غرفة الجنايات الاستئنافية بفاس تؤخر ملف البرلماني البوصيري ومن معه    "سيام 2024".. توقيع اتفاقية شراكة إطار بين "بيوفارما" ومعهد الحسن الثاني للزراعة    "الكاف" ينصف نهضة بركان ويوجه صفعة مدوية لاتحاد العاصمة الجزائري    المغرب سيكون ممثلا بفريقين في كأس العالم للفوتسال    عاجل.. الكاف يعتبر نهضة بركان فائزا بثلاثية على اتحاد العاصمة والإياب في موعده    توقيف شخص بطنجة بسبب استعمال معدات إلكترونية لتحويل المكالمات الهاتفية الدولية إلى محلية    السعودية تدين "جرائم الحرب" الإسرائيلية    إسرائيل تعلن بدء تنفيذ "عملية هجومية" في جنوب لبنان    تهديدات بالتصعيد ضد ّبنموسى في حالة إصدار عقوبات "انتقامية" في حقّ الأساتذة الموقوفين    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    هل سيتم تأجيل النسخة ال35 من كأس إفريقيا للأمم المقررة بالمغرب سنة 2025؟    الملتقى العالمي ل 70 امرأة خبيرة إفريقية مناسبة لتثمين الخبرة والكفاءة الإفريقية    ما قصة "نمر" طنجة؟    فساد في الموانئ: الناظور بين المدن التي شهدت إدانات بالسجن لمسؤوليها    الوالي التازي يترأس اجتماعا حول غابات جهة طنجة-تطوان-الحسيمة    الكاتب الأول إدريس لشكر يترأس المجلس الجهوي الموسع بجهة مراكش -أسفي    مجلس الرئاسة الليبي يجهض مخطط الجزائر بإقامة تكتل مشبوه في الفضاء المغاربي    مجلس النواب يفضح المتغيبين بتلاوة أسماء "السلايتية" وتفعيل الاقتطاعات    الحكم على مغني راب إيراني بالإعدام بتهمة تأييد الاحتجاجات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    المنصوري: وافقنا على 2143 طلب لتسوية بنايات مخالفة لقانون التعمير    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    إعلان فوز المنتخب المغربي لكرة اليد بعد انسحاب نظيره الجزائري    نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي تجدد التأكيد على موقف بلادها الداعم لمبادرة الحكم الذاتي    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    أفلام متوسطية جديدة تتنافس على جوائز مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    جنيف .. تحسين مناخ الأعمال وتنويع الشركاء والشفافية محاور رئيسة في السياسة التجارية للمغرب    مقترح قانون لتقنين استخدم الذكاء الاصطناعي في المغرب    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        تفاقم "جحيم" المرور في شوارع طنجة يدفع السلطات للتخطيط لفتح مسالك طرقية جديدة    مبادرة مغربية تراسل سفراء دول غربية للمطالبة بوقف دعم الكيان الصهيوني وفرض وقف فوري للحرب على غزة    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    جماهري يكتب.. 7 مخاوف أمنية تقرب فرنسا من المغرب    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    إقليم فجيج/تنمية بشرية.. برمجة 49 مشروعا بأزيد من 32 مليون درهم برسم 2024    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل للمباراة النهائية على حساب لاتسيو    توفيق الجوهري يدخل عالم الأستاذية في مجال تدريب الامن الخاص    بطولة انجلترا: أرسنال ينفرد مؤقتا بالصدارة بعد فوز كبير على تشلسي 5-0    الصين: أكثر من 1,12 مليار شخص يتوفرون على شهادات إلكترونية للتأمين الصحي    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    حزب الله يشن أعمق هجوم في إسرائيل منذ 7 أكتوبر.. والاحتلال يستعد لاجتياح رفح    الأمثال العامية بتطوان... (580)    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين ينضج الصمت '1' تمثلات الفضاء الروائي
نشر في تازا سيتي يوم 02 - 05 - 2011

إن الاهتمام بالفضاء الفني نشأ تبعا لظهور بعض الأفكار والاعتقادات التي ترى العمل الفني "مكانا" تتحدد أبعاده تحديدا معينا (2). ذلك ان الفضاء الروائي لم يعد مجالا لملامسة الأحداث وهي تقع في حيز تعيش فيه مجموعة من الشخوص، بل يعد من العناصر الأساسية في العمل الفني على المستوى التشكيلي و الدلالي. وقد ميز الدارسون من أمثال جيليبر دوران G.Durandوجون ريكاردو J.Ricardou وميشال بوتورM.Butor بين فضائين: أحدهما يعود إلى النص و الآخر يرتبط بالمجال الطوبوغرافي وهو الفضاء الجغرافي.
