334 ألف شقة فارغة في شمال المغرب.. ومدينة طنجة في الواجهة    بلجيكا.. هجوم إلكتروني يستهدف بيانات 850 ألف زبون لشركة "أورانج"    طنجة.. الوقاية المدنية تنتشل جثة شاب غرق بشاطئ الكاريان        سنة أولى بعد رحيل الدكتور عبد الفتاح فهدي    تقرير: المغرب يعتبر ثاني أكبر مصدر للهجرة اليهودية العالمية نحو فلسطين المحتلة    إسبانيا: زوجة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز متورطة في قضية جنائية جديدة    عفو ملكي على 591 شخصا بمناسبة "عيد الشباب"    توقيف جانح قاصر حاول السرقة من محل تجاري تحت التهديد باستخدام طرد متفجر وهمي    إلغاء مباريات ولوج الماستر واعتماد انتقاء الملفات    ضربة قوية لتجار السموم.. أمن أكادير يحجز 7960 قرصا مهلوسا وكوكايين ويوقف شخصين    مخيمات الطفولة في قفص الاتهام : جريمة صادمة تعيد النقاش حول المراقبة والتأطير    "أورار" يحتفي بالأعياد والجالية بالناظور    بلال الخنوس قريب من الانتقال إلى كريستال بالاس في صفقة كبيرة    محمد السادس.. ملك الإصلاحات الهادئة    دلالات عيد الشباب    مطلوب من الأنتربول.. أجهزة الأمن المغربية تعتقل دنماركي من أصول فلسطينية    إسرائيل تعلن اتخاذ الخطوات الأولى في العملية العسكرية بمدينة غزة    مدينة تمارة تحتضن أضخم حدث فني هذا الصيف    خبير قانوني دولي: مساعدات الملك محمد السادس لغزة تجسد تضامن المغرب الدائم مع الفلسطينيين    الأمم المتحدة تشيد ب"كرم" الملك محمد السادس على إثر المساعدات الإنسانية إلى غزة    قمة "تيكاد 9".. المغرب يعزز موقعه الاستراتيجي والجزائر تواجه عزلة دبلوماسية متزايدة    الرابور مورو يحيي حفل ضخم بالبيضاء بشبابيك مغلقة    الخميس تحت الشمس والغيوم.. حرارة مرتفعة وأمطار متفرقة    تعيين سيدي معاد شيخًا للطريقة البودشيشية: إرادة مولوية سامية ورؤية ربانية    سامويل ولُولي... حين قادهم الطريق إلى بيت الجار        إيران تهدد باستخدام صواريخ جديدة    الملك يهنئ هنغاريا بالعيد الوطني    حجز عجول بميناء طنجة .. ومستوردون يوقفون الاستيراد بسبب الرسوم    أوروبا تسجل رقماً قياسياً في إصابات الأمراض المنقولة عن طريق البعوض        مقاولات المغرب الصغرى والمتوسطة "تحت رحمة" الأزمة: 90% منها لا تجد تمويلا بنكيا    دراسة: أجهزة السمع تقلل خطر الخرف لدى كبار السن بنسبة تفوق 60%    تقرير: ثلث شباب المغرب عاطلون والقطاع غير المهيكل يبتلع فرص الشغل    شباب الريف الحسيمي يواصل تعزيز صفوفه بتعاقدات جديدة    إطلاق فيديو كليب "رمشا الكحولي" بتوقيع المخرج علي رشاد        للمرة الثالثة: الموقف الياباني من البوليساريو يصفع الجزائر وصنيعتها.. دلالات استراتيجية وانتصار دبلوماسي جديد للمغرب        مدرب تنزانيا: مواجهة المغرب في الشان مهمة معقدة أمام خصم يملك خبرة كبيرة    أمين عدلي ينتقل إلى الدوري الإنجليزي في صفقة ضخمة    إيزاك يخرج عن صمته: "فقدت الثقة بنيوكاسل ولا يمكن للعلاقة أن تستمر"    تخليق الحياة السياسية في المغرب: مطمح ملكي وحلم شعبي نحو مغرب جديد.    تمهيدا لتشغيل الميناء.. إطلاق دراسة لاستشراف احتياجات السكن في الناظور والدريوش    مبابي يقود ريال مدريد لتحقيق أول انتصار في الموسم الجديد    اختتام فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفن المعاصر بمدينة ميدلت    حجز 14 طنا من البطاطس بتطوان قبل توجيهها للبيع لانعدام شروط النظافة والسلامة    البطولة الإحترافية 2025/2026: المرشحون والوجوه الجديدة ومباريات الجولة الأولى في إعلان MelBet    بدر لحريزي يفوز بمنصب ممثل كرة القدم النسوية في عصبة الرباط سلا القنيطرة    المركز الفرنسي للسينما يكرّم المخرجة المغربية جنيني ضمن سلسلة "الرائدات"    دراسة: المعمرون فوق المئة أقل عرضة للإصابة بالأمراض المتعددة    خبيرة أمريكية تكشف مدة النوم الضرورية للأطفال للتركيز والتفوق    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة.
