ترقية ولي العهد الأمير مولاي الحسن إلى رتبة كولونيل مأجور            طقس حار وأمطار رعدية مرتقبة في عدد من مناطق المملكة غداً الجمعة    احتراق سيارة بسبب قنينة غاز بشاطئ تلا يوسف بإقليم الحسيمة    محطات الوقود تتوقع عودة أسعار المحروقات إلى "الاستقرار" في المغرب    أداء إيجابي يختم تداولات البورصة    نقابة موظفي التعليم العالي تهدد بمقاطعة الدخول الجامعي وتصعيد الاحتجاج    عيد العرش.. أمير المؤمنين يترأس حفل الولاء بالقصر الملكي بتطوان    بنك المغرب: تباطؤ تداول النقد إلى 5.2% في 2024 بعد سنوات من النمو القوي    شوقي يكشف تفاصيل مثيرة أمام المحكمة.. والناصري يطعن في الوثائق    حقوقيون يرحبون بتحويل عقوبة 23 شخصا إلى المؤبد وينشدون مغربا بلا إعدام    حكومة أخنوش تصرف لجميع الموظفين الدفعة الثانية من الزيادة العامة للأجور    واشنطن تفرض عقوبات على مسؤولين بالسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير    النصب عبر مكالمات هاتفية يقود إلى اعتقال 3 أشخاص بينهم قاصر    مصرع أب لأربعة أبناء إثر حادثة سير خطيرة بإقليم القنيطرة    أسرة "الراعي الصغير" تنفي انتحاره وتشكو تهديد المشتبه فيه ووجود محاولات لطمس حقيقة مقتله    ندوة "رقصة الأفعى.. الأبعاد والدلالات" تضفي بعدا فكريا على مهرجان إيقاعات الوناسة    البرتغال تعتزم الاعتراف بدولة فلسطين    وزير الخارجية السوري يريد بناء "علاقة صحيحة" مع روسيا ولافروف يدعو الشرع لزيارة موسكو    أخبار الساحة    إنفانتينو: المغرب أضحى ضمن النخبة العالمية لكرة القدم    بعد عقد جمعه العام، أولمبيك الدشيرة يطمح لموسم متوازن ضمن فرق النخبة الأولى    الولايات المتحدة تبرز ريادة جلالة الملك لفائدة السلام والازدهار، وتشيد بالشراكة الدائمة مع المملكة المغربية    اختلاف الرؤية وتجديد الأساليب الشعرية في ديوان «.. ودثرتني»    بعد فصيلة "الريف" اكتشاف فصيلة دم جديدة تُسجّل لأول مرة في العالم        تسليم جثة مهاجرة للسلطات المغربية بعد احتجازها لسنة ونصف بالجزائر    الرئيس اللبناني يفاجئ الجميع بشكر المغرب من داخل القصر الرئاسي الجزائري    رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي: الدبلوماسية الاقتصادية المغربية جعلت من المملكة قطبا حقيقيا لإفريقيا        احتفالية ثقافية راقية تخليدا لعيد العرش المجيد.. حضور دبلوماسي رفيع في مهرجان ربيع أكدال-الرياض    إقالة مدير لجنة الحكام في "كاف" وحكام أجانب مرشحون لقيادة "كان" المغرب 2025    الرئيس اللبناني يؤكد سحب سلاح حزب الله وتسليمه إلى الجيش    مساعد الركراكي يعود إلى تروا الفرنسي لقيادة الفريق الرديف    بمناسبة عيد العرش.. خريبكة تحتضن الجائزة الكبرى لسباق الدراجات    ارتياح كبير لنجاح السهرات الفنية بعمالة البرنوصي سيدي مومن    رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي: الدبلوماسية الاقتصادية المغربية جعلت من المملكة قطبا حقيقيا لإفريقيا    الدار البيضاء تحتضن النسخة ال13 من "نجوم كناوة"    خسائر شركة "رونو" تعادل 11,2 مليار يورو    مشاريع قطب التنشيط "أكادير فونتي" لا تزال قيد الانتظار    أنفوغرافيك | يوازي ترتيبه بلدان تمر بأزمات.. المغرب في مؤشر الرعاية الصحية العالمي 2025            تشيلي.. إجلاء أكثر من مليون شخص تحسبا لوصول تسونامي    المنتخب المحلي يضمن 200 مليون قبل انطلاق "الشان"    العسكر ينهي حالة الطوارئ في بورما    سينما الشهرة.. النجومية معركة بين الرغبة في التفرد والخوف من النسيان    لقاء يتناول الأمن السيبراني بالقنيطرة        ما مدة صلاحية المستحضرات الخاصة بالتجميل؟    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    متى ينبغي إجراء الفحوص الدورية على العينين؟    استخدام الهاتف في سن مبكرة يهدد الصحة العقلية    تطوان تحتفي بحافظات للقرآن الكريم    على ‬بعد ‬أمتار ‬من ‬المسجد ‬النبوي‮…‬ خيال ‬يشتغل ‬على ‬المدينة ‬الأولى‮!‬    الوصول إلى مطار المدينة المنورة‮:‬‮ على متن طائر عملاق مثل منام ابن بطوطة!    اكتشافات أثرية غير مسبوقة بسجلماسة تكشف عن 10 قرون من تاريخ المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سينما الشهرة.. النجومية معركة بين الرغبة في التفرد والخوف من النسيان
نشر في هسبريس يوم 31 - 07 - 2025

سينما الشهرة هي ذلك الحقل الفيلمي الذي لا يقتصر على تمجيد الأضواء؛ بل يتجاوزها إلى مساءلة معناها وتفكيك بنيتها. ويكاد يكون مفهوم الشهرة في هذا السياق أشبه بشخصية روائية لها قناع مزدوج، فهي تبدو في ظاهرها جاذبة وساحرة؛ ولكن في عمقها كاشفة عن توترات الذات وانقسامها بين الحاجة إلى الاعتراف والخوف من الذوبان في سلطة الجماهير. وليست الشهرة في السينما مجرد موضوع؛ بل سؤال وجودي يحيل على قلق الكينونة، وكيف تصبح الذات موضوعا للنظر؟ وكيف يتحول الوجه الإنساني إلى قناع عمومي؟ إنها سينما تحفر في هشاشة الهوية من خلال استعراض علاقة الإنسان بالجمهور والتقدير الخارجي لها؛ بل وأكثر من ذلك تكشف عن أن النجومية معركة بين الداخل والخارج بين الرغبة في التفرد والخوف من النسيان، وهذه هي الأطروحة الكبرى لسينما الشهرة.