في الفضاء الأول (النصي) تتعلق المسألة بالنص نفسه كمجال ممتد لمجموعة من الرموز و العلامات المتوالية و المتراصفة عبر قنوات قولية، وهذا المجال يشكل حيزا حيويا وفعالا تبنيه اللغة عبر حركة خطية وتبنيه القراءة من خلال عملية التمثل التي تنصص شعوريا و لا شعوريا عوالم فضاءات أخرى معاشة في التجربة و مستدعاة بفعل المحفزات التي أثارتها عملية القراءة المتماهية.
أما الفضاء الثاني (الجغرافي) تلعب فيه اللغة دور التمثيل والتشكيل عبر القنوات المرئية المدركة دون وسيط. إلا أن هذا لا يمنع أن يكون الفضاء الجغرافي تعيينيا وإيحائيا يلعب المبدأ الأيقوني فيه دورا مهما في توسيع عملية البناء التشكيلي، وحضوره في النص الإبداعي يكون عبر تجميع للبناءات الشكلية المنظمة داخل سيرورة الخطاب التي تحدد رؤية المبدع للعالم، وهي رؤية يتحكم فيها نسق أيديولوجي متكامل يرتبط بمرجعيات ثقافية. انطلاقا من هنا سنعمل على بحث تمثلاث الفضاء في رواية "حين ينضج الصمت".
لقد وردت أخبار الرواية في أفضية هي بمثابة مسرح للفعل السردي، وسيقت دون إحالات تعينية محددة، مما جعل فضاءها ينجح في الانفلات من التحديد. كما أن حفر الروائي لمسافة زمنية بين الخيال والواقع ساهم في صياغة أحداث الرواية في هيئة( كأنما) وقع في ماضي ما وفي موضع آخر بعيد عن –الهنا- مما عمق "اللاتحديد التعيني" للفضاء،
"قبل عشرين سنة أعجبته العصية بقامتها الطويلة، وشعرها المتهدل فوق كتفيها وبعينيها العسيليتين الكبيرتين. أعجب بها دفعة واحدة وأحبها دفعة واحدة، دوخته ضربة الحب كما دوخته ضربة الشمس التي أدخلته المستشفى في حالة غيبوبة لذيذة" (3)
فهذه الصيغة التي اختارها الروائي قد أضفت التميز على متنه الفضائي corpus spatiale خالقا لنصه الفرادة والإيهام بأن الفضاء في الرواية خاص واستثنائي.
إن الفضاء المنتج في رواية "حين ينضج الصمت" هو فضاء مشخص لفظيا كمضمون مفعم بخطابات حول الحدث المتخيل والمروي، مما سمح بالقيام بوصف دقيق لطبوغرافيا الحدث، وتقييم وظائف الفضاء وعلاقته بالشخصيات والمقامات والزمن مما يخول من جهة رصد العنصر الصوري الذي تشتمل عليه فضاءات الرواية في علاقاتها بالشخصيات، ومن جهة أخرى استخلاص القيم الرمزية والأيديولوجية المتعلقة بتشخيصه " لا يكفي أن نقتصر على تفحص كيفية تمفصل مادة / الفضاء المحكي في تجلياتها السطحية، أو أن نقتصر على وصف طوبوغرافيا الرواية...بل يتعين، بالإضافة إلى ذلك، استخلاص من كل ذلك علاقات بنائية صيغة على نحو أعمق "(4).
