في وقت بتنا نتأسف فيه على تدني مستويات القراءة بكل الأوساط، لا يجب اغفال ربطها بأزمة انتاج و تأليف من عيار زمن القراءة مضمونا وشكلا وليس كماً، وأنا أتصفح المواقع الإلكترونية أثار انتباهي اسم "كولومينا" الحي الذي سبق أن زرته بداية التسعينات بالعيون، و شدني لقراءة هذه الرواية اسم صاحبها، لأجد نفسي منكباً على ذلك في وقت قياسي، أحسست فيه أني أحد قاطني كولومينا، لتتوطد علاقتي بكل ساكنتها من شخصيات الرواية، وبحق ف"كولومينا" عمل أدبي أكثر من رائع، زاده شرفاً كون مؤلفها الشاعر والقاص "محمد النعمة بيروك". ما من شك أنّ رواية "كولومينا" عمل جدير بأن يُدرَّس في مادة المؤلفات بالمرحلة الثانوية التأهيلية ، فهي عمل نأمل أن نتابعه رمضاناً ما كإحدى المسلسلات على قناة العيون الجهوية، بدل تلك البرامج و الأعمال الفكاهية التي تزيد الهَمَّ على الهم، فيصيرغماً إعلاميا بنكهة محلية. أنا لست من ذوي الإختصاص، و أنا الهاوي للقراءة والباحت في التاريخ، لأنتقد عملا أدبيا بقيمة "كولومينا" صاحبة الجائزة الاولى بأرض الكنانة من مؤسسة عبد القادر الحسيني، يوم 12 يوليوز 2014م في مصر منبع الفكر و الادب و التأليف و الإبداع ومحط إشادة للعديد من المنابر الإعلامية، و ليسمح لي المؤلِّف وكل القراء الكرام بإبداء بعض الملاحظات الذاتية هوساً و فضولا نقديا لا أقل و لا اكثر، وهي ملاحظات كالتالي : أن تقرأ عملا أدبيا (رواية) بمسميات صحراوية و داخل حي بالعيون موروث عن الإسبان (كولومينا) بعمق الصحراء فتلك متعة بامتياز خصوصاً اذا كان الأسلوب سلساً. أحيت فينا الرواية حس القراءة أسكنتنا بحق في حي كولومينا بين جدرانه و صالات بيوته بوصفها الدقيق و الرائع لكل شبر من ترابه ، بيوته و أزقته و زينة صالاته و أفرشتها و أثاثها، فأضحينا جزءاً من عمرانه . بدأت الرواية باغتصاب أولى شخصياتها المؤنثة ولذلك دلالات عديدة، فكلتوم جزء من كولومينا و كولومينا جزء من العيون و العيون عمق الصحراء والعذرية شرف لا يعوض بمال . كولومينا هي الوطن برمته، حيث الإغتصاب، والعنوسة، والبطالة، والهجرة السرية، والفساد، والقبلية، والشعودة، و،السلفية، والريع(كارطيات)، وشرب الخمر، وصراع الهوية (الدار الكبيرة ) مع المال ( الشركة)، والعلاقات الانسانية، وصراع القربى، إلخ... نجح الكاتب بأسلوبه الرائع، و حسّه الأدبي، في رسم نموذج للشاب الصحراوي في شخصية "حماد" بكل تجلياته (إجازة، عطالة ، ندم على عدم متابعة الدراسة، هوس طفولة، رغبة جامعة في بناء ذاتية مستقلة، مراجعة الذات من حين لأخر...). ربط العمل بين العطالة والعنوسة في شخصيتي الرواية الرئيسيتين: حماد و كلتوم، حيث كل القيم تجانست ليتقاسما هاجس الزواج الذي تمحورت حوله كل احداث الرواية ذات الصبغة الاجتماعية، لكنّ الكاتب بيروك لم يُكمل المراد . سبكُ العملِ معطيات العنوسة في شخص "كلتوم" و العطالة في شخص "حماد" كان جميلا، لكن غابت أحياناً تقنية الرّبط في الإنتقال من شخصية إلى أخرى، إذ بدت الرواية كأجزاء منفصلة. أعطى الكاتب مقاربة جميلة لشخصيتين