات كانت تنطلق معها متعة الاستماع و الاستمتاع ببرامج اعتبرت محليا و عربيا من أفظل البرامج الإذاعية. شعارات كان ينطلق معها سمر ما بين الثقافة و الأخبار، ما بين الطريق و البحر، و ما بين الجد و المرح. شعارات كان يرددها كل زوال و كل منتصف ليل، صوت من أصوات مُرَوِّضي الميكروفونات، و مهذبي آذان المستمعين. أصوات كانت تتميز كلها عن بعضها، و كان صوت الحاج محمد الغربي الدافئ، الهادي، عنوان شخصية واضحة معالمها. نقية فكرها، عالية أخلاقها. كان أول لقاء مباشر لي مع الحاج محمد الغربي في خريف سنة1989. كنت قبلها فقط من المعجبين بنبرات صوته الممَيز، و بتعليقه الرائع الهائ الموزون على مقابلات كرة القدم مباشرة من مرشان. كنت حينها مسؤولا عن لجنة الإعلام بعصبة الشمال لألعاب القوى، التي كان يرسها آن ذاك زميلي و صديقي " عربية التوزاني". و كانت من مسؤولياتي إيصال تقارير عن المنافسات المحلية و الجهوية لمنابر الإعلام. لم يكن من الممكن في تلك الفترة التواصل بالأنترنيت، و لا بالرساءل القصيرة، و لا بالإيمايلات. توجهت صباح أحد الأيام إلى مقر إذاعة طنجة، و كنت أحمل نتائج البطولة الجهوية لألعاب القوى التي احتضنها ملعب مرشان قبل يوم من ذلك. فوجدت نفسي واقفا أمام الرجل الذي طالما حلمت أن أراه داخل الاستوديو، و هو يسترسل في الكلام الذي كنا نلتقطه عبر الأثير. رحب بي ، و شكرني على التواصل. و انتبه رحمه الله - حسب ما صرح لي فيما بعد - إلى نشاطي و حماسي الذَيْن كانا أكبر من سني، الذي لم يكن وصل العشرين بعد، و اقترح علي الانضما إليه، و كان قد سبقني إلى ذلك شاب آخر اسمه" عبد السلام أعبود" في خطوة من المحطة لاحتضان بعض الشباب و تكوينهم إذاعياً. و فعلا وافقت فورا، و بسرعة، و من غير تردد، و بدأت أنشط معه في قسم الأخبار، في شقه الرياضي مباشرة من اليوم الموالي. في أول يوم قدمني رحمه الله إلا رئيس المحطة آنذاذ الأستاذ " خالد مشبال" الذي و كعادته رحب بي ببعض النصائح و الوصايا، همت أغلبها الجانب اللغوي و أهمية الحفاظ عليه. و دون تكوين مسبق، و مباشرة بعد عملية فرز الأخبار التي كانت تَرِدُ على القسم من وكالة المغرب العربي للأنباء. أدخلني إلى الاستوديو، و أنا في اندهاش و خوف شديدين، لم أصدق أن صوتي سيسمع في المذياع، و مع فارس من فرسان الإذاعة. جلست بحانبه و بجانب عبد السلام، و بدأ يلاحظ علي علامات الخوف، فابتسم في وجهي، و قال بالحرف" اسمع يا خالد، هذا وحش - و هو يشير إلى الميكروفون - إن لم تهزمه اليوم، فسيظل واقفا في طريقك إلى الأبد". استجمعت قواي، و عزمت على الانطلاقة السليمة، و فعلا قدمت إلى جانبه فقرة الأخبار الرياضية ضمن نشرة الأخبار. إن لم تخني الذاكرة كانت في حدود الواحدة زوالا إلا الربع، أي قبل ربط الاتصال بالرباط لنقل نشرة الواحدة، حقيقة. لم تطُل فترة تواجدي بالإذاعة. لكنني فخور جدا ببصمة بصمها أستاذي الحاج محمد الغربي على مسيرتي الإعلامية، بصمة تجلت في سيرتي الذاتية. أنني و في سن مبكر. ذُكر إسمي إلى جانب اسمَيْ عملاقين من عمالقة إذاعة طنجة، في برنامج قدمناه سويا و اسمه " الملتقى الرياضي". الراحل " الحاج محمد الغربي " رحمة الله عليه، و " الحاج محمد بن الطيب " بارك الله في عمره. خارج الإذاعة، و بعيدا عن موقعه كإعلامي، رافقته مرة للاستماع إلى خطاب الحسن الثاني في ذكرى المسيرة الخضراء، و لامست كم كان محبوبا لدى جميع ممن رافقوه أو صاحبوه في تلك الملحمة. و وقفت على مدى التواضع الكبيير الذي كان يتصف به الرجل. تواضع قل ما نجده اليوم في العديد ممن لم يَصلوا بعد إلى ما وصل إليه. كان يتحاشى الجلوس في مقدمة الحاضرين بجانب الشخصيات و المسؤولين. بل لم ندخل القاعة الكبرى لقصر مولاي حفيظ إلا بعد ما امتلأت الصفوف الأمامية. كان مهنيا إلى درجة لم نكن نراه إلا منشغلا بانتقاء الأخبار التي كانت تَرِد على قسمه من جهاز التيليكس. أو من خلال متابعته للجرائد الاسبانية الخاصة بالرياضية. كان محمد الغربي يمتلك من الحلم ما يجعلني أشهد بالرغم من قصر فترة معاشرتي له، أنني لم أراه يوماً يقول " لا" و لم أراه يرفض أمرا يندرج في نطاق العمل، أو شيئا من قبيل " هاد الشي بزاف علي " أو " هاذ الشي ماشي الشغول ديالي"، كريما، حليما، خدوما، صبورا، عفيفا، ناكرا لذاته. باختصار، رجل اجتمعت فيه كل صفات الإعلامي المثالي. عاش في هدوء، و اشتغل في هدوء، و غادرنا في هدوء. و كعادته لم يقلق أحدا لا في حياته، و لا حتى في مماته. بوفاته يسدل الستار على حكاية اسمها أسطورة الفرسانالثلاث، ونخسر ذاكرة طنجاوية يصعب تعويضها. و يبقى الحاج محمد الغربي حيا في قلوبنا، و صوته صادحا في سماء الإعلام المسموع، عبر إذاعة عودتنا على تخليد أسماء روادها، وفاء لهم و لذكراهم.