هكذا، تتلقفك خصوصية الفضاء في الرواية انطلاقا من عنوانها المركزي " حين ينضج الصمت" الذي أتى موحيا ومتكتما على فضاء نضجه، لكنه في الواقع حاضر في الراوية من خلال تمثلات تخيلية متعددة فاقدة لإحالاتها التعينية، ومحتفظة بطابعها الرمزي، تقول ك. هامبوركر hamborger. k. في كتابها "منطق الأجناس الأدبية " كل ذي قيمة تعينية أو مكانية يفقد بمجرد دخوله مجال التخييل قيمته التعينية الوجودية، تلك التي قد تكون له ليتحول بذلك إلى رمز" (5).
فلا غرابة إذا، أن نلحظ الطبيعة الرمزية والمجازية لموضعة الفضاء في الرواية التي لا تتوقف عند حدود العنوان المركزي، بل تنسحب أيضا على العناوين الفرعية، حيث تمثل بين دفتي الرواية مجردة من إحالاتها المباشرة على فضاء الأحداث، الشيء الذي يحفز ذهن القارئ على استحضار الفضاء وتخيله وتمليه لكي يضمن لعوالم النص المكانية احتمالية كينونتها( هنا أو هناك)، باعتبار الفضاء قدر الحكاية والمضفي على التخييل مظهر الحقيقة. وبالتالي فالخاصية المتكتمة والإيحائية لعناوين هذه الأفضية جعلها موسومة بسمة "اللاتحديد النسبي"، مما منحها صفة دوال رهيفة وشفافة تفترض قارئ حدقا كي ينتج دلالاتها، خاصة وأن "المهدي الحمياني" لم يركز على الفضاء كحد مادي، بل كأثر معايش.
فبتفكيكنا لتشابكات إحداثية الفضاء الروائي في "حين ينضج الصمت" ارتأينا أن نصنفه على الشكل التالي:
1-الفضاء التذكري:
لا تقوم عملية التذكر و الاسترجاع إلا إذا أزرها التخييل كحد تتشابك فيه العناصر الخيالية مع العناصر الواقعية و التاريخية، مما يخلق تداخلا منتجا لمجال ثالث ينشط خيال القارئ ويحفز تهيئاته كي يتلقى العالم النصي في بعده المجازي في المقام الأول، دون أن يفقد الإحالة المرجعية الموجهة للفهم والتأويل ومن ثم التمثل. كما أن الفضاء التذكري في الرواية يحياه الراوي كشخصية مادية وتخيلية من خلال لغتها الخاصة، وتتفاعل معه الشخوص كحالات انطولوجية و ليست توثيقية.
من هنا جاء فضاء "فاس" موسوما بتجل تذكري وتاريخي، أعادت الذات الكاتبة تخيله ليصبح جزء من الناتج التخيلي الذي ولده تفاعل خيمياء العناصر الواقعية و الخيالية بشكل إبداعي. ذلك أن قدرية التخيل جعلت فاس كملفوظ فضائي énnocé-spatiale يكشف بصمته عن إبداع بعض ناسه لروائع التردي القيمي والوجود الهش وغير المتوازن، وفي الآن نفسه جعلته يقاوم انحرافات وتشوهات قد طالت الفضاء/ الرمز. " ومع أن شروخا عميقة أصابت هذه المرآة فان كل شيء يظل واضح على صفحتها كالبلور "(6).
كما أن مراوحة الفضاء بين التذكر و التخيل خول له الانفلات من إلزامية نقل المنحنيات الفيزيقية لفاس، فراح يرصد فضائها من خلال مجسات العلاقات الرمزية والمكانية التي تربط الراوي بالفضاء "فاس" وهي علاقة صورة هذا الأخير كعين كبرى تلتقط وتخزن كل ما يجري، فتجلي المنسكن بين شقوق ذاكراته – فضاء فاس- التي ستخرج عن صمتها، وهذه المهمة أسندها الروائي للبطل "إدريس" بشكل تخيلي ينزاح عن التعيين والتحديد، ليبلور واقعا روائيا يظهر فيه الفضاء كشكل بنائي. لذلك ينبغي فهمه انطلاق من هذا التصور الذي يخول لنا حق إدراك توزيع وربط العلاقات بالمكونات المادية للفضاء للإيهام بواقعيته" أن الفضاء باعتباره شكلا فهو بناء لا يختار للدلالة و للترميز خاصية شيء أو مواضيع واقعية، إلا لحضور ملامح توضح لنا مدى العلاقة القائمة بين الفضاء و بين الترميز الثقافي الفعلي عند البشر" (7).