نشر في تازا سيتي يوم 19 - 11 - 2010


الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة .
[COLOR=red] ج.بول . سارتر[/COLOR] : [COLOR=darkblue]"المثقف عندي هو من يكون وفيا لمجموعة سياسية و اجتماعية، لكن من دون أن يكف عن مناهضتها. "[/COLOR]
في مقال سابق تحت عنوان [URL=http://tazacity.info/news/articles.php?action=show&id=501]" القول النفيس في تفلس المثيقف الإبليس "[/URL] سبق و أن توقفنا عند أبرز ملامح ظاهرة "المثيقف"، وهنا نتوقف في عجالة عند خاصية إدعاء الدور الرسولي من قبله ، وإن كان هذا الدور ملتصقا بمفهوم المثقف و مخالطا له بشكل ماهوي عموما ، فإنه لدى " المثيقف" تتضاعف مساحته ،كعرض مرضي ،أكثر من اللازم ،فمن الخواص الإبليسية ل"المثيقف" إلباس نفسه عباءة الطهر و تعلقه إدعاء بالوظيفة النبوية ،فتجده يحسب نفسه لا كغيره من البشر ،بل يعتقد في قرارة نفسه أنه من يحمل الخلاص لهم ،و ما عليهم إلا أداء فاتورة تكليف القدر له بأداء هذه المهمة من جيوبهم ، تلك المهمة التي يحسب واهما أنها فوق العادة ،فكم من أمثال هؤلاء ما أدوا للبقال ما في ذمتهم حتى نضب ريقه وكادت روحه تغادر محراب جسده ، أو لصاحب المنزل الذي يكترونه أو حتى لأصدقائهم الذين يعينونهم على الخروج من وضعيات لا يفعلون شيئا قبالتها ، إلا صنع جروحها بأيديهم و ترك الآخرين ينزفون بدلا عنهم........، و إلى هذا تضاف المفارقة التي تطبع العلاقة بين الشعارات التي يحملونها ولا يفتئون يتغنون بها ،وبين خرقها و نسفها على مستوى أبسط سلوكياتهم اليومية ، إذ نجد الاختلاف شعارا في مقابل إقصاء المخالف و تطويقه و الإجهاز عليه سلوكا ،التسامح كلاما و كتابة و التعصب و توسل المديح و الإطراء عملا ، الترغيب في العفاف و القناعة و النزاهة خطابا و الجشع و الطمع و الشبهة و الزحف و الوصولية سيرة وفعلا .