يشتركان نفس الظروف الإجتماعية وهما "كوثر" و "كلتوم"، فاستطاع أن يخرج بهذه الأخيرة رابحة كل شئ، بدل عبارة "لن تخسر شيئا"، وكان بالإمكان الإشارة إلى المستوى الدراسي لهذه الأخيرة، أو المستوى الديني المتدني لتبرير سلوكاتها فالوضع الإجتماعي العائلي وحده غير شافع لها، و قد أشارت الرّواية إلى ذلك بالنسبة لكوتر عندما ذكرتْ مستوى الرابعة اعدادي، وعودة كلتوم لنفض غبار المصحف، عربون وصولها برَّ الآمان . أيضا أغفلت الرواية بعض الأمور فهي لم تجعلنا مثلا نعيش زفافاً صحرواياً بأدق تفاصيله، لكنها خبرتنا زواجا سلفيا بكل المعايير (أم السعد)، وزواج آخر من طينة كولومينية ( اسحابة بصديق والدها المسن)، ولم يمهلنا العمل فرحة الزواج، حتى حمل لنا خبر طلاق العمة، في انتظار الزيجة الخامسة، و هي عرف صحراوي. _ أعجبني كثيرا عدم ذكر الرواية لأي قبيلة. زمن الرواية كان حدثاً تاريخيا، وظفّه الكاتب بحس عروبي محض، حين تعاطفت تلك الشخوص تلقائيا -حتى الأميّة منها- مع العراق في حربه، دون أن تكون هناك إشارة، هل الاولى خلال غزو الكويت أم التانية ؟؟؟ كما ركز الكاتب على الهاتف التابت دون ذكر للنقال مما يعني أن زمن الرواية قبل متم الألفية الثانية. مجال الرواية كان محدودا و ضيقاً، فباستثناء بادية السمارة (بدون أحدات) حيت أقامت عائلة الضرحي، ظلّ المجال حبيس "كولومينا" لكنّ الكاتب أبدع في وصفها هندسيا و عمرانيا، و هذا يشفع له. كان من المفروض بدء الرواية بقصة غرامية، من باب تشويق القارئ، حتى وإن لم تكن هناك نهاية كما هو مألوف. جمعت الرواية بين الموروث الصحراوي من جهة في : كؤوس الشاي، وأرطال الحليب، والبلغمان، والشكوة والحمارة، والحصير، والبادية، والملحفة، والمعاصر من جهة أخرى : الفراش الخليجي، والسيارات الفاهرة، والنظارات الشمسية، والاحذية العالية الكعب، وكل ذلك في مستويات عدة، مما يعطي انطباعاً على التحضّر و الإنفتاح. غضّ الكاتب الطرف عن سبب سجن يعقوب، حتى ظننته كقارئ سيورده لاحقا، فاعتقدته الإتجار في المواد المدعّمة، وأيضاً عن مصدر ثروة عائلة الضرحي ؟؟؟ شخوص الرّواية متكاملة من حيث النوع و البنية : أطفال (أبناء اخ كلتوم)، و شباب: (حماد و أصدقاءه)، و شابات: (كلتوم و كوتر و اسحابة و سعاد)، و نساء: أم و عمة وأخت..، وشيوخ: أب و فقيه و حاج و سلفي و حجاب و ... كلّ هذا يعطي الانطباع بأنّ "كولومينا" مجتمع متكامل في رواية . شخصية "حماد" المحورية جعلتْها الرّواية تحاور نفسها في كل شئء، بدون صديق يشاركها أسرارها كما هو الحال بالنسبة لكلتوم، و قد أحسن الكاتب باختيار ذكر بدل انثى في هذه الحالة، لان كتمان الأنثى مستبعد. علاقة الشخوص بالدولة (النظام) محدودة جدا، وقد اقتصرت على سجن يعقوب، دون ذكر لأي مؤسسات، ولا مقاطعة، ولا مستشفيات، ولا مواد مدعمة "الزّون"...