فهذا الاختيار البنائي لفضاء فاس يكشف رغبة الروائي في الإيهام بحدوث الفعل في الزمان و المكان، كما أن واقعية هذا الفضاء تتحدد من خلال عملية التذكر التي تمارسها أنا الراوي التي تفتح فعل التذكر على مدارات تخيلية تعطي للفضاء بعده كأثر و كتمثيل و ليس كانعكاس لحقيقة واقعية، وإنما هي حقيقة نصية بامتياز "إن الفضاء يقول أن النص حقيقة"(8).
فهذه الحقيقة المعبرة عن لحظة مكانية تم اختزالها في الرواية من خلال الذاكرة و التخييل اللذان يفتحان ماهية الفضاء فاس .
2 - الفضاء الإرتكاسي
لقد اقترحنا هذه التسمية نظرا لطبيعة تموضعات أفظية «البار" و"السجن" و" شجرة نوح" وغيرها في الرواية، وكذا للتظافر الدلالي الذي تلعبه هذه الموضعات في إضاءة مجموعة من الأبعاد النفسية داخل الرواية، خاصة وأن "الحاضي الحمياني" كثيرا ما كان يقوم باستقراء ذوات الشخوص بالاستناد إلى ثقافته النفسية التي هي اقرب إلى الوصف منها إلى التحليل.

ففي فضاء "البار" تنهار حواجز البوح وتساقط الأقنعة، وتتكشف حجم الهزيمة الوجودية والاجتماعية والإنسانية. "المهمومين الذين يدفنون إحباطهم بسكرة أسبوعية تفضح انهزامهم وانكسارهم ". (9)
و يقول الراوي أيضا "و الآن أمام زجاجة نبيذ، وللحانة طعمها الخاص، حين يظل المرء وحيدا في زاويته يجتر ذكرياته المريرة يلغي اللحظة الراهنة ويتشبث بالأمس كزمن هارب من الزمن، تشنج له ما يبرره في هذا الآن المتخم بتفاصيل الأحداث"(10).
ويحضر أيضا فضاء «شجرة نوح" في علاقاته بإدريس حيث تكون سنده ودعامته في انهياراته العاطفية وخيباته الاجتماعية.
كما نسجل بأن «البار والشجرة" أفضية تسجل حضور الأنثى [زهرة- الحبية التي خانت الحجامي – سعاد صارعت إدريس]، فإلى أي حد يشي هذا الحضور الأنثوي بتمثلات مستعارة للأمومة واستدعاء لمعادلاتها الرمزية ولإحالاتها؟ وتمثلها الملفوظات التالية."منكمش في غطائه"(11) ، وكذلك " انتزعنه من حضن أمه انتزعا"(12)، وكذا إتيان السارد على وصف عودة بعض الشخوص إلى ذواتها عودة انتكاسية.
وفي فضاء "السجن" كمجال مغلق يستعيد فيه "أحمد" شريط الذكريات في حالة من الاطمئنان، وضعية توفر له "سيكولاتية" معينة تعطل خطية زمن القصة المنساب، وترهنه للحظة التذكر وهي لحظة مكانية بامتياز وليست زمانية، لأنه يقفز بدهنه خارج فضاء السجن ليعانق بخياله الاسترجاعي جملة من الوقائع و الأحداث.