كيف نشأت هذه السينما؟ كيف تطورت؟ ما مقوماتها؟ وما أبعادها؟ وما تجلياتها؟ ...
سينما الشهرة.. بين سلطة الجمهور وصناعة الصورة
نشأت سينما الشهرة مع هوليوود نفسها، حيث كان البريق جزءا من الصناعة.. ولم تكن البداية فلسفية؛ بل تجارية ترتكز على تسويق النجوم وتحويلهم إلى منتجات ثقافية.. لكن هذا الواقع سرعان ما أنجب تناقضات وصراعات، فظهرت أفلام تتأمل في الشهرة كحالة وجودية مثل فيلم Sunset Boulevard، " شارع الغروب " (1950) للمخرج بيلي وايلد، والذي يعرض الفيلم لنا نجمة سابقة (نورما ديزموند)، تعيش في عزلة، وترفض الاعتراف بأن عصرها قد انتهى، بعد انحسار الأضواء عنها أو فيلم A Star is Born، " ولادة نجم" بنسخه المتعددة، أربع مرات (1937)،(1954)،(1976)،(2018)، حيث يقترن الصعود إلى القمة بالسقوط الفردي المدوي والموت الرمزي.
وتطرح هذه السينما إشكالية الزيف والحقيقة؛ فالنجم هو دائما شخص يتحرك بين الحقيقة والتمثيل بين من هو فعلا ومن ينتظر منه الآخرون أن يكون. ويتجلى هذا في أفلام مثل، Birdman، " الرجل الطائر" (2014) للمخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إينياريتو، الذي قدم ممثلا سابقا (ريغان طومسون) في أزمة وجودية يحاول استعادة اعتراف الجمهور على حساب ذاته أو فيلم Black Swan، " البجعة السوداء" (2010) للمخرج الأمريكي أرونوفسكي حيث تنفجر شخصية البطلة نينا (ناتالي بورتمان) بين الواقع والوهم في سعيها المحموم إلى الكمال الفني.
كما تطرح سينما الشهرة إشكالية السلطة، فالنجم يصبح خاضعا لسلطة الجمهور والإعلام؛ بل حتى لصناعة الصورة التي قد تسحق فردانيته وتفرض عليه أنماطا من السلوك والجمال والنجاح. وهذا ما نجده في فيلم The Truman Show، " عرض ترومان " (1998) للمخرج بيتر وير، حيث يصبح البطل موضوعا لعرض تلفزيوني دون علمه في استعارة قوية عن الرقابة التي تمارسها منظومة الشهرة على الذات المعاصرة.
سينما الشهرة.. بين الموت والتمزق
يظهر البعد الفلسفي في سينما الشهرة في علاقتها بالموت؛ فالمشاهير في الكثير من الأفلام يقترنون بالفناء إما الرمزي أو الواقعي كأن الشهرة لا تكتمل إلا بفقدان شيء أساسي من الكينونة الذاتية، فنراها تنتهي بالجنون أو الانتحار أو العزلة كما في فيلم Gia الذي، " جيا" (1998) للمخرج الأمريكي مايكل كريستوفر، يروي سيرة عارضة أزياء(جيا ماري كارانجي)، (من بطولة أنجلينا جولي) تنتهي مأساتها في صمت أو في فيلم الوثائقي Amy الوثائقي، "إيمي" (2015) للمخرج البريطاني أصف كاباديا، والذي يقدم شهرة المغنية إيمي واينهاوس كجحيم معاصر بسبب التسمم الكحولي عن عمر يناهز 27 عاما، خاصة صراعاتها مع الإدمان والصحافة الصفراء وعلاقتها المعقدة بوالدها وشريكها العاطفي.