و لتأكيد التعلق الواهم ل" المثيقف " ب الطابع النبوي لوظيفته ، لا بأس من أن نأخذ عينة خطابية ممثلة لذلك ، حتى لا ننعت بإلباس الوقائع ما لا تنضح به ،و باتهامنا الآخرين ظلما و عدونا بتهم لا بينة لنا عليها ،و بعد طول تقص ، اقترحت في خاتمة المطاف ،إشراك القارئ في قراءة ورقة نشرت من طرف أحد النقاد على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الإتحاد الاشتراكي ع 27نونبر 1998،(وقد اخترت هذا التاريخ لأنه مفصلي بنظري ،إن بالنسبة للمغرب السياسي أو للمغرب الثقافي كما يفصح عن وجهه من خلال ما يقع في أبرز المؤسسات المعبرة عن صورة المثقف و تطلعاته .) وذلك بمناسبة الحدث الثقافي الذي ميز الساحة الثقافية الوطنية آنذاك ، والذي أسال الكثير من المداد و أفرز زخما من المواقف ،وهذا الحدث كان هو انعقاد المؤتمر الرابع عشر لاتحاد كتاب المغرب ( يوم كان اتحاد كتاب المغرب كذلك بالقوة و الفعل ،و قبل أن يأزف موعد بداية سقوطه الذي بلغ اليوم منتهاه من التردي ،بعد الحروب الصغيرة ل"الكتاب" أو بالأحرى "الكتبة" و تعلقهم بالظرفي و بعدهم عما ينفع الناس و يمكث في الأرض و جريهم وراء الزبد و الزبد يذهب جفاء),
لقد جعل صاحب الورقة موضوعا لمساهمته وضع الكاتب في المغرب الراهن ، المغرب العالمثالثي المقبل على الألفية الثالثة في زمن " يرتهن إلى صناعة الأفكار ..." على حد تعبيره ،و هذا الوضع يستدعي من منظور صاحبنا " لفت الاهتمام إلى المكانة الاعتبارية للكاتب في المغرب ، باعتباره هو منتج الفكر (معرفة و إبداعا )"، هذا الكاتب الذي كان وضعه من منظور صاحبنا" وضع كائن شبه ملغى وموجود على الهامش ، مادام فكره و رأيه و موقفه لم يخلق السؤال الذي من شأنه تفعيل الحياة الاجتماعية و السياسية و الفكرية ".
و هنا مربط الفرس يكشف عن نفسه في هيئة تساؤلية :ما سبب ذلك ؟ هل عدم خلق السؤال الثقافي الكفيل بتفعيل الحياة المغربية في مختلف مناحيها راجع إلى الكاتب و المثقف نفسه أم إلى اختيارات سياسية سابقة ؟
صاحب الورقة يرجح الاختيار الثاني في مقابل الأول ،و نحن من جهتنا نرى بأن تاريخ" اتحاد كتاب المغرب" كفيل بتكذيب ذلك ، فعندما كان تحت رئاسة كتاب و مثقفين لقنوا دروسا في نكران الذات و تنزهوا بتعال منقطع النظير عن كل هدف شخصي وضيع متحملين مهامهم كتكليف لا كتشريف ، حاملين بذلك اتحاد كتاب المغرب على أكتافهم برمزيتهم و فعلهم الجاد بدلا من أن يحملهم هو كصهوة لجواد المصالح الذي لا يشق له غبار ، وما جعلهم منخرطين في الفعل الثقافي الجاد هو إجادتهم الإنصات إلى نبض مجتمعهم و التزامهم بقضاياه ....
وهكذا تصبح تفاصيل المعادلة في غاية الجلاء ؛فكلما اعتلى مثقف محبط فاشل رئاسة اتحاد كتاب المغرب ، سرعان ما يستشري الشلل في جسد هذه المؤسسة ؛فيصبح " منصب الرئيس " بالنسبة له، وسيلة لتقديم الولاءات ، و زاوية تكسبه هيبة المخاطب الذي كان إلى وقت قريب مجردا منها ، لأنه ما استطاع فرض ذلك من خلال ثقل ووزن إنتاجه ، و العكس صحيح طبعا ؛ إذ عندما ينتخب مثقف بالقوة و الفعل ، مثقف جدي مبدع و خلاق ، منزه عن كل غرض شخصي الرئاسة ،فإن هذه المؤسسة تستعيد إشراقها و إشعاعها و قوتها ، هكذا نخلص إلى أن المثقف يتحمل قسطا كبيرا فيما يطرحه صاحب الورقة .
بعد هذا ينتقل صاحب الورقة إلى الحديث عن الوضع الاجتماعي للمثقف –وهنا بيت القصيد-هذا الوضع الذي يحلو لصاحب الورقة نعته ب"الوضع الذي يعامل فيه كأيها كائن "و يتبع ذلك بعد نقطتين للحذف بما يلي :"فليس ثمة مسالك اجتماعية يفيد منها هنا وهنالك ،سواء على مستوى وظيفته ذاتها- و الأغلب في قطاع التعليم- أو في جانب المرافق اليومية المتعامل معها بشكل يومي روتيني قاتل ..."