بذلك، تصبح هذه الأفضية بخواصها الانكماشية الارتدادية عبارة عن رحم رمزي كبير. ومن ثم يمكن وسم هذه العملية- تجاوزا- بالعودة الرمزية إلى الرحم، و هي عودة متداعية من جراء الأحداث التي ألمت بالشخوص وأربكتها في حاضرها، وبالتالي ركنت إلى الارتكاس والتقوقع في الماضي كزمن نفسي تكون فيه الذات في حالة دفاع لموجهة حاضر مستعص عن الحل. و لهذا الاستدعاء الرمزي الذي وظفه الروائي ما يبرره فنيا وموضوعيا لكون" الرمزية وسط لتعبير عن واقع غير لغوي "(13)، وفي الآن نفسه إيماء إلى نوع من مأساة الذات التي مثلها الروائي من خلال اللفظ والفعل و رد الفعل كآليات دفاعية تحقق توازنا لحظيا للأبطال في الرواية، وتثبت الوجود في مكان ما بعيد عن مصدر الألم والقلق.
ويبقى تحليل هذا النمط من الفضاء بدوره تأويلا رمزيا لا يدعي يقينية النتائج.
3- الفضاء المعاكس:
فضاء آهل بالحيرة والتوتر والاغتراب، يماثله زمن مشحون بالارتباك والقلق، وطرح للاستفهامات المصيرية من طرف شخصيات موضعتها قدرية الأحداث الروائية بين "الهنا والهناك" بين "الكائن والمفترض". ويتمثل هذا الضرب من الأفضية في المثن الروائي المدروس " بالغرب"، إذ يمثل للبطل" إدريس" فضاء معاكسا و مناقضا لأحلامه وتطلعاته، مما عمق فيه التمزق والتشظي واجتراح سؤال الذات والآخر /
" كان إدريس يحكي عن هدا الغرب العجائبي عن تقدمه وتطوره عن تشظيه الاجتماعي و أنانيته المصلحية... غرب شرس مستعد للانقضاض حين تكون مصالحه مهددة، غرب لا مكان فيه للصداقة المصلحة و المصلحة أولا و أخيرا"(14) /
وهناك أيضا فضاء " السجن" الذي يقتات منه –أحمد- تشظيه بكل عنفه وقساوته، فراح يسائل قانون المؤسسة وتراجعه أمام قانون العرف، الذي يزكيه المال والقدرة الشرائية للذمم والضمائر، مما يهدد بتحطيم مؤسسات المجتمع. "ظل احمد واجما وفي رأسه تتصارع الأسئلة وتتناسل، كلها تنصب في محاولة فهم هذا الذي يجري، هذا الذي يحدث هذا الذى يعتمل في رحم مجتمع يستعصي على الفهم والتحليل، كل شيء يصير مباحا حين يعطل القانون بعرف عام"(15)/
ويزيد الراوي من تعميق تحليله ونقده لما يدور حوله من تناقضات وتسابق نحو ترسيخ فكرة أنا ومن بعدي الطوفان، حيث يقول"ما يهمه هو هذا الخلط الماكر الذي ينخر المجتمع، كل يسيج نفسه بترسانة من النصوص والعلاقات تضعه في مأمن من تقلبات الزمن وأهواء الناس و أمزجتهم"(16)/
إذن، فبالإضافة إلى هذا الفضاء المعاكس المتمفصل من خلال نموذجين هما: الغرب و السجن، هناك فضاء ثالث معاكس، هو المجتمع بمؤسساته المنخورة. إذ زاد هذا الأخير من تأزيم وجود أحمد وإدريس، بحيث لا يستجيب لطموح إدريس في الحرية و الكرامة و تحقيق الذات والنتيجة: رغبة إدريس في السفر ثانية كوسيلة لفتح الفضاء ووعدا باستكمال سعادة منقوصة، و لما لا يكون هذا السفر نوعا من الانفلات من جاذبية هذا الفضاء المعاكس، خاصة وأنه لم يسعف –أحمد- على أن تستقيم في إدراكه الأدوار المنوطة بمجتمع تجري حركته عكس تيار الإصلاح و التغيير، إذ يجد مؤسسة السجن فضاء لإنتاج أعتا المجرمين، عوض إصلاح الاعوجاج و نزع شوكة الانحراف، والنتيجة تغذية زيغ أحمد واقتناعه بأن طريق "الحجامي" هو الطريق السالك . " أيام السجن هذه ستعطيه حصانة ضد الخوف و ستملاءه حتى الاقتناع بان طريق الحجامي هو طريق الصواب ما دام الجميع يغرق في النهب و يتفنن في إبداع جميع أشكال الإفلات"(17).