أما على مستوى الأبطال فهم غالبا ما يكونون شخصيات تعيش التمزق بين الحياة الخاصة والحياة العامة بين الرغبة في النجاح والرغبة في الهروب من الضوء، وغالبا ما يكون البطل في هذه الأفلام فنانا أو إعلاميا أو عارضا أو شخصية عامة في رحلة صعود تقترن حتما بإحساس عميق بالوحدة والاغتراب. ولعل هذا ما يجعل من سينما الشهرة سينما وجودية بامتياز، إذ إنها تتأمل في الثمن الوجودي للاعتراف الجماعي.
سينما الشهرة.. البحث في الجانب المعتم وفقدان المعنى
تستند سينما الشهرة إلى خلفية فلسفية وفكرية عميقة تجعل منها أكثر من مجرد نوع سينمائي فهي تشتبك مع قضايا الوجود والهوية والمعنى والاعتراف. وتقوم على مساءلة الكائن في علاقته بالذات والآخر والجمهور من خلال صورة النجم الذي يتحول إلى مرآة للعصر ومرآة للإنسان المعاصر الذي يعاني من فقدان المعنى أمام تضخم الصورة وازدحام الأضواء. ويمكن القول إن هذه السينما تستمد جوهرها من الفكر الوجودي الذي يركز على القلق والاختيار والحرية والمسؤولية، إذ إن أبطالها يعيشون تمزقا وجوديا بين ما يريدون أن يكونوا عليه وما يُراد لهم أن يكونوا عليه، فهم لا يملكون ذواتهم؛ بل تملكهم نظرة الجمهور وتطاردهم عدسات الكاميرات التي تسلبهم خصوصيتهم وتفرض عليهم قناعا لا يستطيعون خلعه.
وتبدو فكرة الاغتراب التي طرحها الفلاسفة الوجوديون، مثل كيركغارد وجون بول سارتر، مركزية في هذه السينما حيث يعيش البطل مفارقة دائمة بين الذات الأصلية والذات التي تظهر للآخرين ويجد نفسه محكوما بلعبة التمثيل الاجتماعي كما وصفها إرفينغ غوفمان في تحليله لبناء الهوية في الحياة اليومية، إذ يتصرف الفرد كما لو أنه ممثل على مسرح اجتماعي يحتاج إلى أن يحافظ على صورة معينة ليكسب القبول. وهذا بالضبط ما تشتغل عليه أفلام مثل "الرجل الطائر" و"البجعة السوداء" و"عرض ترومان "... حيث يسقط القناع ويبدأ البطل في مساءلة وجوده أمام نفسه لا أمام جمهوره.
كما تتقاطع هذه السينما مع أفكار مدرسة فرانكفورت، خصوصا عند ثيودور أدورنو وهوركهايمر حول صناعة الثقافة، إذ تظهر كيف تتحول الذات الإنسانية إلى منتج داخل صناعة الترفيه. ويصبح الفرد مادة للاستهلاك البصري وتتم برمجته ضمن منطق السوق، حيث تُنتج الشهرة وتُباع كما تُباع السلع ويصبح النجم خاضعا لنفس منطق الربح والخسارة. وتتجلى هذه الخلفية النظرية بوضوح في فيلم Elvis ، حيث يتم تقديم الفنان كجسد يُستثمر حتى الانهيار.
وهناك أيضا تقاطع مع الفكر النفسي كما عند سيغموند فرويد وجاك لاكان، خاصة في مسألة الهوية والصورة؛ فالذات الشهيرة تعيش انفصاما بين الأنا الحقيقي والأنا الذي يظهر على الشاشة بين ما هي عليه فعلا وما تعتقد أنه يجب أن تكونه لتعجب الآخرين. وتصبح الشهرة في هذه السينما رمزا للأب المتسلط أو للمرآة الكبرى التي لا ترحم حيث يرى النجم صورته ويتحول إلى أسير لها كما نرى في فيلم Persona " القناع " أو "الشخصية"، (1966) للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان أو في ،Neon Demon، " شيطان النيون" (2016) للمخرج الدنماركي نيكولاس ويندينغ ريفن، والذي يُظهر كيف تلتهم الصورة الذات وتختزلها.
وتمثل الخلفية الفلسفية لسينما الشهرة حسا تأمليا ونقديا. وتتوجه إلى المجتمع وإلى الفرد معا وتعيد طرح السؤال القديم من أنا؟ في زمن تُعرّف فيه الهوية من خلال عدد المتابعين والمشاهدات. وتصبح الذات مسكونة بهاجس أن تُرى لكي توجد تقول نينا في نهاية فيلم "البجعة السوداء": "لقد كنت مثالية في لحظة تختلط فيها النشوة بالفناء". ويلخص هذا القول تماما روح هذه السينما التي تجعل من الضوء أداة كشف لا للاحتفال؛ بل للحقيقة المختبئة خلف البريق والضوء المسلط عليها.