فما الذي يود ناقدنا المبجل أن يوصل إلى الأذهان؟و كيف يريد أن يعامله كل فرد أو إنسان ؟هل يريد أن تؤدى له التحية و الانحناءات على طول سبيله من قبل من كان ؟ حتى من قبل الجمادات ومن قبل الحمقى و الصبيان ؟ وهل علينا محاكمة الناس لأن لهم ما يحفلون به من أمور الدنيا وما يشغلهم،بعيدا عن الأوهام التي تخص منتجي "مصفوفات الكلام" و"مقاطع البيان"؟ و هل يريد صاحبنا أن توضع تحت تصرفه فيالق الحراس و الآلاف المؤلفة من الجواري الحسان ؟حتى يكتب و يبدع و يغذي الوجدان و يحشو الأذهان و يهدئ روع النفوس و يزرع في القلوب الإطمئنان و الآمان .
إن مثل هذه الأقوال و الدعاوي ، إن كان لها مثل هذه المعاني ،و أتضرع لله أن أكون مؤولا سيئا للأقوال ،إن كان ذاك هو المراد فإني أنحاز كلية إلى الرأي الذي يجعل من "المثقف " منبعا لأزمته الأبدية نتيجة اعتناقه لتراجيدا تفوقه المؤسطر التي يؤلفها و يتقمص بطولتها بنرجسية منقطعة النظير . ....
إن كان صاحبنا يريد ألا يعامل "كأيها كائن " و أن يعرفه الجميع في زمن دقة التخصصات و تناسلها ، و أن يبجله الكل ، فما عليه إلا أن يضع صدرية مرصعة باسمه و بعناوين كتبه التي لا يبلغ عددها أصابع اليد الواحدة وأن يتفرغ للمشي في الأسواق حتى يطلع عليها القاصي و الداني ممن يعرفون فك شفرة الكتابة .
وفي آخر ورقته يحلو لصاحبنا إطلاق العنان للبعد المستقبلي في تفكيره ،واضعا جملة اقتراحات للمؤتمر بصيغة الوجوب ، إذ يقول في اقتراحه الثالث :"من حق الكاتب أن يعيش حياته لا أن يلبث في الظل (و الأنبياء ) في مقدمة الصفوف".
في هذا الزمن زمن التواصل الذي لا يعرف حدودا و زمن المعرفة للكل، زمن التغيرات الجذرية الكاسحة و الانقلابات الوجودية التي لا تزداد إلا تعمقا ،لا زال" المثقف"أو بالأحرى " المثيقف"يريد أن يتبوأ درجة النبوة ، أو على الأقل النيابة على الآخرين في التفكير ،لقد فطن الفيلسوف الوجودي سارتر إلى ذلك منذ زمن بعيد مثله في ذلك مثل مشيل فوكو الذي يرى أن الزمن الذي كان فيه المثقف يقول الحقيقة للناس قد ولى ، لأنه لم يعد يعرفها أكثر منهم .
ذاك هو رأي إثينين من " المعلمين الكبار في الزمن المعاصر " كانا بفعلهما النضالي يلهبان الآخرين ويقدمان القدوة و المثال في الالتزام ،في حين نجد " مثقفينا " ،خاصة أولئك الذين لا تكاد تسمع لهم أثرا في الالتزام بالمبادئ القيمية الكونية و لا في مضمار النضال من أجل استنباتها و تبيئتها و تأصيلها ، نجدهم رافلين في أحلام اليقظة المشوبة بسحابة فصامية ، في حلكة ظلماتها ينعمون باسترجاع فتات رأسمالهم الرمزي على ندرته التي تداني العدم ، رافضين فتح أعينهم المغمضة و تقوية بصرهم الحسير، وجلا من أن يعميهم النور الساطع من حقائق الراهن .
أما أن يحيى "المثقف" حياته فما أظن أن لل"المثقف" حياة خاصة ، تتعالى على معنى الخصوصية التي تسم حياة كل فرد وتفارقها، اللهم على سبيل المجاز و المبالغة المفرطة . أما الخروج من الظل، إلى وهج النور الكفيل بإزاحة الظلمة فيصنع بالفعل الثقافي الجاد و الإبداع الخلاق لا بترديد مقولة الفرادة و التميزالوهمية و الركون إليها ...،مع الكف عن ركوب الشخصي الضيق و التعلق بالمصلحي المبتذل و ما تتعالى عليه نفوس النزهاء و العقلاء ،و الإمعان في تأسيس الإطارات الخاوية التي لا يأتي ميلادها عاكسا لضرورة نابعة من إشكالات يعيشها المشهد الثقافي أو صيغة لتعيين و تحديد مفاصل هذه الإشكالات و العمل على حلحلتها ،بقدرما يأتي تعبيرا عن "الإخوانيات" و عن التقاء المصالح الظرفية لذلك تجدها لا تعمر طويلا ، و غالبا ما لا يسمع عنها إلا ضجيج التأسيس ؛لأن ما أوجدها هو نفس العلة التي تسرع بتقويضها و انتفائها.