4- الفضاء الناطق:
لقد استعرنا هذه التسمية إشارة إلى ذلك الوعي الذي ضمنه الروائي للفضاء كرسائل لابلاغها، وأسرارا لإفشائها ولما النطق بها، فكما يقول رولان بارثRoland Barthes " ليس تمت قوة تمنع الأشياء من الكلام" (18) بذلك يعد من الأفضية التي ستنطق أو تربو على حواف الكلام لكن دون ان تتكلم. و تتمثل في النص الروائي، من خلال فضاء فاس" (19)، إذ أن صمت المدينة العتيقة يخفي بين حناياه حقائق ستتبدى مع الزمن رغم تصدعاته، فهو كما وصفه "الحمياني" مرآة "فاس مراية" والمرآة تنطق بصمت بما ينعكس عليها، فتجليه بلورا و إن كانت شروخا، من ثم فهي تخفي في جوفها كلاما مؤجلا.
وهناك فضاء "شجرة نوح" التي نضج صمتها فقررت أن تبوح وتكشف المستور، لكنه كلام مشروط بمثول" إدريس" تحت ضلالها الوارفة /
" لا يهم أن انتظر إدريس هذا المساء... سأحكي له أشياء كثيرة قبل أن يسافر ثانية، لأول مرة سأكشف أسرارا لا يعرفها الكثيرون في هذه الحارة...". (20)
فقد طفح الكيل بالشجرة، وتريد أن تعطي كعادتها حقائق ربما تسعف جيل الحارة على فهم ما جرى لتداركه. بذلك جاء الفضاء مضطلعا بوظيفة توجيهية. من هنا يمكن أن نطلق عليه أيضا مع "فيليب هامون Philippe hamoune "- بالفضاء التوجيهي- (21)/
لكن هل ستنطق هذه الافضية وتكشف المسكوت عنه؟ أم أن كلامها يقين بالقوة و تردد في الفعل خاصة و أن " شجرة نوح" مثلا لم تحسم في البوح بكل شيء؟ (22).
5- الفضاء المتخيل:
لقد تحدث القليل من النقاد عن الفضاء المشخص لفظيا كتجربة تقوم أحداثها في عالم يوجد داخل اللغة، ولا وجود واقعي له، لذلك نجد –فرانسوا لويطارFRANCOIS leotard يميز "بين فضاء الدلالة الذي هو فضاء اللغة، وفضاء الإشارة الذي هو فضاء الرؤية.»(23).
وفي رواية "حين ينضج الصمت" يحضر الفضاء في قوالب استعارية وكنائية تشتمل على العنصر الصوري الذي يسمح بتشخيص ما ليس مرئيا أو محسوسا، بوصف الفضاء المتخيل من خلال نظام دال ومتماسك وهذا الأمر نجح فيه الخطاب الشعري أكثر من السردي، وما تحققه هنا إلا لكون الروائي اسم من الأسماء الشعرية المغربية المجربة.
لهذا، فالبعد الصوري الذي يتمتع به هذا الفضاء في خطاب الرواية، سمح بنقل مجموعة من السمات الموضعية إلى حركة الإنسان وردود فعله أمام الأحداث ،فيتحول الفضاء إلى شخصية روائية تورط مستقبلها في تماه لا مناص منه، و يتجلى في رواية "الحاضي الحمياني" من خلال "شجرة نوح" كفضاء دخل مصانع إعادة التصنيع السردي فأنيطت له أحد أدوار البطولة. مما منح لها بذلك أبعادا وجودية بموقعتها في سياق حركي تفاعلي، مكنها من القدرة على التواصل والعطاء، والامتداد في الذاكرة الجمعية بما تختزنه من أسرار تراوحت بين المناجاة والنقوش والبوح.
" شامخة كخرافة خرجت من عمق التاريخ البشري أنا هنا مند الأزل، منذ بذر تني يد نبوية و اختفت في حضن ضباب الجبال، كبرت هنا عايشت تقلبات الدهر و أهوال الأزمان واحتضنت أجيال الحارة واحدا أبنائي حين كان الواحد منهم يتسرب إليه الحزن يأتيني بهمومه، يبوح بها كلاما عاشقا أو وشما على جسدي " (24).