سينما الشهرة.. الذوبان في الصورة
تطورت سينما الشهرة مع تطور الوسائط؛ فبعد أن كانت تشتغل على نجومية السينما فقط بدأت في السنوات الأخيرة تشتغل على نجومية وسائل التواصل الاجتماعي كما نرى في فيلم Ingrid Goes West، "إنغريد نحو الغرب"، (2017) للمخرج مات سبايسر، والذي يفكك شهرة "إنستغرام" كقناع اجتماعي في رحلة شابة نحو الغرب الأمريكي، أو في فيلم Spree، " الهيجان" أو "نوبة الجنون"(2020) للمخرج والكاتب الأمريكي ذي الأصول الأوكرانية يوجين كوتليارينكو، حيث تتحول الحاجة إلى المشاهدة إلى مرض نفسي قاتل، والسعي المحموم نحو الشهرة بأي ثمن. وهذا التحول يكشف عن أن سينما الشهرة لا تتحدث عن زمن معين؛ بل عن بنية إنسانية تتكرر في كل عصر.
ومن أبرز الأفلام التي يمكن إدراجها ضمن هذه السينما نذكر Boogie Nights، " ليالي الرقص"(1997) للمخرج بول توماس أندرسون، والذي يعرض حياة نجوم الأفلام الإباحية كحالة من الصعود والانهيار وفيلم The Bling Ring، " عصابة الثراء المزيف" (2013) للمخرجة صوفيا كوبولا، والذي يتناول هوس المراهقين بالمشاهير كمرآة لقيم المجتمع المعاصر. كما نذكر La La Land، "أرض الأحلام " (2016) للمخرج والكاتب الأمريكي دميان شازيل، والذي يعرض الثمن العاطفي للنجاح الفني وفيلم Elvis الذي" إلفيس" (2022) للمخرج الأسترالي باز لورمان، حيث يقدم سيرة ذاتية من حياة إلفيس بريسلي من بدياته المتواضعة في ولاية ميسيسيبي إلى تحوله إلى أيقونة ثقافية أمريكية، وماركة عالمية وصعوده المذهل ولحظات انحداره وسقوطه.
وقد يكون أكثر الأفلام إثارة للبعد الفلسفي في هذا النوع هو فيلم "القناع" لبرغمان الذي وإن لم يكن عن الشهرة بشكل مباشر إلا أنه يعالج مسألة القناع والوجه والهوية بطريقة تتقاطع جوهريا مع منطق النجومية. كما نستحضر فيلم Mulholland Drive، "طريق مولهلاند" (2001) للمخرج الأمريكي ديفيد لينش، والذي يتلاعب بمفهوم النجاح والفشل داخل صناعة السينما ويكشف عن وجهها المظلم من خلال شارع حقيقي شهير بمدينة لوس أنجلس، وقد أصبح رمزا للحلم الأمريكي؛ لكنه في الفيلم يحمل دلالات رمزية أعمق تتعلق بالهوس والوهم واللاوعي.
إن سينما الشهرة لا تحتفي بالضوء؛ بل تحفر في ظله، إنها مرآة تعكس قلق الذات المعاصرة التي تتوق إلى الاعتراف وتخاف منه في الآن ذاته. وهي سينما تتساءل عما إذا كانت الذات قادرة على أن تكون صادقة في عالم يطلب منها أن تكون واجهة. وهي تساؤل فلسفي عن الظهور والجوهر عن الرغبة في البقاء في الذاكرة بأي ثمن حتى وإن كان الثمن هو الذوبان في صورة ليست حقيقية.
وبهذا، فإن سينما الشهرة ليست فقط نوعا فنيا؛ بل هي ممارسة فلسفية تسائل شروط الوجود في زمن الإعلام. وهي مرآة للعلاقة المعقدة بين الإنسان والصورة وبين الذات والمجتمع وبين الفرد والحشد. إنها دعوة للتأمل في المصير الشخصي في مواجهة الضوء الساحر الذي يخفي دائما شيئا من العتمة.
سينما الشهرة.. ثنائية الصعود والانهيار
تقوم سينما الشهرة على هوية مركبة متعددة الأبعاد تتقاطع فيها السردية والخطابية والبصرية لتشكل عالما متوترا بين الضوء والظل بين الحضور الكاسح والغياب الداخلي. وتنبني سينما الشهرة على مفارقة جوهرية؛ فبينما تحاكي الصعود والنجومية فإنها تنبش في هشاشة الذات وانكساراتها خلف الأضواء لتكشف عن الهوية بوصفها بناء هشا يتغذى على نظرة الآخر ويتهدد بالانهيار في كل لحظة.
وتتسم سينما الشهرة في بنائها السردي بهوية تقوم على ثنائية الصعود والانهيار، حيث يسير البطل في مسار دائري يبدأ من الحلم ثم الصعود نحو قمة الشهرة لينتهي بالسقوط أو العزلة أو الموت. وهذا البناء لا يعكس فقط بنية درامية؛ بل يؤشر على رؤية فلسفية تعتبر أن المجد لحظة خاطفة لا تُحتمل وأن الشهرة ذاتها فعل عنيف يسحق الكائن من الداخل وتكمن قوة هذه السردية في أنها تجعل من الترقب والانهيار جزءا من نسيج الفيلم فالمتلقي لا يكتفي بتتبع مسار البطل؛ بل يشارك في تشكل مصيره كمن ينتظر الكارثة.
