بين الأمس واليوم، يتذكر الإذاعي محمد بن ددوش خطواته الأولى في الحياة الإذاعية، قائلا: «ثمانون سنة مرت على تأسيس الإذاعة المغربية، وفي هذه الإطلالة على ذلك الزمن البعيد، أذكر أنني وقفت أمام قمم إعلامية. أتذكر بداية العملية قبل 60 سنة، وأحكي خطواتي الأولى في بناية «راديو المغرب». لطالما شدّني الحنين إلى الماضي.. إلى بدايات عملي في الإذاعة المغربية وانطلاق مسيرتي الإعلامية، التي دامت زهاء 50 سنة. كلما مررتُ بجانب وزارة البريد (القديمة) في قلب العاصمة المغربية في بداية شارع محمد الخامس، أو بجانب وزارة العدل في مقرها الحالي، إلا وتتحرك في أعماقي ذكريات ذلك الماضي الجميل، الذي عشت فيه شابا يافعا طموحا هائما بحب مهنتي، شغوفا بالميكروفون، الذي منحته كل حبي وعشقي ورافقني طيلة خمسة عقود. ويتابع بن ددوش قائلا: «كان ذلك أحد أيام شهر يونيو في عام 1952 وسني لا يتجاوز 23 سنة. بعد 56 سنة من هذا التاريخ، وقفت مرة أخرى وبالصدفة أمام مبنى وزارة البريد والبرق والهاتف (وقد أصبح مقرا لوزارة الدولة) وقلت في نفسي: لماذا لا أدخل؟ وبعد لحظة وجيزة، وجدتُني أجتاز الباب وقد تملّكني شعور غريب كشعور المحب في لقائه الأول مع حبيبته، وقد توزعت مشاعره بين الفرح والخوف. تيسرت الزيارة بفضل لطف حارس البناية، الذي لم أكن مجهولا لديه، وإن لم يكن هو الحارس الجيلالي، الذي ألفناه طيلة سنوات العمل في هذه البناية التي يسكن بها وألفنا كسوته البريدية، ذات اللون الأصفر وتعاليقه الرياضية، حيث كان من أشد عشاق كرة القدم. تقاعد الجيلالي منذ سنوات طويلة ولا أعرف أين طوحت به الأيام... انتقلتُ إلى منطقة «أستوديوهاتنا» القديمة، واكتشفتُ أنه، لحسن الحظ، لم تمسسها يد الهدم، وكل ما هناك أن بعضها تحول إلى قاعة اجتماعات وبعضها إلى مكاتب عادية، واكتشفت، أيضا بارتياح كبير، أن كل من التقيت بهم صدفة من موظفي وزارة الدولة يعرفون أن الإذاعة المغربية كانت مقيمة هنا عند بداية البث الإذاعي في المغرب عام 1928، أي منذ 80 سنة بالضبط، يقولون ذلك ومعالم الانشراح بادية على محياهم، معتزين بالعمل في بناية تاريخية... تمنيتُ لو وجدت في مدخل البناية لوحة نحاسية أو رخامية وحتى خشبية تُذكّر الزائر بالهوية الأصلية لهذه البناية.. ألا تكون الذكرى الثمانينية لنشأة الإذاعة في المغرب مناسبة لتثبيت هذه اللوحة؟ التأسيس الرسمي ل«راديو ماروك» عن حدث تأسيس «راديو ماروك»، يقول بن ددوش: «أود أن أوضح أن التأسيس الرسمي ل«راديو المغرب» كان في أبريل 1928، بعد سنة واحدة من تربع الملك محمد الخامس على عرش أسلافه المنعمين. أما الصوت العربي فلم ينطلق من هذه الإذاعة إلا بعد خمسة أعوام، أي سنة 1933، وأشير بالمناسبة إلى أن المرحوم الحاج محمد المريني هو من دشّن الفترة العربية بالإعلان عن هوية المحطة بالعبارة التي اشتهر بها: «آلو.. آلو.. هنا راديو