هكذا، يصبح الفضاء كائنا حيا ويصير الإنسان فضاء و ركحا تدور فيه الوقائع الروائية " الملل عشش في داخله منذ فترة طويلة" (25). فالشخوص صارت ركنا خرابا يعشش فيه السأم، كما تعشش الفطريات في أقاصي المغارة. "سيخرج بالتأكيد من تقوقعه وسلوك الطفل المدلل المعشش في داخله"(26)/
كما نجد أيضا نوعا من تفضية الإنسان، بحيث يجعله الروائي مرفأ لرسو مد و جزر المشاعر الإنسانية.
" لم يعد احمد إلى المنزل إلا بعد أيام، حين دخل أغمى على العيساوية، ارتمت خديجة في حضنه بحرقة"(27).
فمحاولة تفضية الإنسان هذه تؤكد بان الفضاء في الرواية له وجود بدواخل الإنسان كتجربة تؤطرها صيرورات الدلالة، التي يؤطرها تشخيص لغوي لا مكان له داخل نظام الدوال، بل يقوم من خلال تجربة التخاطب التي تصير الفضاء مفهوميا يبقى تحققه مرتهن بانغلاقية العنصر الخطابي. وعليه لا غرابة أن تجيز الكتابة الروائية عند " الحاضي الحمياني" حضور هذا الداخل – فضائيInter Spatiale الذي يضفي أبعادا مكانية على الانفعال الداخلي للإنسان.
كل هذا يفتحنا على عمق اشتغالات الروائي على هذا النمط من الفضاء، و يشفع له في حضور هذا الاشتغال حساسيته الشعرية في مضان لغته الروائية، "أستطيع القول إذا جاز لي تبرير هذه الظاهرة أن الأمر يتعلق بانحياز "المهدي الحاضي الحمياني" غير المشروط لفتنة الكلمات الغنائية النفاذة التي تظل متجردة في لغته بكيفية سابقة لكل اختيار واكتساب"(28).
وإذا كانت المرونة التعبيرية و الرؤية الشعرية التي تتخلل كتابته الروائية قد سمحت له بتفضية الإنسان، فإنها أيضا سمحت بأنسنة الفضاء، حيث الفضاء عنده ممتلك لصوت وكينونة، ولغة تعد بالكلام، فمثلا نجد «شجرة نوح " تمثل أدوار الأم " كانت تعجبني فيه حكاياه يقص تفاصيلها بطريقته المدهشة، وأبنائي يتابعون رحلاتهم بصمت ممزوج بانبهار حقيقي. أغصاني الوارفة تظللهم جميعا، تحميهم من لهيب لا يعرف قسوته إلا من عاش في هذه المدينة"(29).
ونجد أيضا مثالا على التداخل المبدع الذي أقامه الروائي بين الإنسان و الفضاء في قول السارد
" هو ككل شجرة مثلي لن يموت إلا واقفا رغم الهزات التي عرفها بيته في الشهور الأخيرة. صامدا كذلك الجبل الذي يحضن الحارة ويقيها الرياح العاتية، رجل آخر في مكان كان سينهار ككرة ثلج و قد دحرجتها عاصفة مجنونة"(30)/
إن الاشتغال على أنسنة الفضاء و تفضية الإنسان يضعنا أمام ما يعرف ب- فضاء الدلالة - الذي لا وجود مؤكدا له، بل يتم التعامل معه " كما لو " يمكن إدراكه خياليا، لكن لن يعاش مرجعيا، وعيشه كتجربة يبقى فرديا محضا.

إذن، الفضاء الروائي في "حين ينضج الصمت" يضج ببوح مؤجل، وبحركة داخلية تعتمل في رحم أفضية الرواية اعتمالا متدافعا للإفصاح والإبانة؛ لكنه مرتهن بطبيعة الصوغ الأسلوبي الذي ينهض به التلفظ المونولوجي في الرواية، ويتأسس في إطاره الحكي الواعي الذي يكشف الوجود الاجتماعي لمجتمع الرواية. كما أن هذا المنحى المونولوجي الذي طبع الأسلوب الروائي، منح الرواية نوعا من الاقتضاب السردي الذي أتى منسجما وحجم الرواية.