وتتجلى هذه الهوية ما نراه في فيلم "البجعة السوداء"، حيث تتماهى البطلة مع الدور الذي تؤديه حتى تنفجر ذاتها بين التقمص والانهيار تقول نينا في لحظة الذروة: "لقد شعرت بالكمال، كان رائعا". وهذا الكمال هو إعلان عن تلاشي الذات وسط متطلبات الجمهور والفن. أما في فيلم "الرجل الطائر"، فنجد السرد الفيلمي يشتغل على تداخل الواقعي بالمتخيل في محاولة لإبراز مدى تعقيد الذات الشهيرة يقول ريغان: "أنا لا أحاول أن أكون مشهورا؛ بل أحاول أن أكون له معنى".
ويرتكز خطاب سينما الشهرة على المفارقة والتشكيك والتفكيك؛ فهي سينما تتحدث عن الشهرة ولكنها لا تمجدها بل تنتقدها أو تتأملها في خطاباتها. ونجد غالبا نبرة ملتبسة يتداخل فيها الإعجاب مع السخرية والتأمل مع الإدانة.. إنها سينما تنطق بلغتين في آن واحد، لغة السحر ولغة الانكسار فهي تخلق صورا براقة ثم تسحب البساط من تحتها وتضع المشاهد أمام سؤال وجودي ماذا لو أن الشهرة قناع للفراغ؟
ومن الأمثلة البليغة على هذا الخطاب ما نسمعه من شخصية ترومان في فيلم "عرض ترومان"، حين يقول: "إلى متى سأبقى أسير هذا العرض؟". وكأن الخطاب هنا لا يتحدث عن مجرد برنامج تلفزيوني؛ بل عن عرض الحياة ذاتها حين تتحول إلى سلعة أو عندما تقول إيمي واينهاوس في وثائقي Amy" لا " : "لا أستطيع التعامل مع الشهرة، أنا فقط أغني فحسب". وهذا النوع من الخطاب يحرر الشهرة من قدسيتها ويعيدها إلى بعدها الإنساني الهش.
وتتجلى الهوية البصرية لسينما الشهرة في اللعب على التناقض بين الضوء والعتمة بين الكواليس والمنصة بين القرب والانكشاف والبعد والعزلة. ولا تكتفي الكاميرا في هذه الأفلام بتصوير البطل بل تلاحقه، تتجسس عليه، وتتورط في أزمته، فتخلق شعورا بالتوتر والقلق البصري خصوصا عندما يتم استخدام اللقطات المقربة وزوايا التصوير الحادة التي تضع المتلقي داخل المشهد دون مسافة أمان.
ونجد في فيلم "شيطان النيون" حضور اللون والإضاءة كعنصر سردي بصري يجسد الصراع بين الجمال والدمار بين الصورة والواقع. وفي فيلم "أرض الأحلام"، يتم اللعب على الألوان والحركة لإبراز الحلم الذي سرعان ما ينقلب إلى واقع صعب، فتبدو الصور براقة ولكنها تخفي خلفها الألم والتضحيات، هنا ليست زينة بل أداة تعبير فلسفي تحوّل الجمال إلى قلق.
وما يميز الهوية البصرية أيضا في هذه السينما هو كثرة المرايا والشاشات والعدسات، إنها سينما تنظر إلى ذاتها وتطلب من المتفرج أن يراها وهي تُرى وهذا ما يمنحها طابعا ما بعد حداثي، يجعل من التلقي تجربة مزدوجة رؤية الشيء ورؤية كيف يُرَى الشيء وكأن البطل لا يعيش فقط بل يشاهد نفسه وهو يعيش وهذه المرايا تنكسر في النهاية لتكشف عن هشاشة الصورة وصعوبة البقاء داخل الإطار.
ومن الأمثلة التي تعكس هذه اللعبة البصرية فيلم "القناع"، حيث يتم تفكيك الوجه كمرآة متصدعة للهوية أو فيلم "إلفيس" الذي يمزج أرشيف الواقع بالمشهد السينمائي ليخلق هوية بصرية تقوم على التوتر بين الوثائقي والدرامي. وفي كل هذه الأعمال لا يتم تقديم الشهرة كأمر مكتمل بل كصورة تتشكل باستمرار وتنهار مع كل محاولة لتثبيتها.
وتقوم الهوية السردية والخطابية والبصرية لسينما الشهرة على قلق وجودي عميق تجعل من الظهور مشكلة فلسفية ومن التقدير الجماهيري عبئا نفسيا ومن الصورة جرحا نرجسيا يزداد عمقا كلما ازداد بريقه. وتبحث سينما الشهرة في السؤال القديم من أنا؟ ولكنها تطرحه في زمن أصبحت فيه الإجابة مرهونة بعدد المتابعين وعدسات الكاميرات، وتقول لنا بلسان أحد أبطالها: "لقد رأوني إذن أنا موجود ولكن ماذا لو لم أعد مرئيا؟".