إن المتتبع و هو يفتح عينيه على هول الفداحة الثقافية التي نعيشها و التي يتركز محتوى تنويعاتها بأفضل ما يكون التركيز فيما ينتجه " المثقف" حول نفسه من خطابات ،هي أقرب إلى الخطاب الاستهامي منها إلى الخطاب الواقعي ، لا يملك إلى أن يعود بذاكرته إلى الماضي حيث كان المعلمون الموسوعيون الكبار قمة في التعطش إلى الاختفاء و العطاء الأصيل بعيدا عن وهج الشهرة الزائف و قد أصاب أحدهم كبد الصواب ،و هو الفيلسوف المفتتح للحداثة ديكارت ،حين نطق بحكمته الخالدة :" عاش سعيدا من أحسن الاختفاء " يضاف إليه سبينوزا الذي رفض حتى المنصب الذي أسند إليه للتدريس في جامعة هايدلبرغ سنة 1673 ، زاهدا في كل شيء ضامنا قوته من صقل البلورات ، دون أن يحيد قيد أنملة عن الهدف الأسمى أي صقل العقل و التأمل الإنسانيين من خلال كل كتبه ككتاب الأخلاق و رسالة في إصلاح العقل و رسالة في اللاهوت و السياسة ، مؤثرا بذلك الخلود البعدي لا السير خيلاء في مسارات اللحظي السريعة الزوال ، ثم كانط فيما بعد ، هذا الفيلسوف الطهري الذي ترك معينا فلسفيا لا ينضب نظريا و أخلاقيا على وجه الخصوص، و هو المعين الذي لا زالت عقول الإنسانية تنهل منه وقودا لتأملاتها فيما يستجد من إشكالات إثيقية في راهنها ، وقد صدق حين قال بعمق حكمة و نافذ تبصر : "أن يتعاطى الملوك الفلسفة ، أو أن يصبح الفلاسفة ملوكا ، هذا أمر غير متوقع ، لكنه أيضا غير مرغوب فيه :لأن امتلاك السلطة يفسد لا محالة حكم العقل الحر "، قبل أن يصبح امتهان الثقافة مجرد مطية ليس لامتلاك السلطة ، بل فقط لاستجداء رضاها في هذا الزمن المغربي الرديء.
و إذا كانت قبيلة " المثيقفين " لا تحسن إلا الاستعلاء عن من يتحددون في عرفها كغوغاء و دهماء و تتفنن في تسويد الخطابات حول تفوقها عن عموم الشعب أو ما كان يسمى منذ القديم في ألفاظ لغتنا البارعة في شرعنة التراتبية ب"السوقة و الرعاع"، فإن كانط في شق فلسفته الأخلاقي الذي لا زالت قيمته دائمة التجدد ، قد انطلق من أخلاق الرجل البسيط " أخلاق الاسكافي "؛ وهو ما يؤكده في كتابه " نقد العقل العملي" في الصفحة 52 (من الترجمة العربية التي أنجزها غانم هنا عن الأصل الألماني و الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة سنة 2008)بقوله :"لا يقلقني بشيء (..)الاعتراض القائل بأنني أريد إدخال لغة جديدة ، ذاك أن نوعية المعرفة هنا تقترب هي ذاتها من الشعبية .........إن اختلاق كلمات جديدة حيث لا تفتقر اللغة إلى هذا الحد من التعابير لمفاهيم معطاة هو سعي سخيف وراء التميز عن الجمهور ،إن لم يكن بأفكار جديدة و صحيحة ،فعلى الأقل بخرقة جديدة تلصق على ثوب عتيق ."