وهذا لا يعني هيمنة المنظور الأحادي، بل توفقت في إقامة توافق ناجح بين واقعية العمل و شكله، وذلك بتفضيئ سردي متوافق مع المسار الحكائي بشكل متناغم ومتماسك مع تنظيم فضاءاتها مما أدى إلى انعطافات في عقدة الحبكة الحكائية من جهة، وطبيعة تصاعد وتيرة النضج الذي يتم بشكل داخلي ونجوي من جهة أخرى؛ إذ نضج الصمت في أركان البار وقنيناته، وتحت الشجرة التي أصبحت متأهبة لتكليم صمتها، وفي بيوتات انهارت أسوارها. فأصبح الخبر مندسا ومتناسلا في فراشها، ونضج البوح بين حنايا الصدور، حيث المناجاة والتملي إرهاصات لكسر طوق الصمت و قضاء وطره.

وفي الأخير نسجل بان ما يربط بين السنن الاختياري للتفضيئ السردي والسنن التأويلي، والبنية الطبوغرافية في رواية "حين ينضج الصمت"، هي علاقة تعاقد وتكامل توثق أواصر الاتصال بين أفضية الرواية وخطاباتها. بذلك، ينتج الفضاء في الرواية معنى "التصامت" كشكل من الوعي السلبي بالأوضاع في بعدها الفضائي Spatiale الإنساني، وتأكيدا لعمق التمثل الحدسي للروائي لتلك العلاقات المتشاكلة التي تقوم بين الإنسان والفضاء، وهو عمق لا يفصح عن نفسه في الرواية بشكل مباشر، و إنما يحضر على شكل انعكاس كنائي حقق للرواية شعرية نثرها.
هوامش و إحالات:
1مهدي الحاضي الحمياني: حين ينضج الصمت-رواية-2000 الطبعة الأولى، مطبعة ما بعد الحداثة –فاس-المغرب.
2- Youri lotman:la structure du texte artistique.ed Gallimard;1976.p309
3-حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص 8
4- هنري متران: المكان و المعنى، الفضاء الباريزي في قصة /فيراغوس/لبالزاك.ترجمة عبد الرحيم حزل، الملحق الثقافي للعلم، 20 نونبر 1999 –ص6-المغرب.
5 -K.Hambourger :logique des genres littéraires .ed seuil 1986.P71
-6حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص15
Sciences Sociale. Ed Seuil.1976.P129 A.J.grimas : Sémiotique et 7-
8 Charls Grival : Production de l'intérêt romanseque.ed Mouton.1982.P104-
9- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص26
10- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص 48
11- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص18
12- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص41
13- حنفي و نصر حامد أبو زيد و آخرون: الهيرمينوطيقا و التأويل، ص140 دار قرطبة للنشر المغرب الدار البيضاء.
14- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص79
15- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص75
16- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص75
17-حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص75
18) Roland Barthes: MYTHOLOGIE. SEUIL, POINTS, PARIS 1657 .P 194
-19 حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص15
20- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص 91-92
21- ورد هذا في مقال لفليب هامون"المعرفة في النص" ويريد بهده الفضاءات المواضع التي تم فيها اختزان الخبر و تناقله، وتبادله بشكل من الأشكال...
22- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص92
23 جاء هذا في كتاب:
"الفضاء المتخيل" يوري انزنزويك.ترجمة عبد الرحيم حزل، مجلة فكر ونقد، عدد 33 سنة 2000 ، ص 126.
24 -حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص91.
25- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص42.
26- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص38.
27- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص31.
28- رشيد بنحدو: تقديم رواية"حين ينضج الصمت: ص4-الطبعة1-2000 مطبعة ما بعد الحداثة –فاس-المغرب
29- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص20.
30- حين ينضج الصمت: مرجع سابق، ص90.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.