البطل في السينما الشهرة.. الانهيار من الداخل
يقف البطل في قلب سينما الشهرة كشخصية مركبة متصدعة، تعيش بين المجد والانكسار بين الرغبة في الظهور والخوف من الذوبان في الضوء. فهو ليس بطلا تقليديا بالمعنى الكلاسيكي وإنما هو شخصية معذبة تبحث عن ذاتها في مرآة الجمهور وفي انعكاسات الصورة ووهج العدسات. والبطل في هذه السينما هو إنسان مفرط في الإحساس بالذات؛ ولكنه يعجز عن امتلاكها كلما اقترب من الشهرة ازداد بعدا عن نفسه وكلما ازداد ظهوره ازداد اغترابه.
وتتشكل داخل صراع وجودي مع التقدير الخارجي والاعتراف الجماهيري، إذ تتحول علاقته بالجمهور إلى علاقة مرآوية فيها نشوة وفيها قلق؛ فالبطل في هذه السينما ليس مناضلا ولا مقاوما بل هو عاشق للضوء، ولكنه يدفع ثمنه بالوحدة والتلاشي وغالبا ما يكون هذا البطل فنانا أو ممثلا أو مغنيا أو شخصية عامة تعيش داخل ثنائية الحلم والانهيار.
ونرى في فيلم "الرجل الطائر" البطل ريغان، هذه الهوية ممزقة لهذه الشخصية بين الماضي الناجح والحاضر المأزوم وبين ما يريده الجمهور وما يريده لنفسه يقول في لحظة مكاشفة: "أنا لا أريد أن أصبح لا أحد". ويكشف هذا التصريح عن أن البطل في سينما الشهرة لا يسعى فقط إلى الشهرة؛ بل يسعى إلى الوجود ذاته للشعور بأنه موجود من خلال نظرة الآخرين، لكنه يدرك مع الوقت أن هذه النظرة قد تقتله.
ونجد البطلة في فيلم "البجعة السوداء"، نينا، تذوب في الدور إلى حد الانفجار إنها لا تعيش الشهرة بل تحترق في نارها.. تقول قرب النهاية: "كنت أبحث عن الكمال وقد حصلت عليه"؛ لكنها تنطق بذلك وهي تحتضر كأن الكمال في هذه السينما مرتبط بالفناء والنجاح مرادف للانهيار. وما يثير الانتباه هو أن هذه الشخصيات لا تسقط بفعل خارجي؛ بل تنهار من الداخل بفعل التوترات النفسية والضغوط التي تفرضها عليها ذاتها المتورطة في لعبة التمثيل أو الظهور.
وليست شخصيات هذه السينما ثابتة ولا بطولية بالمعنى التقليدي؛ بل هي شخصيات متقلبة، قلقة، مضطربة، وتعيش على حافة الجنون والتمزق. وتتشكل من خلال علاقتها بالشهرة كقيمة وكعبء. ومن هنا نجد شخصية مثل جيسي في فيلم "شيطان النيون"، التي تبدأ كمراهقة حالمة وتنتهي كمخلوق رمزي يبتلعها عالم الموضة. وتتحول الصورة إلى أداة تدمير شخصية أخرى هي شخصية ميا في فيلم "أرض الأحلام"، التي تعيش حلم التمثيل في لوس أنجلس؛ لكن تحقيق الحلم يأتي على حساب الحب والاستقرار، فتقول في لحظة وداع: "لم تكن الأمور كما تمنيت"، لكنها كانت حقيقية هذه المفارقة تختزل فلسفة البطل في سينما الشهرة حيث لا يمكن امتلاك كل شيء ومن أراد الضوء فعليه أن يخسر شيئا من قلبه أو كيانه.
ونجد في "عرض ترومان" شخصية ترومان، يعيش في عالم متخيل؛ لكنه يبدو واقعيا إلى حد الجنون يتساءل ترومان في لحظة انكسار: "ماذا لو أن حياتي كلها مجرد عرض؟". هنا يصبح البطل في هذه السينما رمزا للإنسان المعاصر الذي يخاف أن يكون مجرد شخصية في رواية الآخرين، مجرد صورة في شاشة المجتمع. ولا يصارع البطل العالم، بل يصارع صورته في العالم وهنا تكمن الدراما الكبرى.
ولا تسعى شخصيات سينما الشهرة وأبطالها فقط إلى النجاح، بل تسعى إلى الحب، إلى الاعتراف، إلى الانتماء؛ لكنها تواجه منظومة تحكمها قواعد العرض لا تسمح بالهشاشة ولا تقبل بالضعف. وهذا ما يجعل من هذه الشخصيات مأساوية في عمقها حتى عندما تبتسم أمام الكاميرا تكون داخليا مفككة، ومرتبكة. ونرى هذا في فيلم Elvis حيث يعيش البطل بين صوته وصوت الإدارة بين جسده وبين رغبات السوق. ولا يبقى في النهاية منه إلا الإرهاق وذكرى نجم عاش تحت الأضواء ومات في العتمة.