إن هؤلاء العظام الذين ذكرناهم لا زالت الألسن تردد أسماءهم في كل جامعات العالم وخارجها ،وما انفكت التأويلات تتناسل قبالة ما أنتجوه ، يوم كان الإنتاج الفكري إنتاجا فعلا وقوة في ظروف قاسية على أكثر من صعيد ، ومع ذلك حين ينعم عليك القدر بتصفح كتبهم فإنك تتذوق بالفعل ملح العناء في الإنتاج الفكري ،مما يدفعك كقارئ إلى بذل الجهد و يرغمك على التحمل و الصبر كي تكون جديرا بعناء القراءة ، فكتبهم هي فعلا كتب لهم من ألفها إلى يائها ،إذ لا يشوب صفاءها اقتطاعات لأقوال الغير ، و ما يكون من هوامش ،إنما يأتي لمزيد توضيح ، أو إظهارا و تصريحا بما ورد في المتن رمزا وما كان في نسيجه مضمرا ، قبل أن ينقلب التأليف في هذا الزمن الرديء إلى مجرد"قص" و " إلصاق" إلى الدرجة التي غاب فيها البعد التركيبي ووحدة الرؤية عن من يحسبون أنفسهم مؤ لفين و هم في ذلك واهمون ، فقد تجد في المؤلف الواحد ، بل حتى في الصفحة الواحدة منه ،أكثر من استشهادين متناقضين كليا ، لأن "القاص "و "اللاصق" و ليس المؤلف ينفر من العناء و يستلذ اليسر ، و يستعذب اقتراب ظهور " مؤلفه الأرخبيل " حتى ينعم بالظهور و يوزع الابتسامات و يحبر، في كامل الاعتداد بالنفس، التوقيعات على مادة أكثر من ثلثيها ليس له ،بل حتى في هذين الثلثين ، لم يأخذ وقته الكافي في تمثل وفهم مضمون محتواهما قبل أن "يقصه" و" يلصقه"،ومن استبد ت به الأشواق للمفارقات المستعصية على الحل ،و سكنت جنبات رأسه الصبابة لتجديد الوصال مع الصداع النصفي ،فما عليه إلا اقتناء ما يسميه كتاب(ه) تجاوزا، دون أن يرف له جفن أو يغمره قليل حياء .
و الأنكى من كل هذا أن تحمل سفينة "عملية القص و اللصق" نفرا من غير المسكونين بهم السؤال و هوى البحث عن الحقيقة و لا بالرغبة في إفادة الآخرين كي تحط بهم أخيرا ، وقد ألصقت بأسمائهم صفة "دكتور" ، في ميناء الجامعات المغربية ،ليتفرغوا بعدها ليس للبحث عن الجديد و تعميق مسارات الإضافة الكمية و الكيفية في ميدانهم العلمي و حقلهم المعرفي بما يعود بالنفع على طلبتهم و مجتمعهم ،بل لأشياء أخرى ، ليستحيل بذلك منصب الأستاذ الجامعي إلى عصا موسى ، بها يوجد أصحابنا في موقع حملة الخطاب العلمي و منتجيه عرضا و شكلا لا جوهرا و مضمونا ،و لهم فيها مآرب أخرى منها التفتيش عن اللذة بالنسبة لمن في قلوب مرض منهم .
إن الحديث في هذا الموضوع و عنه لهو حديث ذو شجون ،مما يظهر أن الإفادة الوحيدة التي يقدمها أغلب "المثيقفين "في هذا البلد العزيز ، ليست هي الإفصاح عما يلم بذاتنا الجمعية من الآلام و ما يحركها من آمال و أحلام ، عاملين على التشخيص الواقعي للأولى ، و إضفاء القابلية للعقلنة و السترجة و من ثم الأجرأة في الأفق المنظور بالنسبة للثانية ، بقدرما هي تلك الإفادة المتعلقة بالتقديم التكثيفي و التركيزي الراشح الفاضح لكل الأدواء و الأعطاب التي يعانيها " النحن المغربي " و العمل على عرضها في مساحة مكتنزة بالمرض .
مع هؤلاء و أمثالهم أصبحنا في و ضع لا تحسن التعبير عنه إلا عبارات للفيلسوف السياسي ليو ستروس حين قال : نصبح "حكماء فيما يتعلق بكل الشؤون ذات الأهمية الثانوية " "لكننا يجب أن نسلم أنفسنا للجهل الكامل فيما يتعلق بكل الشؤون الأكثر أهمية " مما يفضي إلى نتيجة متناقضة بذاتها وهي أننا"أصبحنا في موقع العقلاء و الحكماء حين ننشغل بأمور تافهة ،لكننا نقامر كالمجانين إذا واجهتنا قضايا جادة :الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة.........."
---------
[COLOR=red]بقلم: يحيى بوافي [/COLOR]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.