المغرب»، وكانت الفترة المخصصة للبرامج العربية لا تتجاوز نصف ساعة ولمدة ثلاثة أيام في الأسبوع فقط. ومع ذلك يمكن القول إن الإذاعة المغربية، ولو في هذه الوضعية، كانت من أولى الإذاعات التي ظهرت في البلاد العربية... لم تتح لي الفرصة للتعاون داخل الإذاعة مع من كان أحد الرواد في الساحة الإذاعية المرحوم الحاج محمد المريني، ولكن في الأيام اللاحقة تعرّفتُ عليه وهو مسؤول في جريدة «السعادة»، وتعرفت على ابنه، محسن المريني، صحافيا متعاونا مع قسم الأخبار في الإذاعة لسنوات طوال، والذي تخصص لاحقا في إعداد العرض الصحافي اليومي. نبش في الذاكرة عن علاقته بهذا الفضاء يقول بن ددوش في كتابه: «دخلت، إذن، إلى المبنى القديم للإذاعة، وتوجهت إلى القاعة الكبرى أو ما كان يعرف عندنا باسم «الأستوديو الكبير»، مباشرة أمام المدخل الرئيسي للبناية. سبحان الله... يا ما قدمت من نشرات أخبار من هذا المكان، الذي يلُفّه اليوم صمت مطبق، وكانت جنباته في الزمن الغابر تعُجّ بالحركة والنشاط الموسيقي والفن، بل من هنا انطلق صوتي عبر الأثير لأول مرة. كانت المهمة الأولى التي أُسنِدت إلي لدى التحاقي بالإذاعة هي تكليفي بترجمة نشرة الأخبار من الفرنسية إلى العربية وإذاعتها، وكان القسم الفرنسي هو الذي يعد هذه النشرة قبل أن تتطور الأوضاع وتصبح النشرة من إعداد القسم العربي. وإذا كانت عملية الترجمة لم تثر في نفسي أي مخاوف، فإن الجلوس أمام الميكروفون كان أمرا مهيبا، خاصة في الأيام الأولى، ومنذ هذه اللحظات، ظلت هذه الهيبة تلازمني كلما أمسكت بميكروفون أو وقفت أمامه، هيبة علمتني تقدير هذه القطعة الحديدية الباردة واحترامَها، لأنها، في الواقع، تربطني بمئات من المستمعين. ومازلت أتذكر، بهذه المناسبة، أنني كنت أختم نشرة الأخبار ببيان حول أحوال الطقس وأنهي البيان بالقول: «والله أعلم».. وإذا كان البعض قد استحسنوا هذه الطريقة انطلاقا من أن الله تعالى هو وحده العالم بما في الغيب، فإن آخرين لاحظوا علي أن إنهاء النشرة الجوية بقولي «والله أعلم»، يُجرّدها من كل مصداقية ويصبح تقديم هذه النشرة، أساسا، لا مبرر له. أحداث سوق أربعاء الغرب وخطبة سعيد رمضان «أتذكر، أيضا، أنني كنت بصدد تقديم نشرة الأخبار الزوالية من الأستوديو الكبير، يوم كانت مدينة سوق أربعاء الغرب، في بداية عهد الاستقلال، وبالضبط يوم 23 يناير 1956، بعد ثلاثة أشهر من عودة محمد الخامس من المنفى، مسرحا لحوادث دامية نتيجة للصراع القائم بين أنصار حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال. في تلك الأثناء، جاء إلى الإذاعة الداعية الإسلامي المصري سعيد رمضان، الذي كان في زيارة للمغرب. وقد التحق بالإذاعة بمجرد أن سمع بأحداث سوق أربعاء الغرب، بغية توجيه نداء إلى أنصار الحزبين من أجل التهدئة ووضع حد لتلك الأحداث المؤلمة»، يقول بن ددوش. وتابع قائلا: «استضفت سعيد رمضان ضمن نشرة الأخبار، حيث شرع يتحدث بتأثر وبإسهاب، وهو المعروف بباعه الطويل في الخطابة، عن تلك الأحداث، داعيا إلى الرجوع إلى جادّة الصواب والتزام جانب التعقل في تلك الفترة الحرجة، والمغرب يقطع خطواته الأولى في عهد الاستقلال. تكلم سعيد رمضان طويلا، دون أن أقاطعه إلى أن أنهى خطبته بنفسه». وصف لإذاعة الأمس بجوار الأستوديو الكبير، كان أستوديو البرامج، المؤلف من غرفتين: غرفة المذيع وغرفة التقني، وبينهما النافذة الزجاجية الواسعة، لتمكين التواصل بين الطرفين. إلى هذا الأستوديو، كان المقرئ الفقيه عبد الرحمان بن موسى رحمه الله يأتي مساء كل يوم في الساعة العاشرة والربع لتلاوة آيات بيّنات من القرآن الكريم في ختام برامج اليوم، حيث يتوقف الإرسال في الحادية عشرة والربع ليلا، وكانت التلاوة مباشرة. وقد استمر الفقيه في تلاوة القرآن الكريم في الإذاعة بعد الاستقلال إلى أن توفي -رحمه الله- ولكن أغلبية قراءاته القرآنية، إن لم أقل جميعها، كانت تذاع مسجلة، بعد أن أصبحت هذه التقنية ممكنة. وقد سبقه إلى تلاوة القرآن عند التأسيس بعض الأعلام، الذين كانت لهم مكانة متميزة في علم التجويد، أمثال العالم المؤرخ الأديب عبد الله العباس الجراري ومولاي الشريف العلوي والحاج عثمان جوريو، قبل أن يأخذ الفقيه الحاج عبد الرحمان بنموسى مشعل تلاوة القرآن الكريم.. وكنت دائما، عندما أكون أؤدي حصتي من العمل الليلي، أقوم باستقباله في الأستوديو، عندما يأتي إلى الإذاعة لتلاوة حصة من القرآن الكريم وأتمتع بصوته العذب الجميل. هذه السُّنة الحميدة، يضيف الإذاعي، عادة اختتام الإرسال وأيضا افتتاح الإرسال بالقرآن الكريم، التي واكبت الإذاعة المغربية منذ تأسيسها، اختفت منذ أكثر منذ عقود، بعد أن أصبحت الإذاعة تبث برامجها بدون انقطاع طيلة 24 ساعة، لم تعد هناك بداية ولا نهاية لبرامج الإذاعة، ولم تكن التلاوة القرآنية «الضحية» الوحيدة للبرامج المستمرة، بل هناك، أيضا، النشيد الوطني، الذي لم يعد يذاع، من قبلُ، عند بداية البرامج، صباحا، وعند اختتامها، ليلا... وأود الإشارة إلى أن البرامج العربية كانت تذاع من «راديو المغرب» قبل عهد الاستقلال، موزعة على أربع مراحل خلال اليوم. تبدأ الفترة الصباحية في السابعة صباحا وتنتهي في التاسعة والنصف. وتنطلق الفترة الزوالية في الثانية عشرة زوالا وتنتهي في الثالثة. أما الفترة المسائية الأولى فتبدأ في السادسة والنصف وتنتهي في السابعة، بينما كانت الفترة المسائية الثانية تنطلق في السابعة والنصف وتُختتَم في الحادية عشرة والربع ليلا... ألاحظ أن الإذاعة المغربية كانت تترك للمستمعين، في ذلك العهد الغابر، فترات «للتنفس»، بينما في عهدنا الحاضر لا وجود لأي إذاعة، وزد عليها أي تلفزة، محلية أو أجنبية، تترك لمستعمليها أو مشاهديها وقتا ليتنفسوا الصعداء أمام السيل الجارف من الكلام