إذن، ليس بطل اللحظة؛ بل بطل السقوط، شخصية محاصرة بين صورتها ومراياها وبين شهوتها للحب وخوفها من الانطفاء. يقول مايكل جاكسون في أحد أفلامه الوثائقية: "الشهرة تشبه تناول السكر في البداية، تجعلك سعيدا ثم تجعلك مدمنا وفي النهاية تتركك خاليا". ويعكس هذا الاقتباس تماما روح هذه السينما، فشخصياتها في العمق تبحث عن امتلاء إنساني؛ لكن الطريق إليه مفروش بالوهم والعزلة.
ومن بين أهم النماذج التي يمكن ذكرها أيضا نجد شخصية "جاكسون ماين" في فيلم "ميلاد نجم"، الذي يمثل لحظة التراجع والانطفاء في مقابل صعود نجمة جديدة. يقول لها في أحد المشاهد: "إن كل ما يهم هو أن يكون لك شيء لتقولي للعالم"، لكنه يقول ذلك وهو على حافة الانهيار، كأن لسان حاله يقول إن البطل في سينما الشهرة هو الذي يعطي صوته للعالم حتى وإن لم يستطع إنقاذ نفسه.
وتتأسس هوية البطل في سينما الشهرة لا على هوية استعراضية؛ بل هوية مأزومة، هو كائن يتأرجح بين الحلم والقلق بين الإبداع والانهيار. فهي شخصية تحتفل بها العدسات لكنها تعاني من ثقل الضوء. شخصية تسكنها المفارقة أن تكون مرئيا إلى حد التلاشي وأن تسعى إلى الاعتراف حتى لو فقدت ذاتك في الطريق، إنها شخصيات تُحب وتُدمَّر في آنٍ واحد، تبحث عن نفسها بين الكواليس وتختفي حين تبدأ الكاميرا في الدوران.
سينما الشهرة.. مدخل لفهم السلطة والمال والهوية والتحكم
تُعد سينما الشهرة مرآة حادة للواقع المعاصر بامتداداته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية والرمزية، فهي ليست فقط استعراضا للنجومية أو حياة المشاهير؛ بل مشروع سينمائي يفتح الواجهة على باطن المجتمع وينفذ من خلال قصص الشهرة إلى عمق الإنسان في علاقته بنفسه ومحيطه. ففي هذا النمط السينمائي تصبح الشهرة مدخلا لفهم السلطة والمال والهوية والعزلة والتحكم والخسارة والاعتراف...
وتكشف سينما الشهرة من الناحية الاجتماعية عن هوس المجتمع الحديث بالنجومية بوصفها القيمة الأعلى التي تتيح للفرد أن يُرى ويُعترف به في زمن تحكمه الصورة وتديره وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. ويتحول النجم إلى مرآة اجتماعية تعكس قيم الجماعة وتصوراتها عن النجاح والجمال والتأثير وتغدو الشهرة نوعا من التقديس المعاصر الذي يجعل الفرد العادي يشعر بالدونية أمام من يملك جمهورا وعدسات. وفي هذا السياق تقول إيمي واينهاوس في أحد مقاطعها الشهيرة: "أنا لا أريد أن أكون مشهورة أريد فقط أن أُسمع"، وكأنها تحتج على نزعة اجتماعية تحول كل صوت إلى سلعة وكل وجه إلى واجهة.
وتفضح هذه السينما من الجانب السياسي علاقات السلطة التي تُمارس على الجسد والهوية، فالنجم ليس حرا كما يبدو؛ بل هو خاضع لمنظومة ضخمة من التحكم والإنتاج والترويج. وتتحكم في مظهره وكلماته وسلوكه وتجرده من خصوصيته باسم الشهرة، وهذا ما نراه في "عرض ترومان"، حيث تتحول حياة البطل إلى عرض تلفزيوني تديره سلطة خفية تقول له كل ما تراه هو من أجل راحتك؛ لكن الحقيقة هي أنه مجرد دمية داخل آلة تحكم تامة وهنا تتحول الشهرة إلى استعارة سياسية عن الرقابة والتوجيه والمراقبة الكلية.
وترتبط سينما الشهرة بعالم السوق الذي يحول الإنسان إلى منتج قابل للتسويق، حيث يُستثمر النجم كعلامة تجارية ويصبح مظهره وسلوكه وحتى سقوطه جزءا من العرض المالي. ويتحول الفشل أو المرض أو الفضيحة إلى رأسمال جديد يدرّ الأرباح. وتعتبر الشخصية في هذه الأفلام ليست كائنا بشريا؛ بل رأس مال رمزي قابل للتداول. يقول أحد شخصيات فيلم "عرض ترومان": "كلما تعذّب أكثر كلما أحبوه أكثر". ويلخص هذا القول كيف يتم تحويل المعاناة الإنسانية إلى عرض مربح في منظومة تجارية تستهلك الإنسان دون رحمة ودون مغفرة.