وكأنّ "كولومينا" فضاء معزول. غاب ما هو سياسي تماماً في الرواية و كان من المستحسن إثارة قضية الصحراء، حتّى بدون إبداء الرأي الخاص ف"كولومينا" في عمق الصحراء. _ معطى آخر كان من المهم الإشارة إليه و لو في زيارة أحد الشخوص له و هو مخيم الوحدة . غيّبت "كولومينا" كواقع اجتماعي بامتياز، و حياة تنبض، مظاهر الفرح تماماً، حتى موقف "كلتوم" و هي تستلم النقود التي حملها إليها "حماد" من طرف أخيها أعطى انطباعاً مادياً محظاً لمعنى الأخوة، وغابت علاقة المحفوظ بأبيه، مهما كان طبع هذا الأخير . بدت "كولومينا" حياة بدون موت، فلا وجود لحالة وفاة ضمن شخصيات الرواية . نظرة الرواية لعلاقات القرابة كانت نمطية، فهي سلبية في كل الحالات (خصام و توتر)و لم تنته و لو واحدة منها بإعادة الرابطة، فلا "حماد" و لا "كلتوم" استطاعا ذلك، وقد أحسن الكاتب وأبدع بجعل ما هو مادي (الإرث)و ما هو قبلي سبباً لذلك. الشق العقائدي : كنت أحبذ والكاتب يسرد صلاة كلتوم وراء أبيها، أن يشير إلى نقطة مهمة، و هي التّيمم حتى بحضور الماء، و هذه مؤاخذة على الجيل الصحراوي أبناء وأجدادا. وقد اختصر الكاتب الإسلام بدلا من ذلك في "الدّحى" رمزا للسلفية و الحَجّاب، و كان أفضل لو دفع ب"حماد" إلى الصلاة أو الدّعاء أو المسجد كلما ضاق به الحال، ولو مرة واحدة على الأقل، مثل هذه الرسالة تعطي قيمة إضافية للعمل. _راقني إيراد صلاة "كلتوم" الاضطرارية وراء أبيها و هي حائض، لأن مثل هذه الأمور من المهم المسكوت عنه . سيناريوهات نهاية كولومينا مفتوحة على كل الإحتمالات، فهل كان هذا مقصوداً ؟؟؟ ذلك أنّ كل الشخصيات لم يُحْسِم في أمرها ف"أم السعد" لم ترجع من زواجها بالسلفي من مراكش، و "اسحابة" لم تكتمل خطوبتها بصديق أبيها المسن، وعلاقة "حماد" ب"كلتوم" تُركت مبهمة، والحاج ظل مريضاً، وعائلة أهل الضرحي لم تخرج من أزمتها تماما .وكوتر لم تخرج من وكر الفساد ..... على مستوى الحياة اليومية، كانت الأمور اعتيادية بكل المقاييس في "كولومينا" لكن في إطار من الجمود، فما عدا سفر عائلة الضرحي الى بادية السمارة اضطرارياً، وخرجة "كلتوم" ورفيقاتها مع "فؤاد" ورفيقيه خارج مدار العيون لاحتساء قنينات البيرا، وسفر "أم السّعد" إلى مراكش للتداوي، بقيت شخوص الرواية الرئيسية سجينة داخل "كولومينا" لم تسافر لا براً، ولا بحراً، ولا جواً .. لو غاص الكاتب أكثر في أسرار البنات، لزاد القارئ شوقاً، فالمسكوت عنه يجد مُتسعاً في الذات البشرية، حباً في الإستطلاع، وشخصية "سعاد" صاحبة الصالون قاربتْها الرّواية بشكل لن يختلف عليه اثنان، وقد أحسن الكاتب حين أورد أن كلتوم بإمكانها الذهاب لصالونات أخرى، حتى لا تُعمَّم النظرةُ السلبية للصالونات، و لمن تلجهن من النساء . أبرزتْ "كولومينا" حياء "أم السعد" اتجاه ابن خالها "حماد"، و هو شئ مفترض في مجتمع محافظ كمجتمع الصحراء، وإن كان ذلك بسبب السحر من وجهة نظر "حماد"، و زواجها ب"الدّحى" أكد ذلك، دون نفي لاحق من الكاتب، وهو تأييد ضمني بقناعة الدّجل. ختاماً : أقول للأستاذ بيروك أنّ رسالة "كلتوم" وصلت إلى الرجل الأربعيني الأرعن ابن الحاج، الذي خلته و أنا اقرأ الرواية أخ "حماد" لو لم تسمّه (فؤاد) ...ورسالتك وصلت بالمضمون والسريع معاً، فما عُدْتُ أسكن "كولومينا" بل هي من باتت تسكنني.