وتقدم سينما الشهرة الزاوية النفسية، الشخصية المشهورة ككائن ممزق يعيش اضطراب الهوية والخوف من الفقد والقلق من النسيان. وتبرز الشخصية باحثة عن الحب وسط الحشود وعن الذات وسط الصور. وتعاني هذه الشخصيات في الغالب من العزلة رغم كثرة المعجبين ومن الاكتئاب رغم النجاح. ونجد البطلة في فيلم "البجعة السوداء"، تتهاوى نفسيا تحت ضغط التوقعات فيقول المعلم: "أنت تحتاجين إلى أن تضيعي نفسك لكي تجديها"؛ وهذا يعني أن الشهرة لا تعزز الذات بل تُفرغها ثم تعيد تشكيلها وفق مقاييس الآخرين.
ويتجلى البعد الرمزية في هذه السينما في كون الشهرة ليست مجرد وضع اجتماعي؛ بل رمز للتحقق المزيف. إنها رمزية تحيل على المرايا وعلى الأقنعة وعلى الخداع وعلى الحقيقة الغائبة. وهي صورة للحلم الأمريكي أو الحلم الغربي أو الحلم المعاصر في أن يصير الإنسان شيئا يُشاهد؛ لكن هذا الحلم يتحول إلى كابوس حين يدرك صاحبه أنه فقد جوهره مقابل أن يصبح مرئيا كما في فيلم "القناع". ونجد هذا المعنى العميق حين تذوب هوية الممرضة في الممثلة، ويختلط الوجهان إلى درجة يفقد فيها المشاهد القدرة على التمييز فتظهر الشهرة هنا كرمز للفقدان لا للتحقق.
ويظهر الجسم في فيلم "ليالي الرقص" كنقطة تقاطع بين الرغبة والشهرة والسيطرة، حيث تتحول أجساد الممثلين إلى مساحات استعراض وتجريد من الإنسانية، وكل ذلك يتم في إطار صناعة مربحة تجعل من الجسد مركز العرض ورمز الانهيار.
ولا تعتبر شخصيات سينما الشهرة رموزا للنجاح، بل علامات للقلق المعاصر واللايقين النفسي والاجتماعي. فهي تتحدث بلغة الجمهور؛ لكنها تبحث عن لغتها الخاصة وتعيش في الضوء وتشتاق إلى العتمة، لأنها الوحيدة التي تُشعرها بالحقيقة. تقول إحدى شخصيات فيلم "أرض الأحلام "، في لحظة خيبة أمل: "ربما نحن لسنا من كتب هذا الحلم وربما الحلم لم يكن لنا أصلا". ويختزل هذا القول رمزية سينما الشهرة كحلم يُباع لمن لا يستطيع تحمله.
وما يجعل هذه السينما قوية هو أنها تستخدم أكثر العناصر بريقا لتكشف أكثر الحقائق ظلما؛ فهي تستخدم الأضواء لتشير إلى العتمة وتستخدم النجاح لتتحدث عن الهشاشة، وتستخدم الجماهيرية لتفضح الوحدة، وتكشف كيف أن الإنسان المعاصر صار يُقاس بمدى انتشاره لا بعمق وجوده.
وتمثل سينما الشهرة عدسة حادة تقرأ الإنسان المعاصر من خلال صورته، تقرأ قلقه من النسيان، وجوعه للاعتراف، وصراعه بين أن يكون وبين أن يُرى. تقول شخصية ريغان في فيلم "الرجل الطائر"، في لحظة انكسار تام: "لماذا لا أشعر بشيء رغم كل هذه الجماهير؟". وهذا السؤال هو لُبّ هذه السينما، فهي صرخة في وجه مجتمع يعتقد أن الشهرة دواء بينما هي في كثير من الأحيان مجرد قناع يغطي جروحا لا تندمل.
لا تمثل سينما الشهرة احتفالا بالبريق والأضواء والمظاهر؛ بل هي مساءلة جذرية لها. إنها سينما تنقب في الجانب المعتم من الضوء، وتسبر أغوار الذات الممزقة بين الرغبة في أن تُرى والخوف من أن تُمحى. وهي سينما تكشف عن الكلفة الوجودية للظهور، وعن الثمن النفسي والاجتماعي والإنساني الذي يدفعه من يختار أن يكون مرئيا على الدوام في عالم تحكمه الصور والسرعة والتفاعل الزائف. ولعل ما يجعل هذه السينما ضرورية هو كونها لا تقدم الشهرة كحلم بل كاختبار هوية واختبار إنسانيّة. وتحفر في المفارقة القاتلة أن يتحول الإنسان إلى صورة تسكنها الجماهير بينما هو نفسه يتآكل من الداخل. وهي سينما تسأل السؤال الصعب من نحن، عندما نُصبح مرئيين ومكشوفين أمام الجميع؟ هل نكسب أنفسنا أم نفقدها؟
ويتردد في النهاية صدى كلمات شخصية ريغان في فيلم "الرجل الطائر"، عندما يقول للجمهور من فوق المسرح: "ألا يحدث لكم أن تشعروا أحيانا بأنكم لا وجود لكم أبدا، لا أحد يراكم، ولا أحد يسمعكم، ولا أحد يلاحظكم وكأنكم شفّافون". وهذا الصوت هو في الأصل، هو صرخة كل أبطال هذه السينما الذين رغم حضورهم الكبير والطاغي في كل مكان لا يجدون أنفسهم في أي مكان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.